بقلم الكاتب والناقد: ناصر العزبي
قد يكون حديثي عن عرض (كلوز آب) جاء متأخراً، إلا أنني وجدت من الأهمية الإشارة إليه وضرورة التوثيق له ضمن التجارب المهمة التى قدمت خلال الموسم المنقضي.
ويأتي هذا بمناسبة احتفاء شعبة الدراما بنقابة (اتحاد كتاب مصر) مؤخراً بعرض (كلوز آب) وبنجومه الذين شاركوا فيه واستحقوا التقدير، حيث قدموا تجربة مسرحية فريدة تعد رائدة في اختلافها عن التجارب التي تنتمي للفضاءات البديلة.
و(كلوز آب) من تأليف عادل أنور، إعداد سامية جمال، إخراج المغامر د. محمد عبد المنعم، واستعان فيها بكل من المبدعين (جابر بسيونى، أشعار)، و(محمد عصام – غناء لايف)، وألحان، وليد السباعى، سينوجرافيا، وأحمد أمين، كوريجراف، غادة الشهاوى، ستايلست، منة مجدى رسومات.
وبطولة الفنانة القديرة (سامية جمال)، برفقة فريق تمثيل مميز (نجلاء نبيل، سارة أحمد، شهد العميد، محمد على، محمد فؤاد، علا صالح، طارق محمود، السيد محمد، عبد الرحمن حمدى، احمد كونة، يوسف البمبى، كريم سليمان، محمد الجوهرى).
وجدير ذكر أن العرض قد شارك في المهرجان الختامي رقم 46 لفرق الثقافة الجماهيرية والتجارب النوعية، وحصل على جائزة (لجنة التحكيم الخاصة) إضافة إلى ثلاث جوائز فردية أخرى في التمثيل والأشعار والألحان.
وقد رأيت من الأهمية هنا التذكير بمسرحية (كلوز آب) مع بداية الموسم الجديد لإنتاج تجارب نوعية جديدة بالإدارة العامة للمسرح بهيئة قصور الثقافة.
وذلك لإبراز ضرورة الاهتمام بتلك التجارب النوعية ودعمها لتتصدر مشهد المسرح المصري، باعتبارها تقدم مسرح مصري أصيل، خالص الهوية بعيدا عن مسرح العلبة الأوربي الحديث.
التجارب النوعية أو الفضاءات البديلة، ليس بغريب عن الحركة المسرحية بمصر والتي قدمت منها الكثير في فضاءات غير التقليدية، لا علاقة بها بالعلبة الإيطالية.
إذ قدم مسرحيوها عروضهم قديماً في المعابد الأثرية، وحديثاً في الشوارع والأجران والسرداق والمقاهي، وفوق العربات، وبالقطارات، وأجران القمح، وغيرها من الفضاءات.
وهى ليست بظاهرة جديدة على الحياة المسرحية، وقد ظهرت وائل الستينات مع توجه التمرد على العلبة الإيطالية مع ميلاد اتجاه التأصيل للمسرح العربي أو المصري، كنوع من الرغبة في تحقيق الذات وتأكيد الهوية، بالدعوة إلى النزول إلى الجمهور لجذب اهتمامه والاقتراب منه والالتحام بقضاياه.
وهى في حقيقتها دعوة للعودة إلى تراثنا القديم، أو ردة للاستعانة بما كان يعبر عنا، فكان مسرح (محمود دياب، وألفريد فرج)، ومحاولات (يوسف إدريس)، وكان مسرح الجرن ومسرح الفلاحين.
وكانت تجارب (د. هناء عبد الفتاح، وسرور نور، ود. عبد الرحمن عرنوس، وأحمد إسماعيل)، وكان مسرح الثقافة الجماهيرية المنتشر في بقاع محافظات مصر المختلفة، يبحث عن فضاءات جديدة لعروض مختلفة تؤكد هويتنا، ذلك القطاع الذي تنبه لضرورة التأكيد على تلك النوعية من المسرح باعتباره مشروعاً قومياً.
وقد بدأ الإعلان عنه فعلياً (كمشروع) منذ أكثر من ربع قرن، بإطلاق مشروع تجارب الأماكن المفتوحة أو الأماكن الخاصة عام 1998م.
واصطلح على تسميته مؤخراً بمسرح التجارب النوعية، ونتذكر من تجارب ذلك المشروع، مسرحية (ثمن القمر) التي تم تقديمها في قرية (بسيون) محافظة الغربية.
وتم تقديمها على شاطئ مجرى مائي (ترعة)، وجرى بعض أحداثها بقارب في المجرى المائي، وهي من تأليف طارق عمار، وإخراج السيد فجل.
كذلك تجربة (زمن خلص) والتي أجريت بساحة سراي (خالد محي الدين) بمدينة (كفر شكر) بمحافظة قليوبية، وتناولت إحدى الموضوعات الأصيلة التي تمس المرأة المصرية، التجربة كتبها (دراماتورج) محمد الفيل، وأخرجها محمود الشوربجي.
ومسرحية (شمهورش الكداب) التي قدمت باستاد مدينة (دكرنس) بمحافظة الدقهلية من تأليف عبد المعطي شعراوي، وإخراج د. رضا غالب، وغيرها من التجارب التي استمرت في التقديم من خلال هذا المشروع، وآخرها كانت مسرحية (كلوز آب) موضوع مقالنا هذا – الذي قدمته مؤخرًا (قصر ثقافة بلولكي) بالإسكندرية.
(كلوز أب) المكان والمخرج
تم عرض مسرحية (كلوز أب) داخل شقة خالية من السكان، بالدور الثالث بأحد المباني السكنية ذات الطراز القديم بحى الأزاريطة بالإسكندرية، عمارة ذات طراز معمارى قديم يعود بناءها للعصر اللاتينى.
والشقة تتكون من ثلاث غرف واسعة وصالة فسيحة وطرقات عديدة، وتتسم أسقفها بالارتفاع الشاهق، والأبواب العتيقة العالية، وتبدو ملامحها قديمة عتيقة متهالكة بفعل الزمن.
وإن احتفظت بأصالتها التي تستدعي معها كل ما يرتبط بثقافة الماضي الأصيلة، وقيمه النبيلة التي عملت المسرحية بالالتفات إليها لتأكيدها.
كذلك محاولة الاستفادة من سلطة المكان المنتمي للبيئة المصرية بالتوظيف الرمزي والدلالي، وليلقي بظلال على حدوتة العرض التى اتفق موضوعها مع المواطن البسيط بما يصنع نوع من الألفة بين المكان والممثلين والمتفرجين، ويحقق التواصل، ومن ثم الأهداف التي سعى العرض إلى تحقيها.
وقع اختيار المخرج د. محمد عبد المنعم على هذا المكان، ليصنع من خلالها تجربة مختلفة يذهب بها بعيدا نحو تحقيق المسرح التفاعلي، فهو يعمل أستاذ للتمثيل والإخراج بقسم المسرح بكلية الآداب جامعة اسكندرية.
وأهم ما يتسم به الطموح، ولن نتحدث عن سيرته العلمية كأكاديمي أشرف على العديد من الرسائل أو عشرات من مشاريع التخرج وإصداراته المتخصصة في المسرح.
بل نتوقف على سمة الطموح والنشاط الذي يتسم به، يشارك بالتمثيل والإخراج، ويتابع الحياة المسرحية مشاركاً بالنقد أو التحكيم في العديد من المهرجانات والجهات بين مسرح الثقافة الجماهيرية والجامعة والشباب والرياضة والفرق المستقلة وفرق الهواة.
بل والتربية والتعليم، ويقدم تجربته تلك كصاحب مشروع يعمل على تحقيقه، ويعد اقدامه على تلك التجربة وتنفيذها بهذا المكان وإقدامه دون تردد مغامرة تحسب له.
ولم يخسر الرهان بتنفيذ عرضه داخل تلك الشقة العتيقة لتجرى أحداثه بين غرفها ويصل بالتفاعل من الجمهور إلى أقصاه ليتحرك لمتابعة العرض بمضمونه الذي يؤكد على قيمنا ويدعم هويتنا الثقافية بين الغرف والصالة.
حتي يصل بشعور المتفرج أنه جزء من العرض، وليوثق (عبد المنعم) كواحدة من التجارب المختلفة والمتميزة بين عروض الفضاءات البديلة.
تعامل المخرج مع طبيعة المكان
اختار المخرج نصا بسيطا في فكرته، يتصل بقضايا اجتماعية حياتية معاشه متصلة بالواقع، ومن خلال الفنانة (سامية جمال) تم إعداد وتكيفه ليتفق وطبيعة سينوجرافيا وخريطة تقسم الشقة.
ليتنقل الممثلون بين غرفها، وفق تتابع الأحداث (تبدأ من الصالة إلى غرفة، ثم إلى غرفة ثانية، ثم إلى ثالثة، وتنتهي بالصالة)، مع العمل على تحرك الجمهور – القليل – مع المشاهد لمتابعتهم لمتابعة الأحداث، بما يصنع حالة حميمة بين المتفرجين والممثلين.
وفي رسم الحركة راعى المخرج طبيعة المكان، ومساحات الغرف لتستوعب الممثلين، والمشاهدين بتحديد مناطق للتمثيل ومناطق متفرقة للجمهور.
مع الاعتماد على مفردات ديكورية بسيطة كأثاث لشقة مصرية تتناسب والمستوى الاجتماعي لـ (بهية) الساكنة بالشقة، وذلك في خمس لوحات.
فبدأ عرضه باحتفالية غنائية بصالة الشقة تستقطب الجمهور الذي يسمع استغاثة سيدة – بهية – من إحدى الغرف لتظهر لهم تدعوهم لدخول الغرفة لمساعدتها لحل مشكلة ابنتها مع زوجها المتطرف.
ثم نجد امرأة أجنبية تعرض عليها الذهاب إلى دجال، فتنتقل مع الجمهور إلى مكان الدجال – بوشكاش – بحجرة أخرى، ثم إلى عيادة طبيب – د. سلكاوى – بحجرة ثالثة.
وفي اللوحة الأخيرة تنتقل بنا إلى الصالة حيث تستقبل الابن العائد من السفر، وتعرف خبر إنجاب ابنها فتحتفي مع الجمهور بعمل سبوع لحفيدها، مع ملاحظة أن تنقل الجمهور وفق ضرورة درامية لمتابعة الأحداث بأماكنها باعتباره جزء من العمل أو كأفراد من عائلة (بهية) التي تأخذ بمشورتهم.
وقد فرضت الإنارة نفسها بحكم أن الأحداث واقعية وتجرى بشقة الإضاءة، باستثناء مشهد المشعوذ احتاج إضاءة خافتة بعض الشيء لصنع حالة طقوس المشعوذ، في الغالب.
أما على مستوى الأداء التمثيلي، فقد رعى أن يكون واقعيا دون استغراق في الشخصية، يعتمد على الحضور والتلقائية أو العفوية مع الوعي بتواجد الجمهور، والاستعداد للتواصل مع بعض أفراده وفق حالة التفاعل من الجمهور بما يمنح الممثل مساحة من الارتجال المنضبط.
وقد راعى المخرج توفير كل المفردات أو العناصر التي تحقق الفرجة الشعبية، من الغناء اللايف، والرقص المصاحب للغناء، وطقسي الزار والسبوع، ومفرداتهما من إكسسوار.
ودفوف، وأبخرة، وشموع وهون، ومنخل، وأغاني فولكلورية، وقفشات وارتجال وكوميديا، وغير ذلك مما يساعد على تحقيق الحالة وزيادة التلاحم.
كلوز آب والالتحام بالوطن
يتبقى أن نشير إلى اختيار (كلوز آب) كعنوان للعرض، وأن المخرج أراد بذلك توجيه النظر إلى أهمية الألتحام بالوطن ومعايشة قضاياه والنظر عن قرب لكل ما يهدده.
وذلك على أكثر من مستوى، ومنها رفض الدجال وفضحه، وقد داهمته الشرطة في نهاية مشهده، ورفض التطرف الديني، وفضح وجهه القبيح.
وعدم قبول تزمته الذي مارسه الزوج على الابنة (برفضها له في نهاية المسرحية)، كذلك لفت الانتباه إلى عدم الانخراط في التفاعل مع التكنولوجيا دون وعي بها، وتفادي عمليات النصب (والتي قام بها الطبيب باسم التكنولوجيا) .
وأهمية الصمود أمام الإغراءات المادية مقابل التنازل عن بيت الجدود (ممثلاً بطرد الابن للسيدة الأجنبية في اللوحة الأخيرة)، مع التأكيد على فكرة التمسك المتمثلة بـ (الوطن – البيت).
وبكل ما هو متصل بهويتنا الثقافية من تراث وعادات وتقاليد أصيلة هى بمثابة الوتد الذي نستند إليه في ظل العولمة والثورة الاتصالاتية، مع أهمية الاشتباك معه وتنقيته من الممارسات الخاطئة أو الدخيلة عليه ورفض الخاطئ منها، وأهمية الحوار.
ولقد نجح المخرج فعلياً بتحقيق التواصل التفاعلي بين الجمهور والعرض، وكسر شكل العرض الذي يربط المتفرج إلى جواره لا يتحرك إلا بانتهائه.
وذلك بالحركة التفاعلية للمتفرج بتنقله بين أماكن العرض لمتابعة اللوحات في الأماكن المختلفة التي تقدم فيها، هذا بالإضافة إلى تحقق اتصاله بالثقافة التتي ترتبط بهويته في ظل كل ما يقدم حديثاً ممن لا علاقة له بثقافتنا.
هذا وننتهي في مقالنا هذا بتوجيه التحية لكل فريق هذا العرض المسرحي المختلف، وكذلك التقدير الواجب للقائمين على هذا المشروع العظيم (تجربة التجارب النوعية) بإدارة المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة، والتي تبحث في التفاصيل الدقيقة لهذا الوطن والمستندة إلى هويتنا الثقافية التي تكتب لنا التميز عن الآخر.