تجار الحرب والمحرقة الفلسطينية!
بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
أمام الجمعية الاتحادية، عبرت وزيرة الخارجية الألمانية (أنالينا بيربوك) وبكل صراحة عن موقف بلادها الداعم لـ (إسرائيل)، بقولها: (إن إسرائيل عليها استهداف المدنيين والمستشفيات والمدارس والتجمعات المدنية إذا كان ذلك حلا لبقائها.
فعندما يختبئ عناصر حماس بين الناس وخلف المدارس، فإن الأماكن المدنية تفقد وضع الحماية لأن الإرهابيين ينتهكونها)، معتبرة أن أمن إسرائيل جزء من مصلحة برلين بصرف النظر عمن يتولى السلطة في ألمانيا.
على النقيض من تلك الرؤية المقيتة التي حملتها تصريحات (بيربوك)، نددت (أيوني بيلارا) زعيمة حزب بوديموس، داخل البرلمان الإسباني، وبكل شجاعة ودون أدنى خوف بالجرائم الإسرائيلية، إذ شبهت مقتل الفلسطينيين النازحين حرقا في خيامهم بمستشفى شهداء الأقصى إثر قصف (إسرائيل) بغرف الغاز النازية.
في معرض انتقادها لجريمة استهداف الشاب (شعبان الدلو)، الذي استشهد بدم بارد في مشهد صادم وثقته كاميرات الحاضرين، وهو يحترق حياً حتى الموت أمام الملأ داخل خيمته في محيط مستشفى (شهداء الأقصى) في دير البلح بقطاع غزة، قالت متسائلة: (ما الفرق بين هذا (حرق النازحين الفلسطينيين) وغرف الغاز النازية؟ لا فرق).
بالطبع شتان بين المواقف، فالمسافة بين (أنالينا بيربوك) و(أيوني بيلارا)، كبعد المسافة بين الأرض والسماء، لكن يكفي للنائبة الإسبانية فخراً أنها اختارت الانحياز للإنسانية والمجاهرة على الملاء بحديثها هذا.
ذلك رغم إدراكها إنها ستكون هدفاً لـ (إسرائيل)، إذ سبق بالفعل توجيه الاتهام لها بمعادة السامية حينما استنكرت مطلع العدوان الحالي على غزة جرائم الإبادة الإسرائيلية.
هذا التباين في المواقف والرؤى يكشف معه عن مدى الفجوة وكم التناقضات داخل أوروبا بشأن العدوان على غزة وحيال الموقف من (إسرائيل).
تناقضات الغرب
المؤلم والمثير للأسى، هو أن داخل البلد الواحد تناقضات رهيبة بين الميل نحو الإنسانية والانحياز لها وبين الجنوح نحو تغليب المصالح السياسية والاقتصادية وإعلائها على أي اعتبارات أخرى مهما كانت تلك الاعتبارات حتى لو خالفت معها كل الأفكار والمبادئ التى نادى بها هؤلاء المزيفون.
ربما أدل مثلا على ذلك هو ما كشفه تقرير مركز (ديلاس لدراسات السلام) الصادر في أكتوبر 2024، تحت عنوان: (البنك المسلح ومسؤوليته المشتركة في الإبادة الجماعية في غزة: تمويل الشركات التي تصنع الأسلحة المستخدمة في المجازر ضد السكان الفلسطينيين).
وذلك عن حقيقة تمويل (بنوك إسبانية) لإنتاج الأسلحة المستخدمة من طرف (إسرائيل) في إبادة سكان غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وفضحه قيام عشرات الكيانات المالية في إسبانيا بمنح قروض أو استثمرت جزءا من أموالها في سبع شركات تزوّد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة.
التقرير أعده فريق من الباحثين ويستند إلى بيانات من معهد (ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام – SIPRI) ومصادر أخرى، ويحلل 3,606 معاملات مالية تتعلق بشركات تصنيع الأسلحة والبنوك الممولة لها، ويحدد 12 مؤسسة مالية إسبانية، منها (سانتاندير) وBBVA، كممولين رئيسيين لهذه الشركات المصنعة للأسلحة.
البيانات الواردة فى التقرير فى غاية الدقة، فبحسب معدو التقرير جرى الحصول عليها من خلال التعاون مع جهات مختصة بجمع وتحليل البيانات المالية مثل شركة Profundo، واستخدام قواعد بيانات مالية مثل Bloomberg وRefinitiv Eikon ، وقد تم تحديث البيانات في أغسطس 2023، ويونيو 2024.
علاقة غير أخلاقية
سلط التقرير الضوء على العلاقة غير الأخلاقية بين البنوك وشركات الأسلحة، مشددًا على مسؤولية المؤسسات المالية في (الجرائم المنهجية ضد الإنسانية) التي ترتكبها إسرائيل في غزة، والتي يصنّفها الخبراء ومحكمة العدل الدولية (كإبادة جماعية).
كما تضمن محاور توثق صادرات الأسلحة لإسرائيل خلال العقد الماضي، مع استعراض دور المؤسسات المالية، لا سيما البنوك الإسبانية وبعض البنوك الدولية، في تمويل شركات تصنيع الأسلحة وتأثير ذلك على غزة فيما يتعلق بالخسائر البشرية والمادية المرعبة هناك.
كما بحث في الآثار القانونية والأخلاقية لهذه السياسات المالية، وحثّ البنوك على وقف العمليات المرتبطة بجرائم الحرب وجرائم الإبادة.
التقرير الذى جرى بتمويل من مجلس مدينة برشلونة، والمؤلف من 54 صفحة تضمن كذلك جداول تفصيلية توضح مدى تورط العديد من الدول والبنوك الدولية في تسليح (إسرائيل) وتمويل عملياتها العسكرية التي أثرت على المدنيين في (غزة ولبنان).
فعلى سبيل المثال، يعرض أحد الجداول صادرات الأسلحة إلى (إسرائيل) خلال السنوات العشر الماضية (2014-2023)، بشكل يكشف حجمها ونوعياتها ومقدار التورط الدولي في هذا السياق.
بنوك الحرب
وهناك جدول ثانٍ يسرد أمثلة على استخدام تلك الأسلحة في الهجمات الإسرائيلية على غزة، ويحدد الشركات المصنعة لها، والبنوك التي قامت بتمويل هذه الشركات، مما يظهر الدور الحيوي الذي تلعبه هذه المؤسسات في دعم النزاعات المسلحة.
وجدول آخر يُصنف أعلى 100 بنك دولي تورطت في المشاركة في تمويل تسليح هذا النزاع، مما يساعد في فهم الأبعاد المالية المتشابكة التي تساهم في زيادة جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة.
كما يقدم التقرير نظرة شاملة حول مفهوم (البنك المسلح)، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المؤسسات المالية والبنوك التي تمول الشركات المصنّعة للأسلحة المستخدمة في النزاعات المسلحة.
ويستعرض كذلك تاريخ هذا التمويل منذ عام 2008، موضحًا كيف أن البنوك ليست مجرد وسطاء ماليين، بل تشارك بشكل غير مباشر في (تأجيج الحروب) من خلال دعم الصناعات العسكرية.
يشير التقرير إلى أن هذا النوع من التمويل، على الرغم من قانونيته في معظم الدول، يواجه انتقادات متزايدة من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الدولية؛ بسبب دوره في استمرار (النزاعات العنيفة).
وبحسب التقرير، تُعتبر (الولايات المتحدة) المزود الرئيسي للأسلحة لإسرائيل، حيث تشمل صادراتها طائرات (إف 16) و(إف 35) وصواريخ دقيقة مثل (جي بي يو- 39)، التي تُستخدم في الهجمات الجوية على المناطق السكنية في غزة.
كما تلعب دول أخرى مثل ألمانيا، وإيطاليا أيضًا دورًا مهمًا في تزويد (إسرائيل) بمركبات مدرعة وأنظمة دفاعية وطائرات حربية، مما يساهم في ارتفاع عدد الضحايا المدنيين؛ نتيجة استخدام هذه الأسلحة في الهجمات على المناطق المدنية.
لم يقف التقرير عند هذا الحد، بل واصل تسليط الضوء على تأثير الأسلحة المصدرة على المدنيين في غزة، مشيرًا إلى استخدامها في الهجمات الجوية التي تستهدف المدارس والمستشفيات والمناطق السكنية.
ويُقدم أمثلة تفصيلية على استخدام الطائرات الحربية من طراز (إف 35) وصواريخ (جي بي يو39)، التي تُصيب المدنيين في الغالب رغم الادعاء باستهداف أهداف عسكرية.
ومن أبرز الأمثلة الموثقة فى التقرير، الهجوم على (حي الشجاعية) في غزة، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 70 مدنيًا، وتدمير عشرات المنازل، كما يُشير التقرير إلى أن الهجمات الجوية ليست الوسيلة الوحيدة لاستخدام الأسلحة الممولة من البنوك، حيث يتم أيضًا استخدام مدافع M109 Howitzer الممولة من (بنك سانتاندير) في تدمير البنية التحتية الحيوية.
التمويل المقدم من البنوك الدولية
وفي أحد أقسام التقرير، ركز على التمويل المقدم من البنوك الدولية لشركات تصنيع الأسلحة المستخدمة في الحرب ويُظهر تورط بنكي ( (BBVAو(سانتاندير) الإسبانيين في تمويل شركات مثل (بوينج) و(رايثيون) و(رينيه ميتال)، التي تنتج الطائرات الحربية والمدافع الثقيلة المستخدمة في الهجمات على غزة.
