كتب: محمد حبوشة
كانت واقعة تحرش الداعية المصري الشهير (صلاح الدين التيجاني) قد هدأت بعد القبض على هذا الشيخ الذي أثار قضية (التصوف العاطفي)، حتى عادت إلى الواجهة من جديد، وآخرها ما ناقشته محظة (بي بي سي) العربية قبل يومين، على أثر حادثة (خديجة) التي اتهمته بالتحرش.
ففي آخر تطورات تلك القضية، أخلي سبيل الداعية بكفالة 50 ألف جنيه، وأمرت النيابة العامة في شمال الجيزة، بإخلاء سبيل التيجاني، بعد اتهامه بالتحرش بفتاة تدعى (خديجة) عن طريق رسائل على حسابها بمواقع التواصل الاجتماعي، كما أخليت (خديجة) ووالدتها بعد الاستماع إلى أقوالهما.
وكانت السلطات المعنية حققت مع الداعية لنحو 8 ساعات، وواجهته بتهم التحرش وإرسال صور خادشة للحياء إلى الفتاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن (التيجاني) أنكر تحرشه بخديجة، مؤكدا أنه يعتبرها بمثابة ابنته.
وبرر (التيجاني) شيخ (التصوف العاطفي) اتهامها له بالتحرش لاعتقادها بأنه رفض زواجها من ابنه، كما أكد أن الفتاة تعاني من مرض نفسي، فيما كشف أنه حرر محضرا ضدها ووالدها خالد بسيم، جراح المخ والأعصاب، يتهمهما فيه بالسب والقذف والتشهير به من خلال ما نشره كل منهما عبر فيسبوك ومختلف مواقع التواصل .
إلى ذلك، أشار (التيجاني) إلى أن والد خديجة أراد الانتقام منه، بعدما لجأ إليه أكثر من مرة لتطليقه من زوجته، إثر خلافات متكررة بينهما، فما كان من (التيجاني) إلا أن رفض أخيرا التدخل للإصلاح بينهما، ما دفع الطبيب للانتقام منه.
يذكر أن النيابة كانت طلبت عرض الصور الخادشة التي قدمتها خديجة على الجهات الفنية، لفحصها والتأكد من عدم التلاعب بها، لحين استكمال التحقيقات، كما فجرت التحقيقات مفاجأة أخرى، إذ حضرت سيدتان أخريان إلى النيابة خلال التحقيق مع الداعية، من أجل تقديم شكوى تحرش ضده أيضا.
وأكدت السيدتان أنهما كانتا تترددان عليه في الزاوية التي يعمل بها (التيجاني) في منطقة (امبابة) لحضور دروس دينية، وأنه كان يتحرش بهما خلال حضورهما أو عبر محادثات (الشات) بينهما.
الصوفية تتبرأ من (التيجاني)
على جانب آخر أعلنت الطريقة الصوفية التابع لها الداعية (التيجاني) تبرؤها منه، مؤكدة أنه ليس عالما، لكنه يدعي المشيخة، ويزعم لنفسه الدرجة العليا وحمل لواء الطريقة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بحسب موقع (الجزيرة) و(بي بي سي) العربية: لماذا تلجأ هؤلاء الفتيات للبحث عما يعرف بـ (الشيخ المربي؟)، ولم يحرصن على اتباع طريقة صوفية، ويسعين ليصبحن مريدات لبعض المشايخ المتصوفة مثل (التيجاني) وأمثاله؟.
وما التغييرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع المصري التي ساعدت على وجود هذه الظاهرة؟ ولماذا تزايدت لدى الفتيات بعد الثورة؟ وهل للثورة حقا دور في هذه الظاهرة؟ وإن كان نعم، فكيف؟
الحقيقة بحسب (الجزيرة) التي تطرقت إلى جذور القضية قائلة: أن السعي للإجابة عن هذه الأسئلة قادنا بالضرورة للتعرف ابتداء على خريطة كيانات تعلّم العلوم الشرعية في الفترة اللاحقة لثورة يناير، ثم تتبع مسار تلك الكيانات عقب ثورة 3 يوليو/ 2013، والوقوف على تجارب بعض الفتيات مع تلك الكيانات.
ومن ثم السعي لاستنتاج تحليل متماسك لفهم هذه الظاهرة، ومن ثم السعي للإجابة عن سؤالنا المركزي: لماذا تبحث الفتيات المهنيّات عن الشيخ المربي؟
لا يستهدف هذا التقرير الاستقصائي المطوّل الذي أجرته (الجزيرة) مناقشة التصوف كعلم أو كتجربة روحانية ذاتية خاصة بالأفراد، ولا يسلط الضوء على دراسة الحركات الصوفية التي لها تاريخ ممتد في مصر.
بل يناقش البعد الاجتماعي والسياسي لظاهرة محددة، وهى ظاهرة لجوء بعض الفتيات المهنيات للتصوف، وهى الظاهرة التي برزت بعد ثورة 25 يناير 2011 كما أشرنا سابقا، ومن الثورة ننطلق:
أولا: كيانات تعلم العلوم الشرعية بعد ثورة 25 يناير 2011 حتى 3 يوليو 2013.
أحداث 25 يناير.. من هنا كانت البداية؛ فقد أوجدت أحداث 25 يناير حالة زخم في الحراك السياسي مع جذوة الحماسة التي أشعلتها في نفوس الشباب.
وبدأت رموز التيار الإسلامي تفصح عن نفسها خلال الفترة التي أعقبت تنحي مبارك، فحضر سؤال التمييز بين التيارات الدينية والسياسية المختلفة بقوة، وأصبحت الرغبة في التمييز بين التيارات الإسلامية احتياجا ملحا في ظل حالة الاستقطاب التي أوجدها استفتاء مارس 2012 ما بين الإسلاميين وغيرهم.
سقوط الدعاة الجدد!
وبالعودة للعوامل الأخرى التي ساهمت في ظهور وانتشار هذه الكيانات، فقد مثل ما يعرف بـ (سقوط الدعاة الجدد) في هاوية العمل السياسي وتخاذل مواقفهم التي لم ترق لكثير من الشباب الباحث عن ما يُعرف بـ (النقاء الثوري) آنذاك، مثل عاملا محفزا لرواج الكيانات الشرعية.
باعتبارها ممتلكة لطرح أكثر تماسكا من ذلك الطرح الذي يروجه الدعاة الجدد الذين (سقطوا) في أزمة (ميوعة المنهج) التي طالما أُخذت عليهم، واعتبار خطابهم الديني تجسيدا لنموذج (إسلام السوق).
تقودنا هذه الأفكار المطروحة أعلاه إلى سؤال مهم لا ينبغي إغفاله، فإذا ما كان سبب توجه هؤلاء الفتيات إلى تلك الكيانات التعليمية الأزهرية يتمثل في نفورهن من الخطاب الديني الدعوي الجديد، فهل تختلف تلك الكيانات عن ظاهرة الدعاة الجدد؟ وفيم تختلف تحديدا؟
على الرغم مما يبدو من اختلاف هذه الكيانات عن (الدعاة الجدد) في المنهج، فإن نظرة فاحصة على طبيعة السياق الذي أنتج الظاهرتين، ومن خلال الاستنتاجات التي خلُصنا إليها عبر المقابلات والبحث الميداني الذي أجرته (الحزيرة)، يمكننا ملاحظة التشابه والتقاطع الذي يصاحب كلا النهجين، والمُتمثّل في نقطتين أساسيتين:
خريطة انتشار هذه الكيانات الجغرافي وخريطة انتشار الدعاة الجدد متشابهة؛ فقد وجدت بعض هذه الكيانات في سنواتها الأولى في مساجد كالحصري ويوسف الصحابي وغيرهما من المساجد التي كانت ملتقى لدروس الدعاة الجدد، وانتشرت محاضراتها في فروع جمعيات صُنّاع الحياة التي أسسها (عمرو خالد).
التأثير الفعال في أوساط الشباب؛ ويرجع ذلك لقدرة المشايخ على التقرب من الشباب، إما لصغر سنهم ومشاركتهم في الحراك الثوري، أو لمرونة طباعهم، أو لخلفيتهم الاجتماعية والثقافية والتعليمية.
حيث نجد أن بعضهم تخرج من التعليم المدني والتحق بجامعات أجنبية ثم تحول لدراسة العلوم الشرعية على النهج الأزهري، مما جعلهم يبدون مختلفين عن التكوين الأزهري التقليدي، وأكثر تفتّحا واقترابا من الشباب الذي يأتي معظمهم من كُليّات علمية مثل الطب والهندسة.
وبدا هؤلاء المشايخ نموذجا جيدا وجديدا وباهرا لهؤلاء الشباب، كما أن هذه الكيانات لم تكن وليدة الزخم الثوري وحادث استشهاد الشيخ (عماد عفت) فقط، بل تولدت من رحم الحراك الاجتماعي في الجامعات المصرية فترة ما قبل الثورة، وتحديدا منذ منتصف الألفية.
حيث ظهرت الأنشطة الطلابية والعمل التطوعي بكثافة في الجامعات المصرية، فهؤلاء الشباب هم النواة المتجددة والأكثر فاعلية وحضورا في هذه الكيانات، سواء كطلاب أو متطوعين أو عاملين بها.
شريحة (الملتزمة دينيا)
جذبت هذه الكيانات تلك الشريحة (الملتزمة دينيا والمحافظة اجتماعيا) من أبناء الطبقة الوسطى المهنية التي لا تتصالح مع الفكر السلفي التقليدي وخطابه المتشدد، وتنفر من المواقف السياسية للإخوان.
