بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
ستظل ليلة الجمعة 27 سبتمبر 2024، حاضرة فى الذاكرة وفى التاريخ باعتبارها ليلة أخرى من ليالي النكسات والانتكاسات العربية، تلك الليلة التى شهدت عملية إسرائيلية غادرة نالت من الأمين العام لحزب الله (حسن نصر الله).
نجحت فيها تل أبيب بإلحاق الأذى ليس بلبنان ومقاومته فحسب، بل بالعرب جميعا، تماما كما جرى فى نهار الخامس من يونيو 1967، قبل نحو 5 عقود لازالت مرارتها وتداعياتها الكارثية حاضرة حتى الآن.
ارتبطت المقاومة طيلة العقود الثلاث الماضية باسم (حسن نصر الله)، وعلى نجمها منذ تحرير الجنوب اللبنانى من قبضة الاحتلال الإسرائيلي فى عام 2005.
وانتقلت من الجنوب اللبنانى إلى غزة والضفة والقدس، وراحت تطارد العدو أينما وجد لتقوض معها نظرية الأمن التى بنى عليها الصهاينة دولتهم عام 1948.
ظل (حسن نصر الله)، رمزا وطنيا عربيا مقاوما، حتى وإن ظل ولاءه ومرجعتيه إيرانية لكنه حظي بشبه إجماع لم ينقطع طيلة عقود ثلاث متتالية.
إلا بعدما قرر الحزب التماهى مع رغبات طهران فى دعم الدولة السورية ضد المعارضة المسلحة فى أعقاب ثورات الربيع العربى وإرسال قواته للمشاركة فى قتال المعارضين، مع توجيه أصابع الاتهام له بالتورط فى قتل المدنيين السوريين.
نهاية (حسن نصر الله)
حاول الحزب تبرير مشاركته، بأنها تأتى فى سياق الحفاظ على محور الممانعة الذى تشكل دمشق أحد أضلعه الثلاث، مع طهران وحزب الله، ورغم التبريرات والحجج أخفق الحزب وزعيمه (حسن نصر الله)، فى إماطة الأذى الذى لحق بصوريتهما.
ورغما عن ذلك ظل لدى الحزب رصيد فى صدور الجماهير العرب، محاولا من جديد أن يعيد بناء صورته المقاومة فى أعقاب عملية (طوفان الأقصى) في السابع من اكتوبر 2023، بعدما نجح فى إثبات دعمه ومساندته للمقاومة فى غزة منذ اليوم الأول وحتى يومنا هذا.
وهو ما جعل إسرائيل تدرك أن بقاء الحزب وقادته تظل عقبة رئيسية أمام أطروحات اليوم التالى فى غزة، وإمكانية القضاء على المقاومة فيها، وعليه جاء القرار بوجوب القضاء على الحزب وأمينه العام (حسن نصر الله)، وكافة قادته.
بل والتخطيط لضربة قاتلة للحزب تعيد معها من جهة الهيبة والردع الذى انهار فى اكتوبر 2023، من جهة، ولتنهى معها من جهة أخرى أسطورة المقاومة من جهة أخرى انطلاقا نحو ترتيبات إسرائيلية جديدة تهدف لإعادة تخطيط المنطقة وفقا للهوى الصهيونى.
(حزب الله) ومستقبل غامض
مع نهاية شهر أغسطس 2024، تعالت وطأة الضربات الإسرائيلية للجنوب اللبنانى ولحزب الله وقادته وعناصره، وراحت إسرائيل تستخدم كل ما أوتي لها من قوة وتكنولوجيا وبطش، بهدف تنفيذ مخطط القضاء على الحزب.
فى الوقت الذى وجد فيه أمينه العام أن أي تصعيد سيقابله دعما ومساندة من طهران، التى اكتفت من جانبها بالتسريع من وتيرة حربها الكلامية ضد إسرائيل دون أن تخطو خطوة واحدة حقيقية على أرض الواقع.
أملا منها فى الابتعاد عن حرب ستكون نتيجتها القضاء على مشروعها النووى الذى ترى فيه الرهان الوحيد لضمان مستقبلها وتحضيرا لمرحلة تالية هى الأهم بالنسبة لها من (حزب الله) وقادته.
وعليه ترسخت لدى إسرائيل قناعة مفادها: أن كافة خيارات (حزب الله) تبدو محدودة فى مواجهة تل أبيب، لعدة أسباب، أهمها التفاوت الرهيب فى المجالين العسكرى والتقنيات العلمية الحديثة، وأن الأيديولوجية لا تستطيع أن تهزم التكنولوجيا، ولا أن تحسم حربا.
