بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
منذ منتصف الخمسينات.. وحتى ما قبل نكسة 67.. كنا كمصريين قد انتفخنا بهواء القومية والحرية والعزة.. والكرامة.. يعلو كل بالون منا رأس لبى الدعوة.. ومضى مرتفعا.. بأنف شامخة..أنف تريد أن تستنشق أكسجين العالم كله.. لتحرق ما مضى من شعور تاريخي بالمذلة و(الانكسار).. والرضخ تحت نير استعمار.
يأتي كل مرة من بقعة ما من بقاع العالم .. كنا في نشوة الخروج من التيه الحضاري.. والدخول تحت عباءة الريادة.. والانتشاء بأحلام صواريخ الظافر والقاهر.. نستشعر في أذرعتنا.. جبال عضلية هائلة.. نستطيع بها أن نحمل إسرائيل لنرميها في البحر.. كما قال الزعيم الفلسطيني (عبد الخالق حسونة).
كنا من وهم القوة التي نرد بها للإنجليز مسبتهم لنا على الـBBC بأفظع السباب في تحد.. وكنا كشعراء.. أكثر البالونات انتفاخا وزهوا بالألوان.. بل كنا مطالبين في هذا المنعطف التاريخى.. بتصدير المزيد من الهواء في البالونات التي تملأ الشوارع.. والبيوت وعلى الجبهة التي تذوقنا فيها طعم (الانكسار).
فكانت الأغنيات والقصائد.. ليغنى (صلاح جاهين): (النخل في العالى.. والنيل ماشي طوالى).. ويدعونا عبد الحليم للانضمام بالوقوف الى جانبه لأننا (كلنا كده عاوزين صورة).
لنفاجا ظهيرة 5 يونيو.. بالطائرات الإسرائيلية.. تفجر البالونات السائرة مختالة في الشوارع.. و القابعة في سرور داخل الدور.. لنتحول جميعا الى خرق ملونة.. ينبعث من بقاياها دخان أسود خانق.
ترمى الطائرات الإسرائيلية على الجميع.. قنابل خارقة للوجدان.. لتفتته تماما.. وقذائف حارقة للأحلام.. فتبخرها أشباح رعب.. وكوابيس سوداء.. كنت أرى طائراتهم تمضى محلقة في سماء الدلتا.. و قد انعكست الشمس على نجمة داود.
(أمل دنقل) و(زرقاء اليمامة)
كانت الخيبة طاغية.. مرة.. والطعنة قد اخترقت شغاف القلب وأصابتها بـ (الانكسار).. أصبحنا كلنا في الصورة التي دعانا (عبد الحليم) للمشاركة فيها.. مجرد أشباح على نيجاتيف.. كانت الهزيمة على الجنود دماء نزفوها.. وعلى الشعراء والكتاب.. روحا تتخبط ذبيحة في الأعماق.. بكى (أمل دنقل) بين يدى زرقاء اليمامة:
أيتها العرافة المقدسةْ
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى
وفوق الجثث المكدّسة منكسر السيف
مغبَّر الجبين والأعضاءْ
أسأل يا زرقاء
عن فمكِ الياقوتِ
عن نبوءة العذراء
عن ساعدى المقطوع
وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات
ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسَه
في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
وكتب نزار على هوامش النكسة و(الانكسار).. وضربت النكسة (صلاح جاهين) في مقتل فأصابته باكتئاب لازمه حتى موته.. أما أنا فقد تدلت روحى من أنشوطة المشنقة.. فتجمعت قطرات دمائها.. كلمات على أسطر ديوانى الأول (الدنيا هى المشنقة).
و ..
فضلت العمر استني
فوق صخر الٱه واتمني
بابيع ربيع حياتي
وأضيع وسط الزحام
وأقضي يومي كله
في طلوع جبل الرخام
بإيد هشة وضريرة
أضرب عين الضلام
وأتاجر رغم خرسي
في الحكمه والكلام
النمل يفوت عليا
ما يرميلي السلام
وأبكي ف طريق بيضحك
م الشكوي و الٱلام.
……………………
وصبرت ياما ياما
مفيش حتي ابتسامه
حضنت يوم شفتي
ومشيت في سكه ضلمة
في كل خطوة نجمة
تطفيها خطوتي
ومرت الليالي
ومرت الشهور
ومرت السنين
عايش لوحدي أبكي
وأشكي حزين
حزين
عايش لوحدي أصلي
لكن ما اعرف لمين
الآهه غنوتي
أمضغ في دمعتي
واكتم في صرختي
واخنق في كلمتي
و خطبت
و لسه خاطب 15 سنة
أحلم في كل ليلة
أحلام بيضة وجميلة
مليانه بالهنا
وف ليلة دخلتي
كانت ليلة شتا
فرحت بالشتا
و روحت للعروسة
و القلب كله فرحة ولما شيلت الطرحة
لقيتها.. ميتة
لقيتها ميتة
الصحفى المعتقل (مصطفى أمين)
أتذكر الآن حينما كنت في سجن المزرعة.. وبينما كان الصحفى المعتقل (مصطفى أمين) جالسا إلى جوار (شمس بدران) تحت إحدى المظلات.. وقد طالبنى بسماع إحدى قصائدى.. فقرأت له هذا المقطع ليصيح شمس بدران معقبا:
(أنا لو كنت مكانهم.. ما كنتش سجنتك .. كنت شنقتك ).. هكذا كانت قصائد ديواني الأول (الدنيا هى المشنقة).