كما وفرت هذه الكيانات بيئة أكثر مرونة، ويغلب عليها روح (شابة)، فلم تكن متشكلة من مؤسسات هيراركية (تراتبية) لها بنية تنظيمية صلبة لا تتلاءم مع حالة رفض التنظيمات التي غلبت على شباب هذا الجيل.
ولقد أحدثت حالة الإقبال على العلم الشرعي في هذه الكيانات تغييرا في الطريقة التقليدية للتدريس في أروقة الجامع الأزهر في شكل الإعلان ونمط الدراسة؛ فقد أخذ الجامع الأزهر يعلن عن (دورات) لموضوعات محددة في وقت محدد، غير الدروس المطولة المفتوحة سابقا من خلال الرواق الأزهري.
التحليل الاجتماعي للظاهرة من وجهة نظر (الجزيرة) للإجابة عن السؤال: لماذا تبحث الفتيات عن الشيخ المربي؟
رغم حديث الفتيات عن تجاربهن مع التصوف، يظل سؤال (لماذا تبحث الفتيات عن الشيخ المربي؟)، في حاجة إلى مزيد من الإيضاح والتفسير لبيان أسباب هذه الظاهرة والتحولات الاجتماعية والسياسية التي أدّت إلى انتشارها، ويمكن تلخيص هذه الأسباب في 4 عوامل لوجود هذه الظاهرة، وهى:
- استعادة الدور الأبوي المفتقد في علاقة الشيخ بالمريد.
- تيه الفتيات في ظل تفكك المجتمع.
- الفراغ الروحي والحاجة إلى الدين.
- خلق دوائر اجتماعية جديدة تُمثّل محاضن اجتماعية آمنة، وخلق قوقعة متشابهة ومحاولة لاستعادة السند الاجتماعي.
الحديث المفرط عن المحبة
الخطورة فما يقدمه (التصوف العاطفي) على طريقة (التيجاني) هو الحديث المفرط عن المحبة والاهتمام بالأفراد، وبيئة اجتماعية تشكل محضنا له صبغة دينية في ظل خلل العلاقات وهشاشة المجتمع الحالي، يكون الشيخ هو المركز للعلاقات فيها، ويدور من خلالها استعادة للروحانيات التي لا يُلقي لها العالم المغرق في ماديته بالا.
الخلاصة: ليس كل الفتيات المنتميات للطرق والكيانات الصوفية ممن يتعرضن لمخاطر مادية ومعنوية، فقد وجدت فيه الكثير من الفتيات طريقا آمنا للعيش وعلاجا لخواء الروح، لكن نقاش هذه الظاهرة يخبرنا أن هناك مشكلات حقيقية داخل المجتمع المصري تتمثل في غياب العلاقات الآمنة في البيوت، العاجزة عن احتواء أفرادها.
وفي هذا المقام: أنبه إلى دراسة موضوع (الدرس الصوفي في فكر محمد الغزالي) – رحمة الله عليه: (إن الإنسان المسلم المعاصر يعاني الخلل في تكوينه الفكري وبنائه النفسي بسبب البدع والخرافات والأوهام الرابضة في أذهان المسلمين والظاهرة في سلوكاتهم، بفعل التخلف الحضاري وسيادة الجهل وغياب العلم الصحيح).
وهو ما أثار هذا حفيظة الشيخ (محمد الغزالي) فأخذ على عاتقه مهمة إصلاح وإعادة بناء النفس المسلمة عقلا بتخليصه من العجز والجمود، وروحا بتزكيتها وتطهيرها من أمراض القلوب، وهذا ما دعا له في عدد من مؤلفاته منها عقيدة المسلم، الجانب العاطفي من الإسلام، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، المحاور الخمسة في الإسلام.. إلخ.
وحاول (الغزالي) بقلمه محاربة الذهنيات الرابضة على الموروث الصوفي من سلوكات وتقاليد سلبية عن جهل، واعتماده مشروعا إسلاميا تجديديا يؤمن به ويدعو إليه في كتبه ومقالاته وخطبه ومحاضراته يقوم على أربع ركائز ومبادئ، موجهة لتجربته الصوفية النقية وهي: (الإيمان والعقل والعلم والعاطفة الوجدانية).
ظني أن الشيخ (الغزالي) بهذا وضع منهجا سليما لما يسمى بـ (التصوف العاطفي) برؤية عصرية ينبغي أن تتبعها فتياتنا، حتي لا تقع في شراك (التيجاني) وغيره من الشيوخ الذين يطلقون على أنفسهم (الشيخ المربي)، وعلى أثره يقومون بالتحرش وارتكاب الموبقات على جناح التصوف الذي هو برئ من ارتكاب كل تلك الفواحش.