بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
نبا عاجل بثته وكالة (هافاس) في الساعات الأولى من فجر يوم الثلاثاء 10 يوليو 1923 .. منذ ساعات قليلة قتل الأمير المصرى (على فهمى)، بثلاث رصاصات أطلقتها عليه زوجته الفرنسية الأميرة (مرجريت).
كان مسرح الحدث هو ردهة الطابق الرابع في فندق (سافواي) بلندن .. بعد فحص الجثمان في وجود الأميرة المتهمة (مرجريت) أثناء التحقيقات تم إرساله إلى مصر لتستقبله جنازة حاشدة تنعي الشاب المغدور.
مع هياج في الصدور ضد احتلال فرنسى قديم مثلته الزوجة القاتلة (مرجريت) واحتلال إنجليزي حالى مثلته المحكمة التي تولت التحقيق في الجريمة مع شعور المصريين بتحييز المحكمة إلى جانب القاتلة الفرنسية ضد الضحية المصرية.
نالت الجريمة من اهتمام الشعب بكامل طوائفه حتى أن الفنان يوسف وهبى – الذى تزوج من شقيقة (الأمير المصري) المغدور – أصر على أن تكون هذه الأحداث هى قصة أول فيلم سينما مصري ناطق بعنوان (أولاد الذوات).
والذى سجل فيها صوته كأول صوت مصري ناطق في السينما المصرية – بعد أن قدمها بالفعل على المسرح بنفس الاسم.. وقد حقق الفيلم مشاهدة غير مسبوقة خاصة من النساء التي تبنت قضية مساوئ زواج الشباب المصرى من بنات أوروبا والتي تفشت كظاهرة في هذا الوقت.
وللقصة بداية:
(مرجريت) هى ابنة سائق فرنسى..عاشت أسيرة عقدة ذنب بعد أن تسببت و هى طفلة في مقتل أخيها الصغير حينما قذفت له كرة أمام منزلهم المتواضع ليلاحقها الصغير على الطريق فتدهسه سيارة مسرعة.
مما جعلها في موضع تأنيب وتحقير مستمر من أسرتها.. حتى أنها تكفيرا عن شعورها بالذنب أمضت سبع سنوات في دير كاثوليكى متفرغة للصلاة والعبادة.
غرام (مرجريت) بشاب إنجليزي
غادرت (مرجريت) عام 1906 جدران الدير عن عمر السادسة عشر لتفتنها الأضواء الملونة لباريس وتقع على الفور في غرام شاب إنجليزي تقيم معه لفترة طويلة في منزل أمه لتحمل منه بعد وعده بالزواج وانتظاره فقط لموافقة أبيه الذى يعمل في الهند.
رفض الأب هذه الزيجة رفضا قاطعا وطالب ابنه باللحاق به في الهند على الفور ليتركها مع حملها فتضع بنتا.
عام 1907 تعرفت (مرجريت) على تاجر ثرى وتزوجت منه لتذوق معه حياة الثراء الفاحش وتتعلق بأهدابها غير أنه تركها عام 1913، خاصة بعد أن تركت التجربة السابقة أثارها النفسية على تعاملها مع الرجال فأصابها بحالة من السادية تتلذذ فيها بتعذيبهم و مشاحناتهم، وهو ما لم يطيقه التاجر كثيرا ليمنحها مائتى ألف فرنك تعويضا عن الطلاق.
لم تتخلى (مرجريت) عن تمسكها بالطبقة الأرستقراطية بفرنسا فألحقت ابنتها بمدرسة داخلية في لندن لتتعرف عام 1915 بالأمير إدوارد ولى عهد إنجلترا وابن الملك جورج الخامس، وذلك أثناء زيارته لفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى لتنشأ بينهما علاقة غرامية استمرت طوال سنوات الحرب وانتهت مع نهايتها بعد عودة الأمير إدوارد إلى بلاده.
في تنقلها بين محافل الطبقة الراقية في باريس التقت (مرجريت) بـ (خليل شريف باشا)، كان (خليل باشا) تركى الأصل وقد تزوج في مصر من الأميرة (نازلى فاضل) ابنة شقيق السلطان (حسين كامل) سلطان مصر.
