(محمود عوض).. عندليب الصحافة الذي عشق الفن!
كتب: محمد حبوشة
مرت الذكرى الـ 15 على رحيل عندليب الصحافة الكاتب الموهوب (محمود عوض) – رحمة الله عليه، قبل أسبوع، وتحديدا يوم 28 أغسطس الماضي، وهنا لن أن أتحدث عن الكاتب السياسي صاحب المقالات النارية والحملات الصحفية الكاشفة عن الفساد، أو عنه كبلدياتي من المنصورة.
بل أتحدث عن الكاتب الصحفي متعدد المواهب – بحسب شهادات أصدقائه الذين اقتربوا منه – والذين أكدو جميعا أنه أحب قلمه كثيرا، ودفع ثمن استقلالية خطاه، جراء سيره على الأسلاك الشائكة في قضايا والفن، وهو الذي امتلك حسا نقديا فريد ولاذعا ما أن دلف أرض الصحافة الساسية أو الفنية.
في كتاباته الفنية أثبت (محمود عوض) للجميع أنه صاحب قلم متفرد في تناول القضايا والشخصيات الفنية التي ارتبط بها، فقد كون الراحل العظيم صداقات عديدة بالوسط الفني المصري.
اقترب (محمود عوض) من المشاهير أمثال: (طه حسين، وتوفيق الحكيم، وأم كلثوم وعبد الوهاب، وعبد الحليم، والشيخ الباقوري)، وتسابق إليه النجوم ليكتب مذكراتهم وأصبح صديقا لأغلب المشاهير.
وارتبط (محمود عوض) بصداقة كبيرة مع عندليب الغناء (عبد الحليم حافظ)، حتى عرف بكاتم أسرار عبد الحليم حافظ، والمفارقة أنه لم يستجب لصديق عمره (عبدالحليم حافظ)، رفض أن يكتب عنه هو الآخر كتابا، وإن كان عوضه بالمسلسل الإذاعى الوحيد الذى كتبه وهو (أرجوك لا تفهمنى بسرعة).
وكتبه لأن (عبدالحليم) اشترط أن يكون هو الكاتب إذا أرادوا أن يقدم عملا إذاعيا، والمفارقة أن المسلسل أذيع فى رمضان 1973، فلم ينل فرصة الاستماع الجيد فى إذاعته الأولى، بسبب أخبار الحرب التى قطعت الطريق على كل شىء بداية من اليوم العاشر من الشهر الكريم.
لم يهب عظماء عصره
لم يستغل (محمود عوض) قربه من الفنانين لتحقيق نجاحات مهنية، فاستمر أسلوبه النقدي كما هو طوال حياته الصحفية التي امتدت لنصف قرن تقريبا، وهو الذي لم يهب عظماء عصره؛ فقد تحدث عن كوكب الشرق كما لم يفعل أحد.
وكما هو ثابت تاريخيا فإن (محمود عوض) عامل (أم كلثوم) بندية أحيانا، فصار مقربا منها في وقت لم تصادق فيه سوى رؤساء تحرير الصحف، وانتقد (محمد عبد الوهاب) في كتاب عن سيرته.
ومع ذلك يمكن أن تتعامل مع (محمود عوض) على أنه كاتب سيرة المشاهير، فهو صاحب كتاب (أم كلثوم التى لا يعرفها أحد)، وكتاب (محمد عبدالوهاب الذى لا يعرفه أحد).
ورغم أن كثيرين من الفنانين حاولوا أن يدفعوه للكتابة عنهم، فإنه رفض تماما، عندما قرر أن يكون كاتبا سياسيا، فعلها مع فريد الأطرش، رفض أن يكتب عنه حتى مقالا واحدا، واحتج وقتها بأنه لا يكتب إلا عن أحبابه.
يقول الكاتب الصحفي (خيري حسن)، صديق الكاتب الراحل: ربما ذلك ما جعل صداقة (عوض) تدوم طويلا مع الملحنين (بليغ حمدي ومحمد الموجي)، وفي المقابل كان الصحفي الراحل حاسما مع من لا يريد الكتابة عنهم.
