بقلم الكاتبة والناقدة اللبنانية: سمر محمد سلمان
لقد كان (رياض السنباطي) من كبار المجددين، لكن ملامح هذا التجديد لم تعجب غلاة المتحمسين للفنون الغربية.
وربما لم تعجب غلاة المتحمسبن لموسيقى التخت وعصر ما اصطلحوا على تسميته بعصر النهضة الذي نشأ في ظله (رياض السنباطي) وتتلمذ على بعض كباره.
كما أن الإعلام (الفني) غير المتخصص قد روج بأن (رياض السنباطي) فنان (كلاسيكي) أي أنه بمفهومهم جامد، وغير متطور.
واضعين كلمة كلاسيكي في معنى مغاير لمعناها الحقيقي، لذا كان من الصعب أن يدركوا قيمة أن يتصف فنان بهذه الصفة الجليلة.
ولعله من المفيد في هذا الصدد أن نحاول توضيح تطور معاني هذه الكلمة ومدلولاتها كما وردت في الكتب والموسوعات الثقافية، لندرك كيف ولماذا كان (رياض السنباطي) مجدداً وكلاسيكياً كبيراً، بل سيد الموسيقيين الكلاسيكيين العرب من دون منازع.
جاء في الموسوعة الثقافية للدكتور ثروت عكاشة: (طبعا وفق المعايير الغربية): (كانت العبارة اللاتينية scriptor classicus أي الكاتب الكلاسيكي) تعني أول ما تعني الكاتب الذي يكتب للخاصة من علية القوم.
وهو على العكس من كلمة scriptor proletarus الذي كان يكتب لسواد الشعب.. ثم ما لبثت كلمة كلاسيكي أن غدت تدل على كل عمل جدير بالحفظ والإبقاء عليه ليكون موضع دراسة.
ثم أصبحت الكلمة لها دلالة أخرى يراد بها الآداب والفنون الحديثة، وإن خالفت القديمة شكلاً ومضموناً، ولكنها وصفت بالكلاسيكية لتساميها.
أما دلالاتها التي تجري على الألسنة الآن فهي كل ما له صلة بالآداب والفنون ويحمل سمات الاتزان والوحدة والانضباط والتناسب.. ثم ما يسمّيه المتخصصون: (البساطة المهيبة والجلال الوقور).
وإذا نحن عدنا لنفند هذه المعاني واحداً واحداً وندقق في دلالاتها المختلفة فسوف نجد عجباً اذ انها بمجملها تنطبق تماما على نتاج الموسيقار (رياض السنباطي)، أي أنه جمع مجد الكلاسيكية من أطرافه.
فكر وثقافة (رياض السنباطي)
فاذا تناولنا المعنى الأول، وهو الابداع للخاصة من علية القوم، لوجدناه ينطبق على نتاج (رياض السنباطي) الذي كان نتاجا يحتاج إلى فكر وثقافة، وذوق من نوع خاص تخللته عشرات القصائد الشعرية الصعبة على العامة والصياغات اللحنية التي تحتاج إلى إنصات وتأمل.
أما المعنى الثاني وهو العمل الفني الجدير بالحفظ، فقد أجمع المتخصصون على أن أعمال (رياض السنباطي) هى أجدر الأعمال الموسيقية بالحفظ والدراسة والتحليل كأي Form أو شكل موسيقي عالمي.
وفق تعبير المايسترو المرموق (مصطفى ناجي) نصًّا (في مقابلة لي معه): (إن رياض السنباطي مؤسس لتقليد جديد وبالتالي يمكننا من هذه الوجهة أن نشبهه ببيتهوفن عند الغرب(.
وأخيرا إذا تناولنا المعنيين الأخيرين لكلمة كلاسيكي لوجدناهما ينطبقان حرفياً على جميع العناصر التي تكون موسيقى (رياض السنباطي)، حيث الاتزان والوحدة والبناء المحكم والتناسب والبساطة المهيبة والجلال الوقور.
وليس أدل على هذه المعاني من قصيدته الدينية (إلى عرفات الله) لأحمد شوقي، التي استطاع فيها (رياض السنباطي) بعبقرية أن يعبر عن حالة النفس التي تتهيأ لزيارة بيت الله وانقطاعها عن صخب الدنيا.
فضلا عن الارتقاء الى حالة من الصفاء والزهد، بزهد مماثل في الزخارف والنمنمات الموسيقية.. عبر لحن هادئ يسير ببساطة مهيبة وجلال وقور على وقع تلك القوافل التي تحمل المشوقين إلى البيت العتيق بفؤاد يخشع وبعين تدمع.
كما أن فن (رياض السنباطي) هو من دون شك من هذه الفنون الحديثة التي خالفت القديم في كثير من عناصره وسمت بالموسيقى الشرقية الى ذرى تعبيرية إيحائية لا مثيل لعمقها في تراث الملحنين العرب.
أما (التسامي) فتلك ميزته التي تتبدى في جميع أعماله من دون استثناء، حتى تلك التي استخدم فيها بعض الإيقاعات الراقصة أو حاكى فيها الأهازيج البهيجة، استطاع أن ينأى بها عن الابتذال.
في رياض الفرح والحبور
وما أنشودة (افرح يا قلبي لك نصيب) إلا أرقى تعبير عن روح تراقص الريح للقاء الحبيب في رياض الفرح والحبور.
وبعيدا عن ذوق النقاد واختلاف أمزجتهم رفضا أو قبولا امتعاضا أو إعجابا، فإن الحقيقة تقتضي قول ما يلي: ليس صحيحا أن (رياض السنباطي) لم يتأثر بالموسيقى الكلاسيكية الغربية.
الصحيح أنه لم يقتبس موسيقى الغرب، لكنه استلهم روحها وبعض صفاتها وصهرها في بوتقة مشرقيته وأنشأها خلقا آخر.
إن الكلام على (رياض السنباطي) يحتاج إلى الكثير من الجهد والدأب والدراسة، ولسنا في صدد تقديم تحليل متعمّق لأعماله الكثيرة المتنوعة كما و أسلوبا وقالبا ولغة.
لذا آثرنا التوقف عند مسألة التجديد والكلاسيكية بشكل خاص لكونها أكثر القضايا التي أثارت جدلاً وتركت غلالة من الغموض في أذهان جماهيره ومحبيه.
واعذروا لي عجز كلماتنا الضئيلة عن الإحاطة بفن أحد أعمدة الموسيقى العربية في الشرق وأحد أغزر وأعمق الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية.