بقلم الكاتبة والناقدة الدكتورة: عزة هيكل
عندما قال الشاعر الإنجليزى (إليوت): (إبريل أقسى الأشهر يخرج زهرة الليلك من الأرض الميتة) في مطلع قصيدته الشهيرة الأرض الخراب كان يسخر من الحياة ومن الطبيعة ومن الحضارة التي تتغنى دوما بالحياة وتفتح الأزهار وشروق الشمس.
فكانت هذه القصيدة وتلك العبارة التى تقلب ناموس العادات والمعتقدات والمناخ والطبيعة، ونحن في بلادنا نتغنى أيضاً بالربيع ونحزن مع بدايات الخريف ونسائم شهر (أكتوبر) الذي يعلن عن نهاية فصل الأجازة والراحة واللهو واللعب وليالي السهر على البحر وتحت ضوء القمر في ليالي مصر الزاهرة الصاخبة.
تلك التي لا نعرف النوم وتختفي بالليل أكثر منها بالنهار فلا ننسي رباعيات شاعر العامية صلاح جاهين وهو يقول: (دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا لكن حاجات أكتر ترفض تموت).
وفى أحد أيام خريف مصر المحروسة إذا بيوم فارق في تاريخنا الحديث يوم 6 أكتوبر 1973 يوم العبور المجيد والنصر العظيم قد أتى ليعلن عن أن الخريف هو أجمل فصول العام.
وأن (أكتوبر) هو أروع شهور السنة وأن الطبيعة لا يجب أن تحزن أو تصاب بالاكتئاب وتخاف خريف الحياة وخريف العمر ونهايات الأشياء، وأنما ها هو شهر (أكتوبر) قد أعاد الحياة إلى أمة بأسرها وغير التاريخ ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط وحرر الأرض وعمر المدن في بورسعيد والسويس والإسماعيلية.
وسارت السفن رافعة الأعلام في المياه المصرية الإقليمية في معبر العزة والكرامة قناة السويس، ورفعنا العلم على أرض الفيروز مخصبة بدماء الجنود المصريين، في الثانية ظهراً.
عند عودتي من المدرسة أدخل غرفتي وأضع حقيبة المدرسة وأفتح الراديو لأستمع لأغنية (سعاد حسني) يا واد يا تقيل وأتمايل على الأنغام وأسرح مع الكلمات التي تدغدغ مشاعر فتاة في بدايات المراهقة.
تدق موسيقى الأخبار
وفجأة ينقطع هدير الأغنية وتدق موسيقى الأخبار وينطلق صوت المذيع ليقول (عبارته الخالدة): (عبرت قواتنا المسلحة خط القناة ودمرت خط بارليف على طول الخطوط ومازالت قواتنا المسلحة تشتبك مع العدو).
وهنا صرخت من الفرحة وبحثت على إخوتي الصغار، ولم تكن أمي قد عادت من المدرسة وكذلك أبي لم يعد من الكلية.. ورن جرس الهاتف فكانت جدتي تتسأل في لهفة وخوف عن الأخبار لأن خالي الأصغر كان على الجبهة.
وجاءت ابنة عمي تبكي فأخوتها الإثنان على خط النار، وكذلك خطيبها وحين عاد أبي اتصل بعمتي ملهوفاً على ابنها الذي هو أيضاً في خضم المعركة.
أسرتي الصغيرة بها خمسة ضباط وجنود ما بين الحياة والموت ما بالكم بكل بيوت مصر المحروسة، وكلها متعلقة بالمذياع والتلفاز تنتظر سماع الأخبار وقلوبها مع عدة التليفون وخوفها من رنين الجرس الذي قد يحمل خبراً مفجعاً أو مكالمة حزينة.
يومها كان الإفطار على مائدة رمضان إفطاراً بسيطاً قليلاً، لأننا كنا جميعاً جنوداً على خط النار وفي قلب المعركة الفاصلة ولم ننم ليلتها وسهرنا حتى الفجر.
ومع هذا في اليوم الثاني ذهبنا إلى المدرسة، وهناك لم يكن العمال المختصين بالنظافة متواجدين فقد ذهبوا إلى الجبهة وكان علينا أن ننظف فصولنا وفنا المدرسة بالتناوب على مدار أيام الدراسة.
وعشنا أياماً عصيبة نترقب كل لحظة خبراً أو مكالمة تطمأننا على أهلنا على الجبهة، وجاءت الفرحة مع وقف النار فإذا بنا نجد حصار جزء من مدينة السويس فى الدفرسوار وانقطاع أخبار ابن عمي الأصغر ومعركة المزرعة الصينية التى حسمت الموقف.
ويوم 14 أكتوبر كان خطاب الرئيس أنور السادات أمام مجلس الشعب ومع بشائر عيد الفطر بدأت عودة الجنود من على الجبهة لنكتشف أن ابن عمي كان محاصراً وإنه عاش أياماً يخشى الأسر وليس الموت والشهادة.
ولكنه عاد ومعه خالى وابن عمى وعمتى وخطيب بنت عمى سالمين غانمين يحكون قصصاً عن المعركة والنصر والعبور، وعن العزيمة وعن القوة وعن الأسرى الصهاينة وعن أصدقائهم وزملائهم الذين أستشهدوا على أرض سيناء أو فوق رمال القناة.
أصبح الضابط هو نجم المجتمع
كنا ونحن صغيرات نتمنى رؤية أي شاب مرتدياً البدلة العسكرية ونحلم بهذا الفارس الذي أعاد لنا العزة والكرامة وحمى الشرف والعرض وأصبح الضابط هو نجم المجتمع ومصدر الفخار لكل المصريين.
أغاني (حلوة بلادي السمرة/ بلادي الحرة، وبسم الله الله أكبر باسم الله، وعدينا وأيد المولى سعدتنا)، كلها أغاني أجمل وأحلى من (يا واد يا تقيل)، و(رسالة من تحت الماء)، فهى تلك الألحان والكلمات التى ما أن تنطلق فى دندنات وترنيمات تتسلل إلى وجداننا وتعبر السنين والأيام وتعيدنا إلى تلك اللحظات.
وهاتى الأمجاد لنسترجع كل اللحظات ونغوص فى فيض المشاعر من لحظة العبور واستعادة الكرامة بعدما كسرتنا هزيمة 67، إلى خطاب السادات وموكب النصر وافتتاح القناة وعودة أهالى مدن القناة ورجوع الأحبة والأخوة من الجنود.
أكتوبر ليس بداية شهر الخريف ونهايات الحلم، وإنما هو شهر مصر العظيم لأنه شهر النصر وعودة الحياة إلى شريان كل المصريين.