كما يشير إلى أن بنك ( (BBVAقدّم تمويلًا يزيد عن 1.3 مليار دولار لشركة (بوينج)، بينما قدم (بنك سانتاندير) تمويلًا بقيمة 933 مليون دولار للشركة ذاتها، مما ساهم في تطوير طائرات (إف -15) و(إف -35) التي استخدمت في العمليات العسكرية الإسرائيلية.
كما وثق التقرير وبدقة صادرات الأسلحة الرئيسية إلى (إسرائيل) خلال العقد الماضي، باستخدام بيانات من معهد (ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام – (SIPRI، ومصادر أخرى، ويحدد 15 شركة رئيسية لتصنيع الأسلحة تزود إسرائيل، بما في ذلك (بوينج)، (جنرال دايناميكس)، و(لوكهيد مارتن).
كما مولت بنوك إسبانية أخرى مثل (كايكسا) و(سانتاندير) شركات تصدر قنابل (جي بي يو) المستخدمة من قبل الجيش الإسرائيلي، مما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين.
الأكثر من هذا، ما كشفه التقرير عن أن عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة، بما في ذلك استخدام هذه الأسلحة، أدت إلى تدمير واسع النطاق وخسائر في صفوف المدنيين، حيث أطلق حوالي 70,000 طن من المتفجرات، مما تسبب في استشهاد وجرح أكثر من 150,000 فلسطيني.
فضلًا عن أضرار واسعة النطاق للبنية التحتية، بما في ذلك الجامعات والمستشفيات والأراضي الزراعية، كذلك أدت عمليات الاحتلال العسكرية إلى نزوح 90% من سكان غزة مرة واحدة على الأقل.
تجار الحرب
عن دوافع البنوك الإسبانية لعقد هذه الصفقات القاتلة، يتحدث التقرير عن سعى تلك البنوك لتسهيل العمليات المالية لشركات تصنيع الأسلحة، والتي قد تساهم في جرائم حرب وجرائم إبادة مؤكدة، لعدة دوافع منها تحقيق الربح المالي في المقام الأول، حيث تحقق هذه المؤسسات أرباحًا ضخمة عبر تقديم قروض وشراء الأسهم في شركات الأسلحة، ما يعزز عوائدها المالية.
كذلك، ناتجة عن شبكة العلاقات التجارية والاستثمارية التي تسهم في تعزيز مكانة البنوك في الأسواق وتوسيع فرصها الاستثمارية، كما أن نقص الشفافية وغياب المساءلة القانونية يوفران بيئة تسمح للبنوك بمواصلة تمويل هذه الشركات دون مواجهة تداعيات قانونية أو أخلاقية تُذكر.
وفوق كل ذلك، فإن التعاون العسكري والاستراتيجي بين (إسرائيل) وكثير من الدول الغربية، مثلما هو الحال بين الولايات المتحدة وإسرائيل، يسهم في تعزيز دور البنوك في تمويل شركات الأسلحة هذه.
سياسات استثمارية أخلاقية
يقترح تقرير مركز (ديلاس لدراسات السلام) مجموعة من التوصيات للحد من تأثير التمويل المصرفي في دعم حرب الإبادة في غزة، وتتضمن (فرض حظر) على تمويل الشركات المصنعة للأسلحة المستخدمة، كما يدعو إلى (فتح تحقيقات دولية) لفرض عقوبات على (البنوك المتورطة) في تمويل هذه الشركات، بما في ذلك فرض غرامات مالية وقيود على أنشطتها.
علاوة على ذلك، يُشجع التقرير المؤسسات المالية على تبني (سياسات استثمارية أخلاقية) تركز على تمويل الصناعات المستدامة التي تسهم في التنمية البشرية والسلام.
بطبيعة الحال وكما درجت العادة، تواجه توصيات التقرير، عدة تحديات مرتبطة (بالجشع المالي) و(المصالح السياسية) للدول على حساب القيم والأخلاق وحقوق الإنسان. إذ يتطلب تطبيق هذه السياسات إرادة سياسية قوية وتعاونًا دوليًا.
وقد يُواجه بمقاومة من قبل البنوك التي تعتقد أن هذه الإجراءات قد تُؤثر سلبًا على أرباحها، كما أن تحقيق الشفافية المطلوبة في الأنشطة المالية يُعدّ تحديًا كبيرًا، خاصة في ظل وجود فجوات قانونية تتيح استمرارية تمويل الصناعات العسكرية دون رقابة، وللحديث بقية.
لمطالعة التقرير: