بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
الحقيقة التى لا خلاف عليها: إنه بدعم أمريكي مُطلق ترتكب (إسرائيل) منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية بقطاع غزة خلفت أكثر من 139 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، وآلاف المفقودين، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة مئات الأطفال، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
وتواصل تل أبيب الإبادة، متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فوراً، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال (الإبادة الجماعية) وتحسين الوضع الإنساني المُزرى في غزة.
المثير للسخرية هو ما تحاول بعض وسائل الإعلام الأمريكية، الترويج له منذ بداية عدوان (إسرائيل) على غزة، وتعيد تكراره الآن مع العدوان على لبنان من خلال إدعاءت كاذبة مفادها أن ثمة خلافات وتباين فى الرؤى بل وتباعد فى المواقف بين تل أبيب وواشنطن بشأن الحرب واستمرارها تارة وجدواها وسلوك الجيش الإسرائيلي تارة أخرى.
مسارات متباعدة
كتيبة الترويج لتلك الخرافات سواء فى تل أبيب أو واشنطن، لا تألو جهدا فى بث أكاذيبها، أملا منها فى رسم صورة مغالطة عن الدعم الأمريكى الذى لولا وجوده ما كان لـ (إسرائيل) أن تستمر فى عدوانها بتلك الوتيرة المتسارعة حتى الآن فى غزة وبيروت دون رادع.
أحدهم (مايك إيفانز) الكاتب في الشؤون الدفاعية، بمجلة (سبكتيتور) الأمريكية، الذى عبر عن هذا الاتجاه الفج بقوله: إن (نتانياهو) سلك مساراً لا يحتمل أي انحراف، فهو يريد النصر ضد حماس وضد حزب الله، وفي نهاية المطاف ضد إيران.
وعلى مدار العام الذي انقضى، لعب (نتانياهو) اللعبة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة: استقبل زيارات مستمرة لمسؤولين أمريكيين، واستمع إلى مناشدات (بايدن) من أجل عمل عسكري محدود وحماية المدنيين، وأحدث ضجيجاً مشجعاً بشأن وقف إطلاق النار.
وكتب: أنه بالرغم من كل ذلك، ركز (نتانياهو) طوال الوقت وبشكل لا هوادة فيه على أهدافه الرئيسية، ثم توسيعها، فهو يريد الانتقام من أحداث السابع من أكتوبر، وتوليد بيئة أمنية جديدة يتم فيها تدمير أعداء إسرائيل أو إلحاق الضرر بهم إلى حد لا يمكن إصلاحه.
ومع تواصل الحرب مع حماس ثم مع حزب الله بقوة، على الرغم من المناشدات من واشنطن لتجنب التصعيد، أصبح (نتانياهو) أكثر ثقة بأفعاله وأقواله. وقال إنه لا يمكن التراجع عن ذلك. والآن هو الوقت المناسب لضرب كل أعداء إسرائيل.
علاقة مفككة
من ثم زاد على ذلك بقوله في محادثات مليئة بالشتائم مع (نتانياهو)، وفق أحدث ما كشف عنه الصحفي (بوب وودوارد)، اتهم (بايدن) رئيس وزراء (إسرائيل) بعدم امتلاكه استراتيجية، لكنه مخطئ، امتلك (نتانياهو) ولا يزال يمتلك استراتيجية، لكن كل ما في الأمر أن الرئيس الأمريكي لا يحبها.
يريد (بايدن) وقف إطلاق نار دائماً، وشرق أوسط مستقراً، ودولة مستقلة مستقبلية للشعب الفلسطيني، وأضاف: (أن الأهداف التي ترعاها واشنطن، وتلك التي تنفذها تل أبيب، متباعدة للغاية إلى درجة أن العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل أصبحت (مفككة تماماً).
في حين يظل الالتزام الأمريكي تجاه (إسرائيل) التزاما (حديدياً)، فإن العلاقة بين (بايدن) و(نتانياهو) في (أدنى مستوياتها).
