بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
مع اقتراب حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة من إنهاء عامها الأوّل، ومع تواصل المجازر اليومية في القطاع، صدر تقرير جديد أعدّه المحامي البريطاني المتصهين، المقيم في إسرائيل، (تريفور أسيرسون).
قام بالتركيز فيه على ما قدّمته الخدمة العربية في (بي بي سي)، منذ بدء حرب الإبادة في السابع من أكتوبر الماضي، متهما إياها بـ (الانحياز) واسع النطاق ضد إسرائيل مع الزعم بانتهاك المبادئ التوجيهية التحريرية مرات عدة في تغطية العدوان على غزة.
يدّعى التقرير الذى حمل عنوانه (The Asserson Report The Israel-Hamas war and the BBC)، (تقرير أسيرسون): (الحرب بين إسرائيل وحماس والبي بي سي).
إنه في تحليل لعينة عشوائية شملت 253 مقابلة أجرتها خدمة BBC بنسختها العربية، تبيّن أنّ (أكثر من ربع المقابلات كانت مرتبطة بحركة حماس أو جماعة إرهابية أخرى أو لأشخاص نشروا آراء معادية للسامية بشكل متطرف عبر الإنترنت).
كذلك تضمّن التقرير، رصداً للصور المستخدمة من قبل الهيئة، فأي صورة لمقاتلي (كتائب القسام اعتبرت مسيئة).
بطبيعة الحال لم يخلُ تحليل المحتوى فى هذا التقرير الفج من تحريض على صحفيين في الخدمة العربية، أبرزهم الصحفيون الذين أعدوا في 12 و14 مارس الماضي تحقيقاً على جزأين عن الأوضاع في مستشفى ناصر في غزة.
وحمل الجزء الأول عنوان (طاقم مجمع ناصر الطبي يروي لبي بي سي تعرضه للإذلال من قبل القوات الإسرائيلية)، بينما حمل عنوان الجزء الثاني (عن الخوف وأزيز الرصاص في مستشفى ناصر قبل اقتحام الجيش الإسرائيلي له).
والصحفيون الذين ذكرت أسماؤهم في (تقرير أسيرسون) هم: (ماري – جوزيه القزي)، و(سهى إبراهيم)، و(معاذ الخطيب).
وبطريقة واضحة ومنهجية صنّف التقرير كافة الضيوف الذين استقبلتهم الشبكة، وانتقدوا الإبادة الجماعية في غزة، بأنهم (محرّضون على إسرائيل). واعتمد تحليل المحتوى في تجميع المعلومات على تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن ما يجعل تقرير (أسيرسون)، بلا أي قيمة مهنية، هو عدم استناده بشكل أساسي إلى (أدلّة) أو محتوى فعلي يكشف انحياز BBC إلى الرواية الفلسطينية في وجه السردية الإسرائيلية.
بل إن الأمثلة التي يسردها التحقيق على طول الصفحات مجرد انطباعات وتحليلات شخصية لصاحب التقرير المتضامن قلبا وقالبا مع إسرائيل، حول المحتوى المنشور في (بي بي سي)، بين شهرَي أكتوبر ويناير الماضيَين.
كافتراض أن استقبال البروفيسور الغزوى (غسان أبو ستة)، يؤجج (معاداة السامية). بسبب مواقفه التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
من هو (تريفور أسيرسون)؟
معدّ التقرير، هو (تريفور أسيرسون)، محامٍ بريطاني، ولد في لندن عام 1953، وانتقل إلى إسرائيل عام 1990، وتدرّب في مكتب (هرتسوغ وفوكس ونيمان) للمحاماة.
وهو المكتب الذي شارك في تأسيسه الرئيس الإسرائيلي الحالي (إسحق هرتسوغ)، الذي عمد منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة، إلى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة.
في تصريحه الشهير: الأمة كاملة (الفلسطينيون في غزة) تتحمل المسؤولية عما جرى أثناء هجوم (حماس)، وليس صحيحاً القول إن المدنيين في غزة غير ضالعين في الأمر، كان بإمكانهم الانتفاض ومحاربة (حماس).
فى عام 2000، وفى أعقاب تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، اختار (أسيرسون) التركيز بشكل أساسي على تغطية (بي بي سي) للشأن الإسرائيلي، فقام بتأسيس مرصد BBCWatch.
ويعمل المرصد بشكل أساسي على تحليل تغطية وسائل الإعلام التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للتطورات في الشرق الأوسط.
وبين عامي 2000 و2006، نشر ست دراسات تزعم أن تغطيتها تتسم بالتحيز المنهجي ضد إسرائيل (والكراهية الواسعة تجاه إسرائيل)، ونتيجة لهذه الضغوط خلقت هيئة الإذاعة البريطانية وظيفة تحريرية تقدّم المشورة بشأن تغطيتها للشرق الأوسط.
أما حالياً فأسس Campaign For Media Standards الذي نشر عبر موقعه الإلكتروني التقرير الأخير (تقرير أسيرسون).
توقيت التقرير ودوافعه
جاء نشر التقرير بعد أيام قليلة من بثّ هيئة الإذاعة البريطانية تحقيقاً طويلاً بعنوان Settlements Above the Law، (بالعربية عنوانه المستوطنون المتطرفون يستولون على أراضي الضفة الغربية – 59 دقيقة)، عن استيلاء المستوطنين على أراضي الفلسطينيين في الضفة (321 ألف مشاهدة في أسبوع)، ليعيد الغضب الإسرائيلي من الهيئة إلى أوجه.
كذلك رافقت نشرَ التقرير حملةُ تحريض واسعة من جماعات المراقبة والضغط الإسرائيلية حول العالم، خصوصاً منظمة (كاميرا) بفرعها البريطاني.
إذ أعادت التحريض على الصحفيين الذين أوقفوا عن العمل مع بداية الحرب بحجة نشاط (متعاطف مع 7 أكتوبر) على مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزهم (سناء الخوري)، و(محمود شليب)، و(سالي نبيل)، و(سلمى خطّاب)، كما هاجمت صحافيين آخرين بينهم (سهى إبراهيم).
وسبق أن خضعت الصحفية المصرية (سالي نبيل) لتحقيق ثانٍ في (بي بي سي) بسبب إعجابها بتقرير تركي عن شراء مستثمرين يهود منازل في قبرص.
كذلك صدر (تقرير أسيرسون)، بعد أسابيع من تعيين (جوناثان مونرو)، خلفا للبنانية ــ البريطانية (ليليان لاندور)، مديراً لخدمة (بي بي سي) نيوز العالمية. و(مونرو) هو ذاته الذي قال في مارس الماضي، (قبل تعيينه) إنّ الطبيعة (غير المتكافئة) للحرب.
جعلت من الصعب تغطية ما يحصل بشكل محايد، مضيفاً أنّ (تحقيق التوازن) يمكن أن يكون صعباً على فرق الأخبار في (بي بي سي) عندما لا يُسمح لهم بالوجود على الأرض في غزة.
نفى (بي بي سي)
بعد صدور التقرير، نفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من جانبها وبشدة اتهامات خرقها مبادئها التوجيهية أكثر من 1500 مرة في تغطيتها لحرب إسرائيل وحماس، وقال متحدث باسم (بي بي سي) إن المؤسسة ستدرس بعناية البحث، لكنها نفت مزاعم التحيز وطرحت تساؤلات حول منهجية الباحثين.
وأكد: (لدينا تساؤلات جدية حول منهجية هذا التقرير، خاصة اعتماده الكبير على الذكاء الاصطناعي لتحليل الحياد، وتفسيره للمبادئ التحريرية للهيئة، لا نعتقد أنه يمكن تقييم التغطية بمجرد عدّ كلمات معينة بمعزل عن السياق). وأضاف أن (بي بي سي) تعتقد أن مراسليها يحققون الحياد (رغم الطبيعة المعقدة والصعبة والمثيرة للانقسام لهذا الصراع)، وأكد قائلاً: (نرفض بشدة الادعاءات بأن مراسلينا احتفلوا بأعمال الإرهاب.
كما نرفض الهجوم على أفراد معينين من موظفي (بي بي سي)، فجميعهم يعملون وفق نفس المبادئ التحريرية”.
اتهامات بالانحياز
يبدو اتهام هيئة الإذاعة البريطانية بنشر محتوى معاد لإسرائيل، مضحكاً أو غير جدي، خاصة أن الهيئة التزمت في الأشهر الأولى من الحرب بالرواية الإسرائيلية.
ما أدى إلى استقالة مراسلها في تونس (بسام بونني)، وكتابة موظفين في الخدمتين العالمية والعربية عشرات الرسائل ضدّ تغطية عدد من المجازر التي ارتكبها الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة.
كذلك لم تتخذ BBC أي إجراءات ضد الصحفيين الإسرائيليين أو الغربيين المناصرين لإسرائيل رغم نشرهم تغريدات ومنشورات داعمة لجيش الاحتلال، ورغم مفاخرتهم بعلاقاتهم بضباط إسرائيليين.