حالة من التخبط العسكري
ولا يكفى الاعتماد على الشعارات والمقاتلين الجهاديين، فهى استراتيجية لن تصمد أمام الحرب المفتوحة، إضافة إلى أن قرار الحزب المدعوم إيرانيا فى يد طهران، التى على الرغم من تصريح رئيسها بعدم قدرته على مواجهة إسرائيل بمفرده.
إلا أنها عازفة أصلا عن الدخول فى أي مواجهة مباشرة، لأنها قد تُصبح المحطة التالية فى الصراع.
لكن ماذا بعد؟
بطبيعة الحال وبعد نجاح إسرائيل فى اغتيال (حسن نصر الله) وقيادات الحزب ونخبته، فمن شأن انقطاع الاتصالات بين عناصر الحزب وقادته التأثير سلبًا في الأوضاع الميدانية والعسكرية في لبنان، والصراع الدائر مع إسرائيل.
مع ترجيحات مفادها أن يكون الحزب في حالة من التخبط العسكري، بعد أن مالت كفة إسرائيل على حساب طهران وحلفائها، مع إدراك مفاده: إن ما حققته إسرائيل من وصول إلى أبرز القيادات العسكرية والسياسية في الحزب، سيعود بضرر كبير على إدارته للمعركة وحجم الصواريخ ونوعية الأهداف وطبيعة المعركة.
غياب غالبية القادة السياسيين والعسكريين لحزب الله، يطرح معه تساؤلات بشأن إدارة المعركة مع إسرائيل، في ظل وجود ترسانة عسكرية كبيرة لدى الحزب، التي راكمها على مدار سنوات طويلة.
وهنا قد يرى البعض إن وصول إسرائيل للقيادات البارزة، بمن فيهم (حسن نصر الله)، سيجبر الحزب على تغيير أنماطه وأساليبه القتالية، علاوة على أنه سيغير أنواع الصواريخ والأهداف، خاصة أن الحزب فقد قيادته الرئيسية.
الهدف المعلن والأهداف الخفية
لكن يظل هناك من يرى أن الحزب سيكون في حالة من التخبط العسكري، وأن عدم قدرة العناصر على الوصول لقياداتها، سيضعف قدرتها على اتخاذ القرار المناسب بشأن التصعيد العسكري مع إسرائيل.
وإن هذا الانقطاع سيكون سببًا في اتساع دائرة القتال بين الحزب والجيش الإسرائيلي؛ بسبب التخبط الكبير للحزب.
فيما تبرز ترجيحات أخرى مفادها أن إسرائيل ستعمل على استغلال حالة التخبط التي يعيشها الحزب من أجل توجيه ضربات عسكرية جديدة وبالعمق اللبناني، ما يؤدي لتوسيع دائرة القتال ويوفر المبررات المتعلقة بالاجتياح البري للأراضي اللبنانية من جديد.
وسترغب إسرائيل في ترجمة هذا الضغط إلى وضع جديد يكون فيه شمالها آمنًا.
وهناك من يرى أن الحزب ارتكب خطيئة استراتيجية منذ الثامن من أكتوبر، العام الماضي، برهانه على أن الحرب مع إسرائيل ستكون (تحت السيطرة) وأنه بإمكانه إنهائها بالتزامن مع حرب غزة.
وبالتالي بنى خططه واستراتيجياته على أساس أنه (المتحكم) في زمام الأمور، فى الوقت الذى أوهمت إسرائيل (حزب الله) بأنها لا ترغب في حرب شاملة، وأن مصلحتها ووضعها في غزة وفي الداخل، يمنعانها من الانجرار إلى حرب واسعة.
فيما كانت تتحضر للانقضاض بلا هوادة على الحزب وبنيته وبيئته وقياداته، حتى وصلت في النهاية إلى رأس التنظيم وأمينه العام (حسن نصرالله)، وهى لن تقف عند هذا الحد، وهو ما يبدو من الأحداث المتسارعة والخارجة عن سيطرة الجميع، ما عدا إسرائيل.
أعلنت إسرائيل رسميًا مع تسارع وتيرة العمليات فى الجنوب اللبنانى، عن هدف وحيد لعملياتها العسكرية وهو خلق ظروف آمنة لعودة سكان الشمال، لكن فعليًا أهداف إسرائيل أكبر بكثير، وهى تسعى لتحقيقها منذ سنوات.
فمن خلال استهداف القيادة العليا لـ (حزب الله) تحديدًا تحقق إسرائيل هدفين استراتيجيين: الأول، إضعاف بنية القيادة والسيطرة لـ (حزب الله) بشكل غير مسبوق، وهي عمليًا أصابت (حزب الله) بشلل نصفي.