ومضى بقوله: إن كتاب (الحرب) للكاتب (وود وارد)، والذي سيُنشر قريباً، يقتبس عن مصادر تَذكّرها تعليقاً خاصاً أدلى به (بايدن) في إحدى المناسبات عن الزعيم الإسرائيلي بأنه (رجل سيئ للغاية)، كما يفترض أنه قال: هذا يلخص إلى حد كبير إحباط (بايدن) الكامل من (نتانياهو).
مستطرداً فى وصلته الهزلية بقوله: لو كان الأمر مجرد سوء مزاج مؤقت للرئيس الأمريكي، فما كان ذلك ليهم كثيراً، كان (نتانياهو) في السلطة لفترة طويلة، وقيلت عنه أشياء أسوأ، لكن هناك أمر أكثر أهمية على المحك.
لقد فقدت واشنطن الثقة (بنتانياهو)، وهذا يترك تأثيراً، تحتاج (إسرائيل) إلى الولايات المتحدة ربما أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك ذهب (نتانياهو) على نحو متزايد في طريقه الخاص بدون أن يخبر حلفاءه الأمريكيين بما يخطط للقيام به تالياً، لقد فوجئت واشنطن في مناسبات عدة بذلك.
وقال: (لم يتم منح أمريكا أي إشعار يذكر بشأن الغارة الجوية على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق والتي قتلت 7 من ضباط الحرس الثوري، ولم يخطر أحد في تل أبيب واشنطن بأن (الموساد) كان على وشك اغتنام الفرصة لاغتيال (هنية) الذي تم تصويره في طهران بمناسبة تنصيب الرئيس الإيراني الجديد في يوليو.
كما ظلت واشنطن غير مطلعة بشكل مسبق على اغتيال (نصرالله)، وزاد على ذلك: لا بد من أن (نتانياهو) كان يعلم أنه إذا أبلغ (بايدن) بوقوع أي من هذه الهجمات قبل ساعات قليلة، فسيوبخه الرئيس الأمريكي ويطلب منه التوقف عن إطلاق النار أو على الأقل تأجيل العمليات.
ومحاولا نسج صورة خيالية قال: عندما تنهار الثقة بين حليفين مهمين، لا يمكن أن يكون الفائزون سوى خصوم (إسرائيل) لقد جاءت الولايات المتحدة لمساعدة إسرائيل، كما فعلت بريطانيا وشركاء أوروبيون آخرون، من خلال الدفاع عنها ضد هجوم كارثي محتمل.
الوجه الآخر لواشنطن
عندما أطلقت إيران 300 صاروخ باليستي وصواريخ كروز وطائرات دون طيار على (إسرائيل) في أبريل، كانت بحرية الولايات المتحدة وغيرها من القوات البحرية المسلحة بأنظمة مضادة للصواريخ موجودة هناك لتؤدي دورها في إسقاطها.
والآن يضع (نتانياهو) خططاً للرد على إيران في أعقاب الإطلاق الثاني لما يقرب من 200 صاروخ على إسرائيل في الأول من أكتوبر، لكن مرة أخرى تحتفظ تل أبيب برأيها وهى غير راغبة بالكشف لواشنطن تحديداً عما يدور في ذهنها.
أوضح (بايدن) وجهات نظره: هو يقبل أن الانتقام مبرر، لكنه يعارض توجيه ضربة من جانب (إسرائيل) إلى محطات الطاقة النووية أو المنشآت النفطية الإيرانية خوفاً من العواقب.
يضيف (إيفانز): أن الأمر يبدو وكأن (نتانياهو) وإدارة (بايدن) يسيران على خطوط متوازية لا تلتقي أبداً وتتجه إلى وجهات مختلفة، يريد (نتانياهو) النصر بأي ثمن، يريد (بايدن) ونائبته (كامالا هاريس) قبل كل شيء وقف إطلاق النار (ووضع حد للموت والدمار المتصاعد).