نذكر على سبيل المثال محرر الفيديو في مكتب الهيئة في إسرائيل (مايكل شوفال)، أو حتى مدير الشرق الأوسط في الموقع الإنجليزي (رافي بيرغ) الذي نشر طيلة سنوات صوراً وتغريدات يحتفي فيها بعلاقاته بسياسيين ودبلوماسيين إسرائيليين.
وبحسب جهات عربية محايدة تتابع الإعلام الغربي، فإن هذه المعايير المزدوجة لهيئة الإذاعة البريطانية في التعامل مع الصحفيين العرب مقارنة بالتعامل مع الصحفيين الإسرائيليين، أدّت إلى ولادة حركات احتجاجية داخل مكاتب مختلفة في الهيئة.
خصوصاً في ظل التحذير من تورّط الهيئة في تغطيتها بتبرير المجازر التي يرتكبها الاحتلال بطريقة أو بأخرى.
هذا الاحتجاج لا يزال متواصلاً ويتخذ أشكالاً عدة، بينها شكاوى مباشرة للإدارة، أو رسائل جماعية إلى هيئة التحرير، إلى جانب تواصل كل فريق مع إدارته التحريرية عند نشر أي محتوى منحاز للاحتلال، أو ينزع إنسانية الفلسطينيين.
إلى جانب اعتراضات مباشرة وعلنية خلال اجتماعات التحرير، والمطالبة بالتدقيق المهني بكل تغطية مرتبطة بحرب الإبادة، ويشارك في هذه الاحتجاجات بطريقة غير مباشرة عدد من كبار الإعلاميين بالهيئة وصحافييها المخضرمين، لكن بعيداً عن الأضواء وعن المواجهة المباشرة، خوفاً من ارتدادات هذه الاعتراضات عليهم.
وعلى النقيض من الطرح السابق، دعت الجمعية الوطنية اليهودية وحملة مكافحة معاداة السامية إلى إجراء مراجعة مستقلة لتغطية (بي بي سي) للصراع.
وأعرب (غيديون فالتر)، الرئيس التنفيذي لحملة مكافحة معاداة السامية، عن رأيه قائلاً: إن تحيز (بي بي سي) الأيديولوجي بات واضحًا بشكل مخزٍ.
كما أظهرت أبحاث حديثة أجراها الأكاديميان (مايك بيري) من جامعة كارديف و(غريغ فيلو) من جامعة (غلاسكو) أن حجج إسرائيل كانت تُعطى أولوية أكبر من حجج الفلسطينيين في تغطية (بي بي سي).
فقد وجدوا في دراسة لتغطية أربعة أسابيع من نشرة (بي بي سي – One) بعد مجزرة 7 أكتوبر أن مصطلح (قتل) أو كلمات مرتبطة بالقتل تم استخدامها 52 مرة للإشارة إلى مقتل إسرائيليين، بينما لم تُستخدم هذه الكلمات على الإطلاق للإشارة إلى مقتل فلسطينيين.
التقرير فى أرقام
زعم التقرير أن بعض مراسلي (بي بي سي) قد قدموا تبريرات أو قللوا من أهمية أنشطة حماس، وأن بعض المساهمين الذين استعانت بهم الهيئة كانوا متعاطفين مع الجماعة.
أجرى فريق (أسيرسون) تحليلًا لتغطية (بي بي سي) للأحداث خلال الأشهر الأربعة التي تلت مجزرة 7 أكتوبر، حيث زُعم أن حماس قتلت حوالي 1200 إسرائيليًا وأخذت 250 رهينة.
وجد الباحثون أن إسرائيل كانت مرتبطة بمصطلح (جرائم حرب) أربع مرات أكثر، وبمصطلح (إبادة جماعية) أكثر من 14 مرة مقارنة بحماس في تغطية (بي بي سي).
خلص التقرير إلى وجود 1553 خرقًا لمبادئ التحرير الخاصة بالحياد والعدالة والتحقيق في الحقيقة.
قال التقرير: (تُظهر النتائج نمطًا مقلقًا للغاية من التحيز وخرقات متعددة لمبادئ “بي بي سي” التحريرية المتعلقة بالحياد والإنصاف وإثبات الحقيقة).
استعانت الدراسة بمحامين وعلماء بيانات واستخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل 9 ملايين كلمة من محتوى (بي بي سي).
أشار (تريفور أسيرسون) إلى أن (بي بي سي) أظهرت (انحيازًا واضحًا لطرف واحد)، مشيرًا إلى أن هذا الانحياز كان أكثر وضوحًا في المحتوى العربي لهيئة الإذاعة البريطانية.