بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
لا أظن أن هناك من الروائيين من امتلك مثل قدرة؛ بل جرأة؛ إحسان عبد القدوس في اقتحام الزوايا المظلمة و الشائكة في النفس الإنسانية، من خلال شخصيات قصصه ورواياته وأشهرها (الخيط الرفيع).
وبواسطة هذه الجراءة ومن خلال تلك الزوايا نفسها، اقتحم عبد القدوس، المجتمع الإنساني ليعرى عوراته ويفضح نقائصه ويكشف متناقضاته التى يخفيها، ثم يظهر إحسان، حقيقة الضعف الإنسانى.
بل ويؤكد الانسحاق، حيث يضحى الإنسان بإنسانبته من أجل تحقيق أوهام ألبسها رداء الطموح والنجاح تحت سراب يصر على أنه حقيقي، اسمه تحقيق الذات!
كانت روايته (الخيط الرفيع) واحدة من رحلات إحسان عبد القدوس المزدوجة، ما بين النفس الفردية متحققة في شخوص وأبطال العمل، وبين النفس الجمعية متمثلة في المجتمع الذي يشكل مسرحاً لأحداث وعلاقات وانفعالات هذه الشخصيات!
وبمناسبة ما يتردد عن المساكنة، فقد تناول عبد القدوس العلاقة القريبة من هذا المعنى في أكثر من عمل له وكانت واضحة تماماً في روايته الشهيرة (أنا حرة) بين (أمينة/ لبنى عبدالعزيز)، و(عباس/ شكرى سرحان).
لكن عندما تحولت الرواية إلى فيلم لم تكن العلاقة بينهما، مساكنة، إذ انتهت قصة الحب بإتمام عقد قرانهما في منطقة سجون القناطر الخيرية، في يوم 20 يوليو 1952؛ على يد (حسن محرم) مأذون ناحية القناطر، بعدها عاد كل منهما إلى زنزانته في سجنه!
وهذا ما أضيف إلى الفيلم وكان نهايته ولم يرد في الرواية المطبوعة، لكن علاقة المساكنة تناولها كان واضحاً في (الخيط الرفيع) روايةً وفيلماً، وبالطبع لم يكن مصطلح (المساكنة) مستعملاً فى زمن إنتاج وعرض الفيلم سنة 1971، فنحن قد تعودنا إطلاق مسميات مختلفة على نفس المعنى.
العلاقات خارج إطار الزواج
فقد كان في ذلك العهد تطلق على مثل هذه العلاقات خارج إطار الزواج، مسميات قد تدخل الآن تحت بند العيب، لكنها هى هى نفس الدلالات وإن تعددت المسميات، تماماً كما نطلق الآن (المثلية) على (الشذوذ الجنسي).
على أى حال كان قصد (عبد القدوس) كعادته، أن يعرى النفوس والمجتمعات، تعرية الأرواح، لا تعرية للأجساد، لذلك كان اختيار فاتن حمامة لتؤدي دور العشيقة مناسباً جداً جداً، فالمجال ليس للإغراء ثم إن شخصية كشخصية (منى) لم تكن مجرد امرأة منفلتة أخلاقياً.
بل هى فتاة تنتمى أسرة فقيرة وتعمل في بنك بوظيفة بسيطة، لكن جمالها الهادئ، لابد أن يغرى ذئاب المجتمع الراقي، فتقع في براثن أحدهم بكامل وعيها وإرادتها، فارتضت أن تكون خليلة أو عشيقة أو رفيقة أو مساكنة، لأحد كبار الأثرياء الذي لا يمكن أن يقترن رسمياً بفتاة من أسرة تنتمى إلى عامة الناس.
فضلا على أن تكون من بيئة شديدة الفقر، لكنه قرر استثمار أنوثتها وأدخلها معه عالم المال والأعمال لتنفتح أمامها الدنيا، فلن تكتمل الصفقات ولن تتسع دوائر المعارف ولن تقرع الكؤوس ولن تتفجر زجاجات الشامبانيا إلا وسط وجوه الحسناوات.
وتضحى منى بسمعتها نظير أن تظل محتفظة بعضوية منتسبة لهذا العالم أملا في اكتمال شروط العضوية العاملة في يوم ما!
و(فاتن حمامة) أدت الغرض، بكل جدارة فما أنتجته القريحة القدوسية، لاعلاقة له بالمساكنة، كممارسة للنزوات الجنسية وحدها، فالمجال هنا فقط لفضح الزيف على المستويين الفردى والاجتماعي كما سبق أن ذكرت.
لذلك كانت (الخيط الرفيع) كرواية واحدة من أرقى ما كتبه (إحسان عبد القدوس)، وكذلك جاء الفيلم كواحد من أرقي الأفلام التى عرضت على شاشة السينما المصرية، خاصة في الحوار الذي كتبه (إحسان) بنفسه للفيلم.
تاركاً السيناريو للفنان الشامل والسيناريست المبدع (يوسف فرنسيس)، ليكمل الصورة المخرج بركات مع باقى طاقم الفيلم.
هكذا كان تناول الأدب والسينما للقضايا الاجتماعية، فلا مجال للإثارة ولا حشر للمشاهد (المقرفة)، على الرغم من التشوهات الأخلاقية للشخصيات وللمجتمع الذي اقتحمه الفيلم!