أغدق خليل باشا على (مرجريت) بالمال والمجوهرات الثمينة.. وبعد عودته إلى مصر تعرفت (مرجريت) على (ألبير مصيري)، وهو يهودى مصري من أصل إيطالي كان يدير بنكا بالقاهرة تملكه أسرته ويحمل اسمه.
هذه الصلات شجعت (مرجريت) على اختيار مصر كمنتجع صحى لها حينما أصيبت بمرض صدرى.. في القاهرة اختارت (مرجريت) التي صحبت خادمتها معها النزول بفندق شيبرد بحى الأزبكية.
لتكون فيه محط أنظار رجال الملوك والأمراء الأجانب اللذين يزورون مصر فضلا عن كبار ضباط جيش الاحتلال البريطاني، وذلك بقاعاته الضخمة وما تحويه من صالات الرقص والقمار.
مطاردة النساء في مصر وأوروبا
ألقت (مرجريت) بجمالها وأنوثتها ومظاهر الأبهة التي حرصت على إحاطة نفسها بها في كل تحركاتها حتى استطاعت سنارتها أن تلتقط سمكة ضخمة (عمر باشا سلطان)، و هو أحد الأعيان المصريين والذى هاجمه (محمد فريد باشا) لانهماكه في اللهو وتبديد أمواله في مطاردة النساء في مصر وأوروبا.
كان الرجل الشرقى في هذه الفترة، وتحت نير الاحتلال المستمر يجد متعة هائلة في ترويض امرأة أوربية بعيونها الزرق وشعرها الأشقر وامتلاكها في فراشها بديلا عن الرجل الأوربي.
أحاطها (عمر باشا) بباقات الورود التي كان يرسلها كل ساعة مع أحد عبيده السود أمام حجرتها، حتى أنها لكثرتها أصبحت تجد صعوبة في المرور عبر الردهة.. وإذا دخلت مطعم الفندق وجدته مع حاشيته على المائدة المجاورة.
فاذا أعجبتها قطعة موسيقية سارع (عمر باشا) إلى رئيس الفرقة يطلب إليه إعادة عزفها.. فإذا ما ابتعدت في النهاية إلى مائدة بعيدة وجدته يسبقها مرة أخرى إلى المائدة المجاورة.
تحققت (مرجريت) من سلوكيات عمر باشا من مقولة فرنسية عن الأثرياء الشرقيين بأنهم: (يتحدثون بلسان من عسل و يشيرون بأصابع من ذهب).
وقد تصادف في يوم وجود (خليل باشا) الذى تعرفت إليه في باريس مسبقا بصحبتها فينشب بينه و بين (عمر باشا) شجار عنيف انتهى بمحاولة (عمر باشا) إطلاق الرصاص عليه لولا أن (مرجريت) وقفت بصدرها أمام (خليل باشا) لتحميه فيتراجع (عمر باشا) بمسدسه.
صحبت (مرجريت) خليل باشا تتجول معه بين الآثار الفرعونية في الصعيد لعدة أسابيع كلفته خلالها ما يزيد عن المليون فرنك.. بعد أن تحسنت صحتها غادرت (مرجريت) مصر عائدة إلى باريس لتتزوج عام 1919 من ثرى فرنسى هو أحد المساهمين في سلسلة أكبر متاجر فرنسية.
لكن زواجها لطبيعتها السادية انتهى بعد عام واحد بالطلاق لتبدا علاقتها مع مليونير من شيلى وقع معها عقد عشق بمرتب شهرى 30 ألف فرنك، لكنه ولتعدد علاقاته النسائية تشاجرا سويا مما دفعه لفسخ التعاقد بينهما.
بعد أسابيع عاودتها آلام الصدر مرة أخرى لتعود إلى القاهرة عام 1921 بصحبة ابنتها التي كانت قد بلغت السادسة عشر لتنزل معها في فندق سميراميس، ولتحل ضيفة على صديقها اليهودى القديم (ألبير مصيري).. والذى علمت منه بخبر الوفاة المفاجئة لعمر باشا عن عمر الخامسة و الثلاثين.