لكن حرص إسرائيل على توجيه هذه الضربة قبيل الحرب، وفي أيامها الأولى، يشير لكونها تتوقع أن تكون الحرب طويلة، وتريد أن تحقق ضررًا يستمر لعقد من الزمن على الأقل بقدرات ووجود وصورة (حزب الله).
والهدف الثاني وهو الأهم: يتمثل بأن تضمن إسرائيل أن (حزب الله) سيضطر لمتابعة الحرب للنهاية وألا يبحث عن مخرج سريع، وعليه يمكن اعتبار أن (حزب الله) ارتكب خطيئة استراتيجية منذ البداية عبر الرهان على أن هذه الحرب ستكون محدودة.
وأن المخرج متوفر عبر إيقاف المواجهات بشكل متزامن مع توقف الحرب في غزة، ونسي أنه هو الهدف الأصلي للتحضيرات العسكرية الإسرائيلية منذ سنوات، وليس فصائل غزة، ولهذا لم يبحث عن (خطة ب).
الجيش اللبناني أمل اللبنانيين
كذلك هناك من يعتقد أن مع تصعيد وجوه جديدة للمواقع القيادية في (حزب الله) – واختيار أمين عام جديد – سيجد الحزب نفسه مضطرا لمتابعة الحرب للنهاية وألا يبدأ عهده بتنازلات لإسرائيل؛ لأن هذا سيعني الاعتراف بهزيمة استراتيجية.
وإسرائيل بكل تأكيد ستضع شروطًا قاسية جدًا كما فعلت مع (حماس)، وسيضطر (حزب الله) لمتابعة حرب اختارت إسرائيل توقيتها، ووتيرتها، ووجهت الضربات الأقسى فيها حتى قبل أن يتنبه خصمها.
وهذا وضع استراتيجي مثالي لإسرائيل، والتي لن تتخلى عنه قريبًا، وبناءً عليه تسود توقعات أن تستمر الحرب الحالية لفترة طويلة جدًا، وربما خلال العام 2025.
مع اعتقاد راسخ مفاده: أن الهدف ليس إرجاع (حزب الله) إلى شمال الليطاني، بل هو أن يخرج الحزب من منطق فائض القوّة الذي رفع من منسوب غروره بشكل مخيف.
والذي تسبّب عملياً في تعرّضه للاختراق بالشكل الذي ظهر به الحزب مؤخرا، من اغتيال معظم قيّاديه أو تفريغ قيادته.
بينت تلك الحرب الدائرة اليوم أنه لا توجد قوة ردع لدى (حزب الله)، بل على العكس من ذلك فهي معدومة تقريباً والدولة اللبنانية مباحة، وبات لدى الكثيرين قناعة كاملة خصوصاً لدى بعض المشكّكين فى الحزب ودوره بأن لا يحمي لبنان اليوم إلّا وجود دولة قوية.
وجيش قوي ينتشر على الحدود وسلاح موحّد بيد الجيش اللبناني فقط، وعليه تطرح تساؤلات عما إذا كان لبنان سيلجأ إلى إعادة النظر في استراتيجية دفاعية واضحة، لكي يعيد بناء مؤسساته ضمن سياسة واضحة.
طهران.. التصريحات لا تكفي
عن موقف إيران، هناك من قال (الإيرانيون يمضون 20 عاماً في حياكة السجادة العجمية، ويحتاجون إلى نصف يوم فقط لبيعها)، وأن (إيران تعمل لتحقيق مصلحتها فقط، واستغلت شعار مقاومة إسرائيل دون أن تفعل شيء يذكر).
فيما يتوقع البعض أن هناك صفحة جديدة ستفتح على مستوى (حزب الله) وعلى مستوى المقاومة وعلى مستوى لبنان وأيضا الإقليم، وستظل الكلمة الفصل الآن هي بيد من يدير محور المقاومة وهى طهران، وكيف سيكون موقفها مع هذا المستجد؟، وهل ستلجأ إلى تكتيك معين لإدارة المعركة مع إسرائيل؟
أخيرا: الثابت الآن وبعد هذه النكسة، هو أن المرحلة المقبلة ستكون نقطة تحول أساسية ليس للبنان وحده ولكن لدول المنطقة بشكل عام، وستكون هناك تداعيات داخلية وإقليمية بعد اغتيال (حسن نصر الله).
والأكثر ترجيحا هو إن إسرائيل ذاهبة إلى أبعد مدى لتصفية حسابها بالكامل مع لبنان وحزب الله وخلق وضع إقليمي جديد إيذاناً بالشروع في رسم خريطة جديدة تكون أكثر ملائمة لها ولأهوائها ولطموحاتها التوسعية والعدوانية التي لم يعد بالإمكان كبح جماحها.