ويستكمل (خيري حسن) قائلا: إن فريد الأطرش عرض عليه شيك بمبلغ مالي مقابل كتاب عن حياته فلم يقبل: (محمود عوض قال لفريد: أنا مش حاسك).
ولم تكن علاقة (محمود عوض) بسيدة الغناء العربي شيء عابر، إذ قال بأحد الحوارات الصحفية إنه وافق على تكليف لإجراء حديث معها من باب التحدي، وعقب اتصاله بها وتأجيلها ميعاد الحوار تسع مرات، حادثها في المرة العاشرة ليقول: (لو حضرتك مش موافقة على الحوار هبلغ أستاذ إحسان يعفيني من الصفحة).
فأخبرته (أم كلثوم) أن يذهب لها في الحال.. وعقب كتابة الموضوع الذي كان باسم (أم كلثوم التي لا يعرفها أحد) طلبت من الصحفي – المبتدئ وقتها – تغيير عنوانه، فسألها (مين بيفهم في الغنا أكتر أنا ولا انتي؟، قالت له أنا، فقالها وأنا بفهم في الكتابة أكتر).
وهنا السؤال يقول (خيري حسن): لماذا يجامل (محمود عوض) أم كلثوم إذا كان باستطاعته أن يقول رأيه بصراحة؟، كان ذلك هو هدفه من كتاب (أم كلثوم التي لا يعرفها أحد) الذي سطره فيما بعد بناء على رغبة سيدة الغناء العربي نفسها.
لم ينتقد كوكب الشرق بكتابه
لم ينتقد (محمود عوض) كوكب الشرق بكتابه، لكن مبدأه كان: (إذا كنت معجبا بأحد على حق، فيجب أن أعبر عن هذا الإعجاب وأنا واقف على قدمي)، لذا نادرا ما يمرر الكاتب الراحل أي إجابة لها دون التعليق.
فسألها خلال إحدى الجلسات: (لماذا أصبحت فنانة؟)، لتقول: إنها لم ولن تستطيع ولا تريد أن تكون أي شيء آخر، فباغتها قائلا: إن ذلك غير متسق مع اهتمامها بمنزلها وزوجها، فعملها إذا ليس كل حياتها، لكنها ردت بأن الأمرين لا يتعارضان سويا، خاصة أن زوجها يحترم ما تقوم به.
في كتابه عنها حافظ (محمود عوض) على التمرد، وثق جزء من حياة سيدة الغناء العربي، تارة بعين صحفي لا يتدخل، أخرى بعين (المناكف) لإخراج أقصى قدر من التفاصيل.
أو بنظرة جمهور يحب ويقدر ويحاسب إن لزم الأمر، لم يكن كتابه إلا انعكاس لشخصه الزاهد في تفصيلة تحمل (فرقعة) إعلامية أو صدى زائف، لذا لم يرغب في الكتابة عن الفنان عبد الحليم حافظ.
في بداية السبعينيات وبينما (عبد الحليم حافظ) في أوج مجده، إذا به يطلب من (محمودعوض) كتابة مسلسل إذاعي له، فأشاح عنه الصحفي مستهزئا، ما اضطر (حليم) إلى حبسه في شقته بالإسكندرية ووجه له رسالة:
(لن تخرج من هنا إلا وفى يدك المسلسل)، وقتها قرر (محمود عوض) الانتقام منه وكتب قصة بطولتها جماعية في وقت كان (حليم) النجم الأوحد في التمثيل والغناء، وفق رواية الإعلامي (يسري فودة) في مقاله (رجل مهم في زمن تافه)، وكان (أرجوك لا تفهمني بسرعة) المسلسل الأول والأخير للعندليب.