صرخة في وجه الخذلان.. بكائية علي أعتاب نكسة 67 التي حطمتني ودمرتني نفسيا وجعلتني أبكي بمرارة من فرظ (الانكسار).. وأتفرغ لندواتي في بنزينة صغيرة.. في حي (ميت حدر) بالمنصورة.. ليجتمع حولي آلاف المهمشين في زمن الرغد.. المتصدرين بصدورهم لمشهد زمن الانهيار.. يشاركونني البكاء.
قصائد كثيرة تكدست في أحد الأدراج القديمة في شقتنا المتهالكة.. وعنوانها معروف للكل فى طلخا: (2 شارع الورشة.. الدور الأرضي.. أمام بقال الفقراء (إبراهيم حكام)، الذي وهب نفسه لكل جائع حتي لا ينام بدون عشاء.
كان (إبراهيم حكام) يشتري كل أرغفة العيش الفينو من كل مخابز المنصورة.. نذهب إليه ليلا.. حيث أنه لا يغلق دكانه من أجلنا.. إلا بعد أذان الفجر.. نقدم له ثمن الرغيف فقط ليسألنا عن نوع الغموس الذي نختاره.. البعض يختار جبنه بالطحينة.. والبعض الآخر يختار العسل الأسود مع الطحينة أيضا.. فيهبنا طلبنا مجانا.
(طلخا) بالكامل كانت تتناول العشاء مجانا من عند (إبراهيم حكام) عن طيب خاطر.. بل و كان يهديني ما تبقي من بلاص العسل من بقايا مركزة.. لمعرفته بحبي لكل ما هو،، حلو،، .. كشعب بلدى الذى لم يكن يستحق كل هذا الطعم المر للهزيمة .
توالت ندواتى في محطة بنزين (ميت حدر).. أنعى شعرا شعبا تحطم.. ومستقبلا تداعى.. وماضي تفتت ما تبقى به من ورث من الكبرياء والكرامة.. لم أكن قد اكتشفت بعد أن (عبد الحميد) صاحب البنزينة.. وأعز صديق لي يعمل مع المباحث.. كانت صدمتى شديدة وأصابتني بـ (الانكسار).
(محسن الخياط) ينشر قصائدي
كانت معظم القصائد قد اتخذت طريقها إلى النور.. نشرها (محسن الخياط) في الجمهورية.. فتسببت له في مشاكل كثيرة.. قال ذلك في مقالة كبيره.. وقد تحملها بحسه الفني الوطنى فهو شاعر غنائى يقدر للكلمة ثمنها و ضريبتها.
من أغانيه الجميلة (أحلى بلد بلدي) لمحمد قنديل.. و(لفى البلاد يا صبية).. و(النجمة مالت ع القمر) لعبد الحليم حافظ.. كذلك تكبد نشرها أيضا (محمد جبريل) بحسه الوطنى المعروف في جريدة (المساء).. وفي (التعاون الزراعي).. نشرها أيضا (محمد الماحي) في الشباب العربي مجلة منظمة الشباب.
و نشرها (محمد حافظ رجب) – الذي أحدث انقلابا في عالم القصة – في باب الصيحة، في صحيفه إسكندرانية اسمها (السفير).. في نفس هذا الوقت كان يذيع شاعر من المنصورة اسمه ابن الريف قصائده في إسرائيل.. مع ذلك طرقت كل الأبواب لنشر ديوان (الدنيا هي المشنقة) دون جدوى ..
و..
ملعون كلامك يا صديق لو يتعما
عن شوف مداخن..
نايمه في حضن السما
لكن أساسها جمجمة
……………………
ملعون كلامك لو ما شفت.. المرمي ع الأسفلت..
فوق شوك الضياع
باصص لمركبته..
اللي ماشيه بدون شراع
ربانها مرمي ف حضنها..
من غير دراع
……………………
ملعون كلامك يا صديق..
و تعيش جبان
لو كنت ما شفت العمارة الخانقه..
شمس الفرح قدام الجيران
والدايسه با الجزمه الحديد.. مليون جعان
……………………
ملعون كلامك ..
لو ما شفت الصخرة..
فوق صدر النهار
و الناس مابينها لسه..
أكتر من جدار
واحد في جنة..
وألف مرميين في نار
……………………
ملعون كلامك..
لو ما شفت الحبل..
لافف ع الصريح
والدنيا عاطيه بس..
للقلم الكسيح
والفجر راقص..
رقصة الديك الدبيح
……………………
ملعون كلامك لو رميت مرة
تحيه للي فوق
للي الحياه عنده وصول..
وخداع و سوق
واللي ربط ضهر الحقيقة
بألف طوق
……………………
ملعون كلامك لو ما كان..
يبقي رصاص
أو حتي خطوه تنقطع..
في طريق خلاص
أو حتي طوبة واحدة
من طوب الأساس
……………………
ملعون كلامك ..
لو تقول عني جرئ
ملعون كلامك..
لو تقول عني برئ
ملعون كلامك لو ما جيت..
ويايا في نفس الطريق
للدنيا هى المشنقة.. بقية
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد