بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
وأنا في الفصل الثالث من حياتي وبعد مشوار طويل يدهشني أن (المهنية) الحقيقية كثيراً ما تضرب وتحارب من أنصاف المواهب، وأصحاب القدرة على التواجد في كل المناسبات والأفراح والمهرجانات والعزاء وأحياناً أعياد الميلاد المتكررة حسب حالة صاحب المناسبة!
إن (المهنية) والوعي، بل والجمال أحياناً، أو الحضور أو الكاريزما كما يطلق عليها الآن تكون سبباً لمحاربة صاحبها وعدم الترحاب بوجوده.
فمثلاً في لقاء لي بالتليفزيون المصري العريق الذي أتعامل معه منذ السبعينيات أجد إحدى المذيعات وأنبهر بها أداءً ومهنية وبحث واهتمام، ويأتي السؤال: أين أنت من ما يحدث في الإعلام من كائنات ساذجه ليس لها علاقه لا بـ (المهنية) ولا بالثقافة.
وإنما فقط عدسات وتجميل مستحدث ثم هرتلة في أي موضوع، وكأنها تتحدث بين أصدقائها علي الكافيه هري وهبد وتفريغ للتسطيح.
وهنا تأكيد أن ذلك لا يحدث في الإعلام فقط إنما في كل مناحي الإبداع فقد اقتربت من ممثلين ذوي مواهب عبقرية أذهب وأتابعهم في المسرح، ولكنهم لا يمتلكون مفردات التسويق والاتصالات والتواصل والتواجد.
وتكون النتيجة صمت ثم اختفاء ونجد بديلاً لهم بعض نجوم الإعلانات أو الحفلات أو نجوم تخرج من أعمال تكريس كوميديا الهطل والاستخفاف وملابس الضحك وإكسسوارات العجب وحوارات تقترب من ابتذال وإسقاطات المغازلة لجمهور العشوائيات او بقاياها.
وأحياناً إفراز لطبقة كادحة تبحث عن ما يضحكها فتنام وتستيقظ لتبحث عن لقمة العيش، وهكذا نجد دائماً للإسفاف جمهور، كما تجد المخدرات مروجيها وشاربيها والنتيجة قد تكون توهان!
دور أصيل للتنوير والثقافة
لقد اقتربت من يقين أنك حين تدرك وتحاول أن تصلح فأنت محارب، وكما قال الكاتب والمفكر (چان بول سارتر) يقول: (يصفونك بالعاقل حين لا تنتقد ما يعتقدون، عندما تكون نسخة منهم، فالناس لا تتصالح مع من يسعون لأن يكونوا أنفسهم.. لأن أولئك يهددون سكينة الحقيقة، ولطالما كان الانتماء هو مكافأة من يتنازل عن حقه في التفكير.
أن تكون ناجحا وحقيقيا فأنت كاشف بالتباين لكل مدع كاذب لا يمتلك إلا التسويق فقط، ومن هنا نجد كم من حقيقيين في كل المجالات يمتلكون كل المهنية ولكنهم لا يمتلكون التسويق فلا برامج لهم ولا منصات إعلامية ولا أكشاك للسبوبة فقط يحاربون كي لايستمروا فهم غير مرغوب فيهم.
إن للفنون والتنوير والثقافة دور أصيل ومختبر في تنمية الوعي حتي يدرك المواطن قيم ومعنى الوطن والولاء والانتماء، ويشعر بما يدور حوله ويعظم قيمة الولاء ويدرك تعاريج المعيشة للدول.
المهنية شعاع النور والتنوير
ويتذكر كيف عبر العالم الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف نهضت أمم وأصبحت عظمى، وكيف وقف الشعب المصري بعد حرب سبعة وستين واكل اللحم يومين، وشعر وساند الدولة حتي حققنا النصر في ثلاثة وسبعين وكيف عانى المواطن من المواصلات والتليفونات والمجمعات الاستهلاكية.
لقد كان الإعلام والفنون من خلال (المهنية هما شعاع لنور وتنوير يوضح للمواطن قيمة الوطن وقيمة أن لا نبحث فقط عما قدم الوطن، بل يذكرك بما عليك أن تقدمه لوطنك فالوطن ليس قطعة الأرض علي الخريطه ولكنه الأفكار والقيم التي يحملها المواطن علي تلك الخريطة).
الولاء يا ساده علينا أن لانترك الساحة لشبكات التباعد الاجتماعي ومهارات البعض في القدرة علي التواجد والتجويد ومكتسبات (الترند) التي يتعايش عليها البعض، إن أكثر وأهم ما تحتاجه مصر الغالية الان هو فرز ونقد موضوعي واهتمام بالأقاليم والمسرح المدرسي وقصور الثقافة.
لقد دفع الجمهور الثمن وفقد القدرة والتمييز جراء عدم (المهنية) في كثير من الأحوال وسيطر الغث والخفيف والاستسهال، وسيطر قانون الطفو وأصبح الفن في بعض الحالات يقترب من بحث عن (الترند).
ويدهشني أن أعمال كبيرة وشركات كبيرة ومجهودات ضخمة تتوه وسط تلال من أعمال (سوتيه) تنتهي من ذاكرة المشاهد مع كلمة النهاية، ولا بقاء لها إلا عند نجومها تجاوزاً فيخرجون علينا وبكل ثقة يدعون أنهم أعلى نسب مشاهدة.
ونجد الكل يردد ذلك ويبقي الحال كما هو عليه وننتظر الموسم القادم وأفلام الأعياد ثم افلام المصيف، ونعود لموسم رمضان ويحتفل الجميع ولاعزاء للإبداع والاعمال التي تستحق منا التقدير والنقد الموضوعي.
فنحن نعاني وبكل صدق من قلة النقد الموضوعي الحقيقي والمنصف، فلدينا عدد قليل من النقاد الحقيقيين ولكنهم غير قادرين على متابعة كل مايحدث في الساحة الفنية، لدينا كل المقومات في كل مناحي الابداع فماذا يحدث؟!.. مصر تنطلق وتستحق.