بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف
قبل ما يقرب من 24 عاما اخترت عنوانا أثار الجدل لحوار أجراه أحد الزملاء المصريين في جريدة الاتحاد الاماراتية مع وزير الإعلام المصري وقتها، الراحل (صفوت الشريف)، في ذلك الوقت وضعت عنوانا للحوار يلخص ما قاله الوزير ضمنا وليس نصا وكان العنوان هو (إعلامنا صوته عالي).
أثار العنوان الجدل بين قلة من المهنيين الغيورين على سمعة الإعلام المصري رأوا فيه تعبيرا عن الحالة التي بلغها آنذاك وهى أن (إعلامنا) صاحب الصوت العالي الأجوف يبدو دون مضمون يتناسب مع ذلك الصوت، وبين كثرة من المطبلين والمزايدين استنكرت أن يصدر العنوان من صحفي مصري.
الحقيقة انني لو قدر لي اختيار عنوان لحال (إعلامنا) المصري في الوقت الحالي، لكانت المهمة أصعب بكثير وأكثر اثارة للجدل من ذلك العنوان القديم، ذلك أن الإعلام المصري خلال تلك السنوات قطع مسافة طويلة جدا ولكن للخلف وليس للأمام مع الأسف.
(إعلام السيكو سيكو)
العنوان المناسب لوضع (إعلامنا) الحالي ربما يكون (إعلام السيكو سيكو)، وهو تعبير اسمعه ولا أعرف معناه، وإن كنت أخمن أنه ليس ايجابيا على أي حال، أو يمكن اختيار عنوان آخر يقول (إعلامنا لا تجوز عليه سوى الرحمة)، بعدما فقد تأثيره لأن إعلام بلا تأثير في المتلقين يكون في عداد الأموات.
إعلام (السيكو سيكو) لأنه أصبح مرتعا للفوضى، ليس فقط في العناوين التي يتناولها، ولا في طريقة التناول ذاتها، ولكن أيضا في نوعية الأشخاص الذين يتصدرون المشهد الإعلامي الحالي، وكلهم إلا من رحم ربك تكاد علامات التعجب والاستفهام تغرقهم.
المؤسف أن الانحدار لم يتوقف عند تصدر غير المؤهلين وأصحاب الحظوة والرضا والمعارف المهمة للمشهد فقط، ولكن في إعجاب هؤلاء المستفزون بانفسهم، خصوصا لدورهم في تدشين ما بات يعرف بإعلام الترند.
ووفقا لاحكام الترند يقوم هؤلاء بكل ما يلزم لجذب اهتمام رواد السوشيال ميديا، فلا مانع من الكذب والتدليس والشخصنة والافتراء على الغير، وتلفيق الأخبار والأحداث طالما أن ما يفعلونه مهما بلغت درجة قبحه يمكنهم من بلوغ الغاية السامية وهى تصدر الترند.
لكن المصيبة التي لا ينتبه إليها القائمون على (إعلامنا) أن (ركاب الترند) هؤلاء يدشنون سلوكيات ولغة جديدة في المجتمع، كفيلة بالقضاء على ما تبقى من قيم أخلاقية ومثل عليا خصوصا بالنسبة للأجيال الجديدة، التي تتلقى معلوماتها وسلوكياتها من وسائل الإعلام في غيبة الأبوين المشغولين بتأمين لقمة العيش.
في نفس الوقت الذي يحتدم فيه الصراع على ركوب الترند يختفي تقريبا تأثير الإعلام على الناس، بعدما فقد النسبة الأكبر من مصداقيته واحترامه للناس ولنفسه.
ألاحظ في الفترة الأخيرة خلال مروري العابر على مواقع التواصل الاجتماعي، أن معظم الأخبار التي يتم تداولها في تلك المواقع نقلا عن وسائل الإعلام الرسمية – وهى قليلة بالمناسبة – يكون الهدف من ذلك هو السخرية منها ومن ضعف مصداقيتها، أو عدم احترامها لعقول المتلقين، وليس للإعجاب بها.
الأمر الذي يعرفه أي طالب في السنة الأولى بأي كلية إعلام أن (إعلامنا) يفقد تأثيره على المتلقين إذا غابت عنه المهنية وافتقد المصداقية، وهى نتيجة مؤسفة في حد ذاتها لأن استعادة ثقة المتلقين تحتاج لإصلاح مستمر على مدى سنوات طويلة وقد تعود الثقة أو لا تعود.
هناك حكمة أخرى تقول (أن الصدق منجاة)، كما أن الفيلسوف الإسباني الراحل (خورخي سانتيانا) لديه حكمة أخرى تقول أن (هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته).
لا نتعلم من تجارب الماضي
ويبدو أن هذا هو حالنا المستمر في مصر للأسف، فنحن لا نتعلم أبدا من تجارب الماضي خصوصا في مجال الإعلام، ونصر على تكرار نفس الأخطاء دون الانتباه إلى أنها ستقودنا الى نفس النتائج السلبية.
لعلنا لم ننس بعد كيف تحول (إعلامنا) المصري إلى أضحوكة العالم في 67، بعدما أصر القائمون عليه على تمرير بيانات حربية (خيالية) يذيعها (أحمد سعيد) ليزف إلى الجماهير العربية من خلالها انتصاراتنا الوهمية، بينما الحقيقة كانت أكثر بكثير من دامية.
وبعد 57 عاما من تلك الفضيحة لا يبدو أننا تعلمنا الدرس أو لا يريد القائمون على الإعلام المصري تعلمه، وربما لا يستطيعون ذلك بحكم افتقادهم لأساسيات العمل الإعلامي.
وحتى يحدث المستحيل ويتم إسناد أمر الإعلام لأهله من أصحاب الكفاءات والخبرات الإعلامية المشهود لها عربيا وعالميا، سيظل المتلقي المصري يبحث عن أخبار بلده الحقيقية في وسائل إعلام خارجية سواء كانت محايدة أو موجهة، وتبقى علاقته بما يبثه إعلامه المحلي محصورة في أنه مصدر للضحك والسخرية لا أكثر.