كتب: محمد حبوشة
كتب السيناريست الكبير الراحل (مصطفى محرم) قبل 7 سنوات في إطار سلسلة مقالاته بجريدة (الأهرام)، قائلا: (إن مادفعنى لكتابة هذه المقالات التى تتعلق بفن كتابة أعمال (الدراما) وتقديمها فى السينما والتليفزيون خاصة، هى العشوائية التى تغلب على هذا الفن والجهل الواضح من جانب من يقومون بتقديم هذه الأعمال).
وأضاف (محرم): قد كثرت الشكاوى والنفور والاستنكار والسخط من الجماهير العريضة التى تشاهد أعمال (الدراما) التلفزيونية، وكأن أصحابها يتعمدون الإساءة إلى هذه الجماهير التى يحدوها الأمل فى الاستمتاع بأعمال جيدة تنقلهم من حالة إلى حالة أفضل، وهو من أهم وظائف الفن.
تذكرت هذا المقال وأنا أتابع عدة مسلسلات خلال هذا الموسم على الشاشات العربية جميعها، ومنها (انترفيو، تيتا روز، برغم القانون) التي عرضت على (وواتش إت)، ولاحظت أنه على الرغم من حسن الأداء في بعضها إلا أنها تكتظ بالعيوب الفنية القاتلة، والتي تشير لانهيار صناعة الدراما المصرية حاليا في ظل ورق رديئ.
نعم غالبية (الدراما) التلفزيونية المصرية والعربية الحالية يجمعها عنصر الاستستهال والبعد عن الواقع الذي تحاوا أن تتماس معه (تعسفيا) لتخرج أسوأ مافيه من قيم إنسانية وضرب العلاقات الاجتماعية على جناح الخيانة والقسوة والعنف المبالغ فيه إلى حد الجنون.
وأضرب مثالا في هذا بمسلسل (برغم القانون المصري، وفعل ماضي الكويتي، وبيت العنكبوت السعودي) فيبدو لي من مشاهدة هذه الأعمال أن كتاب هذه المسلسلات مشوشون عقليا، ويفتقدون إلى خيال يستطيع أن يستوعب القضايا التي يطرحونها.
أغلب الظن أن الكتاب الحاليون على درجة كبيرة من عدم الوعي بأهمية (الدراما)، فتأكيدا لنبوءة أرسطو في كتاب الشعر: التي تقول: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، ومن ثم فإن أهم العناصر فى إبداع التراجيديا هو عنصر التطهير لما يضفى عليها من إنسانية وواقعية ونبل.
المبالغة والتفكك الأسري
وبحسب (مصطفى محرم): يقدم المبدع من خلال هذا العنصر معنى كبيرا للعمل الفنى، ولكن للأسف فإن ما نشاهده هذه الأيام من أعمال المفروض أنها درامية شخصيات أخشى أن أطلق عليها شخصيات، فهى هلاميات لا معنى لها، وتعتمد المبالغة في الفعل الدرامي إلى حد التقزز.
ولعلنا لاحظنا أن طابع هذه (الدراما) المبالغة والتفكك الأسري، والغلو فى العنف الذى لا حدود له، والذى يتسم بالشىء المغالى فيه ويتناقض مع المسببات والأفعال، وقد يلجأ صاحب العمل فى النهاية إلى التحول المفاجىء فى سلوك الشخصية أو الحدث نفسه دون تبرير مقنع أو وجود المقومات التى تساعد على هذا التحول.
وهذا بالطبع يفقد (الدراما) تأثيرها المرجو ويقع الجمهور فى دائرة الحيرة والاضطراب، وحتى في الأعمال التي تندرج تحت مسمى الكوميديا مثل (انترفيو، وتيتا روز) وأضيف إليهما مسلسل (لعبة حب، عمر أفندي، مطعم الحبايب) المعروضون على (شاهد).
وعلى الرغم من أن (عمر أفندي) جنح نحو الحنين للماضي (النوستالجيا)، فإن هذه (الدراما) جميعها تتسم بالسطحية والتفاهة والمباشرة في الإفيه الذي يبعث على الضحك الفاتر، ولايبعث على (الضحك النابع من القلب) الذي أشار إليه (فولستاف) ذلك الفيلسوف الضاحك الباكي، بل غالبا ما يعكس السذاجة والضحك على الجمهور.
(الدراما) الكوميدية بكل أشكالها المعروفة مرتبطة بغريزة بقاء الإنسان وحقه في الفرح، فستبقى ما بقي الإنسان ولن يتنازل أبدا عن حقه في البقاء وحقه في الفرح، بل سيواصل تحقيق انتصارات صغيرة أو كبيرة بالفعل أو بالكلمة ضد كل ما يتعرض له من ضغوط وقهر ليزيحها عن كاهله ولو قليلا ليشاركه أشباهه في كل مكان.
إن الضحك والنهاية السعيدة وحدهما لا يصنعان كوميديا جيدة، فالكوميديا شكل درامي يحمل كل ما أراده صناع الكوميديا من تقاليد الفن، لينطلقوا بعد ذلك في مغامرة جديدة لغزو عقل الإنسان وقلبه وقد تسلحوا بكل التقاليد والمعدات والحسابات التي تمكنهم من الانطلاق بفنهم إلى أبعد الحدود.