ومن ثم خلص فى حديثه بقوله: ربما كان (بايدن) محقاً عندما تساءل عما إذا كان (نتانياهو) يقيد أي احتمال لحل دبلوماسي بسبب احتمال فوز (ترامب)، قال (ترامب) مراراً إنه يجب السماح لإسرائيل بإنهاء المهمة التي بدأتها بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر.
وبالرغم من انهيار الثقة بين واشنطن وتل أبيب، لا يزال (نتانياهو) يعرف جيداً أنه إذا ردت إيران على ضربة إسرائيلية انتقاماً من هجوم طهران الصاروخي الباليستي في الأول من أكتوبر فستكون البحرية الأمريكية مستعدة للمساعدة في إسقاط أي صاروخ تطلقه طهران على إسرائيل، هذا النوع من الثقة حديدي؟
لكن على النقيض من تلك الأكاذيب والادعاءات، هناك داخل الإعلام الأمريكى كذلك من يرى أن الحقيقة والواقع هى بخلاف ذلك، ويعلم علم اليقين أن التماهى الذى تبديه واشنطن وإدارة (بايدن) الديموقراطية مع السلوك الإجرامي لـ (إسرائيل) غير مسبوق.
الناشطة في مجال مكافحة انتشار السلاح الأسلحة والباحثة في مركز السياسة الدولية الأمريكي، (جانيت أبوإلياس)، وفى معرض حديثها عن مخاوف تصعيد الصراع بين (إسرائيل) ولبنان، والكارثة الإنسانية المحتملة، وعدم الاستقرار الإقليمي، الذي قد يتبعه غزو بري طويل الأمد.
قالت: (إن الصراع لا يهدد فقط بتفاقم هشاشة لبنان الداخلية بل يؤدي أيضاً إلى إشعال حرب أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، والتي قد تجتذب إيران والولايات المتحدة وغيرهما من الجهات الفاعلة الإقليمية، وكلما طال أمد التصعيد دون رادع، زادت فرصة اندلاع صراع كارثي يتورط فيه المزيد من الدول).
وقالت: (إن الكونجرس يتحمل مسؤولية التصرف من خلال وقف تدفق الأسلحة التي قد تؤدي إلى تصعيد العنف) داعية إلى مساءلة الأطراف المتورطة في العنف، وإلا ستستمر دورة الصراع في المنطقة).
وأضافت: (إن الإجراءات العسكرية الإسرائيلية، بدعم من الولايات المتحدة، تخاطر بتعميق عدم الاستقرار في المنطقة، مع إمكانية نشوب صراع أوسع نطاقاً يشمل إيران والولايات المتحدة، مما سيؤدي إلى عواقب مدمرة على لبنان والشرق الأوسط الأوسع).
لا شيء يبرر القتلى المدنيين
الرأي السابق، يدعمه ويعززه حديث (بيري بيكون)، كاتب الرأي في صحيفة (واشنطن بوست)، بقوله: إن أجهزة الإعلام تصوّر سياسات إدارة الرئيس (بايدن) تجاه الشرق الأوسط على أنها (حسنة النية)، (لكنها غير فعّالة).
مشيرا إلى أن مساعدي الرئيس يقولون إن (بايدن) وفريقه يضغطون (بشدة) من أجل التوصل إلى حل ينهي العنف، ويُقال أيضا إن (بايدن) ينتقد (نتنياهو) ويوبخه عندما يتحدث الاثنان على انفراد، لكنه لا يستطيع إقناعه باستراتيجية تقلل من سقوط ضحايا فلسطينيين.