الأمير (علي كامل فهمي)
بعد أيام قليلة فاجئها (ألبير موصيري) بتقديم شاب مصري اليها هو الأمير (علي كامل فهمي) الذى انحنى على يدها يقبلها، ويطلب إليها أن تمنحه شرف مراقصتها ليغمرها بعد ذلك بملاحقتها المستمرة.
حتى أنها في النهاية رضخت لإلحاحه المتواصل وقبلت دعوته لحفل عشاء يقيمه تكريما لها على ظهر اليخت الذى يملكه، وحددت بنفسها موعد العشاء يوم 28 فبراير 1922.
لتقف في نفس الموعد على سطح الباخرة في طريق عودتها إلى فرنسا وعلى شفتيها ابتسامة وهى تتخيل مدى الغيظ الذى يشعر به الآن الأمير المغرور.
على سطح الباخرة ومن بعض من يعرفون الأمير عرفت (مرجريت) عنه قصته.. فهو الابن الوحيد مع أربع بنات لعلى باشا فهمى، الذى ترك ورائه إحدى عشر ألف فدان.
كان الأمير حينها لايزال طفلا فتم تعيين عمه وصيا عليه إلا أن (علي) في سن السادسة عشر قد تعرف إلى موظف صغير هو (سعيد العناني) الذى كان يكبره بسبع سنوات.
تذكرت (مرجريت) هذا العنانى الذى يلازم (علي فهمي) ولا يتركه أبدأ.. كان (العناني) من هؤلاء الشبان اللذين تقودهم شهوات عارمة للتمتع بالحياة ولا تكفى مواردهم لتغطية نفقاتهم.
ليسقط كالذباب على الشبان الأثرياء خاصة بعد فصله من عمله الميرى فيوفر لهم ما يشتهون من فتيات الليل، ويشاركهم سهراتهم بحضوره المتميز بالأنس والفرفشة وإلقاء النكات.
كان (العناني) سببا في إفلاس كل من عمل لديهم حتى انتهى به المطاف للعمل مع (علي كامل فهمي) فدفعه لمطالبته عمه الوصى عليه أن يسلمه جانبا من ثروته ليديرها بنفسه، وليثبت لعمه أنه جدير برفع الوصاية عنه.
وقد ساعده (العناني) على ذلك ليبدأ (علي فهمى) في التمرغ في ثروة لا يحدها شطأن، حتى أنه في الوقت الذى لم يكن فيه وجود سيارة شائعا في مصر كان يغير موديل سيارته كل عام، ويقودها بسرعة شديدة في شوارع القاهرة ليلفت انتباه المارة ويربك المرور المزدحم بعربات تجرها الخيول ليفزع راكبيها بمجرد رؤيتهم لسيارته المميزة.
علي فهمي يلحق بمرجريت
كما أنشا لنفسه قصرا في جزيرة الزمالك.. وحينما سألت (مرجريت) عن ارتباطه بفتاة علمت أنه تحت الحاح أمه وإخوته البنات تقدم لخطبة فتاة ابنة باشا، وقد ذهب لبيتها على رأس 20 خادما يحمل كل منهم صندوقا فضيا مملوءا بالمجوهرات متعهدا لأهل خطيبته باستقامة سلوكه.
لكنهم بعد أسابيع قليلة شاهدوه وهو يصحب في سيارته إحدى ممثلات مسرح (نجيب الريحانى) فثاروا لذلك وتم فسخ الخطوبة.. في تلك الفترة تعلق الأمير الصغير بالممثلة الناشئة (فاطمة رشدي)، لكن أستاذها عزيز عيد نصحها بعدم الزواج من هذا الأمير الطائش.
وحين رفعت عليه عائلته قضية حجر لسفه إنفاقه على النساء نصحه (العناني) بالتبرع لعدد من المشاريع الخيرية الضخمة كان إحداها مستشفى للعيون افتتحه السلطان فؤاد بنفسه فنفى عنه تهمة السفه.
أخذت (مرجريت) تفكر في هذه الفرصة التي أفلتتها من يدها.. وكانت تمنى نفسها أن يكون الهوى قد بلغ من هذا الأمير مبلغه ليلحق بها في فرنسا.. وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك بشهرين لتبدأ أحداث مأساة تاريخية شديدة السوداوية.