فإننا لم نجد أى أثر لمشاهد كان يمكن تبريرها في السياق الدرامي ولا لوم ساعتها على صناع الفيلم، لكن كما سبق أن قلت، فإن القضية الأساسية، قضية فحش اجتماعي يعطى صورة صادمة لكنها حقيقية عن خفايا قمة المجتمع!.
طغى الطموح على الأخلاق
رأينا في الفيلم كيف طغى الطموح على الأخلاق، في سبيل تحقيق الأحلام، حتى لما جمعت الصدفة ما بين (منى وعادل)، لم تقنع أن يعيشا معا كأى شابين ربط بينهما الحب، فقد كان (عادل) يهيم بها دون أن تشعر به قبل لقائهما وجها لوجه لأول مرة وهى مع عشيقها تتابع سبق الخيل.
ولكن لما عثر عليها كانت غير صالحة كزوجة، لأنها كانت عشيقة لأحد الأثرياء، لكنهما قررا معا الدخول إلى نادى الطبقة العليا، ليس كأعضاء منتسبين فقط، فكما ضحت منى بسمعتها لكسب العضوية المنتسبة، قررت أن تضحى بمصوغاتها وتخويشة عمرها لتحقيق العضوية العاملة كاملة.
لكن (عادل) كان قد اكتسب مع مسوغات عضويته، الروح الانتهازية الصميمة لعالم الطبقات الثرية وحقق غرضه من منى، فأراد أن ينفرد وحده بالعضوية الكاملة، لأن وجود منى في حياته بشكل رسمي، سوف يزعزع مكانته؛ إن لم يتسبب في رفض دخوله هذه الطبقة.
ولم يكن – لا سمح الله – سبب ذلك أن منى امرأة سيئة السمعة يطاردها ماض ملوث كعشقية سابقة لرجل أعمال ثري، وكحبيبة حالية لمهندس شباب ذى مستقبل واعد.
لكن تاريخها كامراة قادمة من عالم البيئات الفقيرة، سيظل علامة سوداء في حياتها وحياة من يقترن بها، فقط لأنها امرأة ولأن المهندس (عادل) كرجل، لا يعيبه إلا جيبه، وكل رجل في حياته نزوة!، ولكن تبقى الرجولة وتذهب نزوة إلى حال سبيلها حيث تلقى بها الريح حيث تلقى!.
باختصار (الواد فهم الفولة) وعرف أن (منى) انتهت مرحلتها وإن أرادت أن تبقي، فليكن بقاؤها فقط كحبيبة في الظل!
فتحويل العلاقة من (مخادنة أو عشق رفق أو صحوبية أو مساكنة) إلى زواج يعنى توقف كل مشروعاته الحالية والمستقبلية!
فبكل صراحة ووضوح كانت كل تلك المعاني السابقة فيما بين القوسين، لا تعنى إلا (الهلس)، هلس فردى، هلس اجتماعى.. (لا شيء يهم) على رأي (إحسان عبد القدوس) نفسه في عنوان آخر لإحدى روائعه الأخرى.
بين الحب والرغبة في التملك
نهايته: فقد رأى (عادل) أن ما قدمته منى له، لا يستحق به أن تتجاوز (الخيط الرفيع) فيما بين الحب والرغبة في التملك، فما ضحت به لا يرتقي إلى درجة تحويل العقد غير المكتوب بينهما إلى عقد تمليك، فالتمليك له ثمنه الذي لن تقدر عليه واحدة ماضيها أسود مثل (منى).
لكن هناك من يقدر وعلى استعداد للدفع فوراً (فالملكية في عالم المجتمعات الزائفة تتتبع القاعدة القانونية لانتقال الملكية، وهى أنها لا تنتقل إلا بالتسجيل في الشهر العقارى)!
فمهما كان الحب ومهما كانت المشاعر ومهما كانت الأحلام ومهما كان النجاح فالقاعدة الأساسية هى (بيزنس إذ بيزنس)!
ولكن ها هى الحياة تفتح لعادل (وكل عادل) ذراعيها لتستقبله مع فتاة أخرى زى القمر.. (الدور قامت به الفنانة بوسي، والتى كانت في بداية مشوار حياتها الفنية حتى أن اسمها في تترات الفيلم كان اسمها الرسمي صافيناز قدرى).
فعندما سيرتبط الرجل (المخادن أو العاشق أو المرافق أو المصاحب أو المساكن أو الهلاس) رسمياً، فلن يرتبط إلا بواحدة من الطبقة التي تناسب وضعه الجديد وتطلعاته المقبلة، أما السمعة والشرف والكرامة وكل هذا (الهؤ بؤ) لا قيمة له في ذلك العالم الموحش.
لقد عبر (إحسان عبد القدوس) سواءً بالرواية المطبوعة أو بالفيلم، حواجز الزمن من مطلع السبعينات إلى القرن الواحد والعشرين، لأنه قرر نزع القشور الزائفة عن الإنسان.
حيث تعرض الحقائق عارية ولكن عريها لا يصلح للإغراء ولا للمتاجرة بلحم امرأة مثل منى (وكل منى) تحت مسميات لا تخدم إلا مجتمعات الفساد في كل العصور.