ويضيف: إن قناعته تزداد – بعد مرور عام على الصراع الذي تتسع رقعته إلى ما وراء قطاع غزة – بأن إدارة (بايدن) تتفق إلى حد كبير مع استراتيجية (نتنياهو)، رغم أنها تلمح أحيانا إلى خلاف ذلك، فسياسات (نتنياهو)، من نواحٍ عديدة، هي نفسها سياسات الولايات المتحدة، والاعتراف بذلك هو الخطوة الأولى – برأي (بيكون) – لتغييرها.
ووفق حديثه: فإن أمريكا ليست القوة المطلقة في العالم، ومن الصعب تصديق فكرة أنها لا تملك تأثيرا كبيرا على حليف مقرب تقدم له أسلحة بمليارات الدولارات، ففي النهاية، غالبا ما تخضع الحكومات الأجنبية لإرادة واشنطن، وتابع قائلا: (إن رد الولايات المتحدة غالبا ما يكون (عدوانيا جدا) عندما لا تحصل على ما تريد).
على النقيض من ذلك – لم تتخذ الإدارة الأمريكية سوى القليل من الإجراءات لكبح جماح (إسرائيل)، مثل ربط المساعدات العسكرية بتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
مؤكدا على أن (بايدن) وكبار مساعديه بذلوا جهدا عظيما لتجاهل أو التقليل من شأن التحركات الإسرائيلية التي انتقدتها بشدة جماعات حقوق الإنسان والدول الأخرى وحتى المسؤولين المهنيين داخل الإدارة الأمريكية.
وتشمل تلك التحركات منع (إسرائيل) وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين، وقتلها (إسماعيل هنية)، وتفجيرها أجهزة النداء الآلي التي يستخدمها (حزب الله) اللبناني، وقال (بيكون) شجّع الدعم الأمريكي غير المشروط الإسرائيليين على اتخاذ إجراءات (عدوانية مفرطة).
لجم إسرائيل
يتساءل (بيكون) عن السبب الذي يمنع واشنطن من لجم (إسرائيل) فعليا، ويجيب هو نفسه (بأنها لا تريد ذلك حقا.. وأردف أن تعليقات (بايدن) العلنية وتصريحات مسؤولي الإدارة الأمريكية الآخرين تتفق بشكل عام مع وجهة نظر (نتنياهو) حول الشرق الأوسط.
ويصور القادة في تل أبيب وواشنطن (إسرائيل) على أنها (دولة ديمقراطية حسنة الأخلاق محاطة بدول معادية لوجودها).
ونصح الكاتب (بأن تعمل واشنطن على صياغة سياسة جديدة تجاه إسرائيل، وبدلا من إلقاء المحاضرات على (نتنياهو) أو (بايدن) حول عدد الأطفال الذين يموتون أو يتضورون جوعا (علينا أن ندفعهما لإعادة النظر في الأفكار الكامنة وراء تحالفهما).
وأكد: أن لا شيء مما يفعله قادة (حماس) أو (حزب الله) أو إيران يبرر سقوط أعداد كبيرة من القتلى المدنيين، وما كان ينبغي (لبايدن) ومساعديه أن يقولوا ما ظلوا يرددونه باستمرار من أن (حياة الإسرائيليين والفلسطينيين مهمة)، وليس القول إن (لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها).
وختم بلهجة غاضبة، قائلا إن على إدارة (بايدن) ومنتقدي ما تقوم به إسرائيل التوقف عن التذمر من (نتنياهو)، (فهو ليس وحده المشكلة)، وإن على الولايات المتحدة إما أن تقر باتفاقها مع استراتيجيته، وإما أن تتخذ خطوات حقيقية لدفعه في اتجاه أقل تدميرا.
الشواهد وحدها والواقع المؤلم تثبت معها أن النهج الأمريكي هو الرهان الوحيد الذي تراهن عليه (إسرائيل) فى جرائمها التى لا تنتهي، ومهما حاول البعض الادعاء خلاف ذلك، لكن تبقى حقيقة واحدة مطلقة، وهى: (إنه لولا أمريكا ما كانت وما بقيت إسرائيل).. وللحديثة بقية.