الكوميديا ياسادة: بانتصاراتها الجزئية تشكل في مجموعها انتصارا شاملا على النحو الممكن أن يتحقق به أي انتصار شامل في عصرنا، وهى أكثر قدرة على التقريب بين البشر كما قال (صمويل جونسون): (فقد اختلف الناس كثيرا في الطريقة التي يعبرون بها عن حكمتهم ولكنهم اتفقوا في الطريقة التي يضحكون بها).
رسالة الكوميديا العظيمة
تلك هى رسالة الكوميديا العظيمة السامية انطلاقا من المستوى البيولوجي ومرورا بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية صعودا حتى أعلى المستويات الجمالية والروحية للوجود الإنساني، وهو مالم نراه واضحا في أعمال (الدراما) الكوميديا التي عرضت ومازال بعضها يعرض في موسم الخريف الحالي.
وفي مجال الأكشن والإثارة في نفس الموسم، يأتي مسلسلي (مفترق طرق، والعميل) في إطار المسلسلات الطويلة التي تدخل في دائرة التطويل الملل، بأحداث مرتبكة، فضلا عن افتقاد المنطق والعبث بالقانون معتمدا على خيال واه يكمن في رأس كاتبه، الذي يجاوز حدود العقل وما يسمى بالحتمية الدراما التي تلزمه بأن يشطح على هواه.
عندما قام أرسطو بتعريف التراجيديا على أنها محاكاة لحدث فأنه اشترط أن يكون هذا الحدث فى شكل درامى لا قصصى نراه يدور أمامنا وذلك من أجل تطهير النفس عن طريق (الشفقة والحذف) تطهيرا كاملا، وليس على شاكلة (بيت العنكبوت) الذي ضرب عرض الحائط بكل تعاليم أرسطو في أصول التراجيديا.
(بيت العنكبوت) يمثل نوعا من الميلودراما التي (ارتبطت تاريخيا باستيراد الحداثة فيه)، ولا شك في أن التحديث الحاصل في مجتمعات الخليج، قد نقلها من زمن إلى آخر بسرعة شهد معها حدوث التناقض في مجتمعات كانت تقليدية في نمط حياتها وأسلوب معيشتها إلى مجتمعات تغمر – الشخصية الخليجية – تجاوزا لكثير من التصورات التي قد تصل إلى حدود المبالغة والإسراف الشديدين بدعوى التطهير.
وقد أبدى الدكتور (محمد مندور) أسفه عندما تعرض لموضوع التطهير في الدراما، فى كتابه (الأدب والنقد) لأن أرسطو لم يوضح سوء الحظ أو يقوم بتحليل مايقصده بكلمة التطهير والطريقة التى يحدث بها فى النفس البشرية.
وقد دفع عدم التوضيح هذا الشراح والمفسرين والمفكرين إلى إبداء آرائهم فى تفسير هذا المصطلح الدرامى، ورأى الدكتور (مندور) أن التفسير الراجح فى شرح هذه النظرية هو: (الذى يذهب إلى أن عملية التطهير تتم فى نفس المشاهد بطريق لا شعورى عندما يشعر بالفزع للمصير المحزن الذى ينتهى إليه بطل التراجيديا.
ثم يتعاطف معه لأنه لا يستحق مثل هذا المصير، وبفضل هذا الفزع وتلك الشفقة تتطهر نفسه لا شعوريا من نزعات الشر والعدوان، وهو ما تجسد واضحا جليا في مسلسلي (بيت العنكبوت، وفعل ماضي)، فقد جاءا ليخرجا أسوأ مافي النفس البشرية من تعقيدات تصل بنا إلى حافة الشر المطلق.
طغيان (الميلودراما) على الدراما
ربما يرى البعض أن كتاب أرسطو (فن الشعر) نفسه ما هو إلا دفاع عن الشعر ضد ما قاله أستاذه أفلاطون فى هجومه الضارى فى كتابه (الجمهورية) ضد الشعر، وقد وافق أرسطو أستاذه أفلاطون على أن الشعر محاكاة، وأن الشعر يثير العواطف، وأن الشعر يدخل السرور على الإنسان بكونه محاكاة وبكونه يثير العواطف من خلال تنوع طرق المحاكاة على عكس (الدراما) التلفزيونية الحالية.
ووافقه أيضا على أن إثارة العواطف عن طريق الشعر له تأثير على كل أفئدة المشاهد أو على المتلقى وعلى سلوكه العاطفى فى الحياة الحقيقية، تماما كما سجلت (الدراما) التلفزيونية التي تعرضنا لها سابقا في أعمال هذا الموسم المفعم بتراجيديا لا تخاصم الواقع فحسب، بل تعبر عن كتاب لا يدركون حقيقة الأعمال الدرامية التي تفيد.
وفي النهاية نخلص إلى أن (الميلودراما) طغت على غالبية أعمال الدراما العربية الاجتماعية الحالية على جناح (صيغة المبالغة والإسراف أو الإفراط)، ومحورها يدور في دراما العائلة وما يعتمل فيها من البكائيات والمؤامرات والنهايات المتعسرة غير السعيدة (الأقرب إلى ولادة قيصرية) والمصائر الفاشلة.
ومن هنا يبرز لدى سؤال مهم: ألا يشاهد صناع (الدراما) العرفية كافة ما تنتجه المنصات العالمية (نيفليكس، أبل، أمازون) وغيرها من أعمال احترافية تعالج حتى مظاهر الشر والعنف وتعكسه بشكل احترافي يبعث بالضرورة على متعة المشاهدة؟!، رغم خلافا على مضونها التي يخرج عن القيم العربية.