كان (عبد الحليم) ضمن الذين طلبوا من (محمود عوض) كتابة مذكراتهم، لكنه رفض احتراما لمن يقرأون له، فوفق رواية (هشام عيسى) الطبيب الخاص لـ (حليم) أن الأخير سأل الكاتب: (هل ترى يا محمود أننى لا أستحق أن يكون كتابك الثالث عنى؟).
فجاء رد (محمود عوض): (ليه يا عبدالحليم انت تستحق أربعة كتب لا كتابا واحدا)، وعن تلك الواقعة يروي (خيري حسن) أن الكاتب الراحل برر عدم خوضه التجربة قائلا: (عبد الحليم عايش جوايا، فمش عارف أكتب عنه، لازم أبعد عنه عشان أقدر أكتب).
إلا أنه عكف بعد ذلك على كتابة (عبد الحليم الذي لا يعرفه أحد)، وهو المشروع الذي لم يكتمل بوفاة عبد الحليم نفسه.
لكن معارضة (محمود عوض) للعندليب، لم تمنعه من رد غيبته عقب وفاته، فتحدث لمجلة الإذاعة والتليفزيون مكذبا رواية الإعلامي (مفيد فوزي) عن زواج عبد الحليم وسعاد حسني.
كما نفى في برنامج (الطبعة الأولى) في أغسطس 2007، أن يكون مصرع (سعاد حسني) بسبب مذكراتها لأنها لم تكتب مذكرات، ولا حتى كانت تهوى الكتابة.. تلك الصراحة المطلقة كانت الطريق لثقة الموسيقار (محمد عبد الوهاب) بصحفي الأخبار النابه.
كسر تابوهات الفن والأدب
وعندما طلب منه (عبد الوهاب) أن يكتب عنه، جلس (محمود عوض) مشدوه النظر إلى الموسيقار الكبير، يراقب مكالمات تليفونية تأتي لمنزله بين الحين والأخر، صوته الرخيم بين الضحك والغضب، جلسته المميزة على مقعده الوثير.
تتسارع الأفكار داخل عقل الكاتب؛ من أين يبدأ مع صاحب تاريخ طويل بالفن والغناء والطرب؟.
تتبادر الأسئلة لذهنه: (لماذا إذن لا نزيل الأصباغ على وجه عبد الوهاب؟، لماذا لا نؤجل الممثل.. ونبحث عن المخرج؟، لماذا لا نفرز الشائعات في فن عبد الوهاب؟، لماذا لا نترك المسرح وندخل وراء الكواليس؟)، فكانت تساؤلات الكاتب مقدمة كتابه (محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد).
وكعادته في كسر تابوهات السياسة والفن والأدب، جاءت حكايات (محمود عوض) عن موسيقار الأجيال صادقة، لم يكن احتفائيا، بقدر محاولته نقل طبيعة الشخصية، زيجاته الثلاث، علاقته بأمير الشعراء، فلسفة أغاني الحب وتطورها بتطور المجتمع (الحب في أغاني عبد الوهاب هو حاكم بأمره، وشايل جناحه على قانونه، غذاء فيه القلوب تختار).
يتحدث (محمود عوض) عن مستقبل الغناء في عصره (عبد الوهاب ليس ثائرا.. إنه – بالكثير – متمرد.. إنه يتقدم إلى الأمام خطوتين.. مرضيا في نفسه نزعة التجديد، ولكنه يتراجع إلى الوراء خطوة واحدة.. مرضيا فينا نزعة الطرب).
وهكذا نرى من متابعة كتابات (محمود عوض) الفنية، أنه كان متمردا بطبعه، لا يلتزم بقيد أوشرط في متابعة السيرة الذاتية لأم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبد الحليم، بل كان جسورا في آرائه في التفرقة بين حبه للفنان وأن يكتب عنه شهادة للتاريخ.
فقد كان الراحل العظيم (محمود عوض) يستطيع أن يحييد مشاعره في الكتابة عن ما أحب من نجوم الفن، انطلاقا من أن التاريخ سيحاسبه على آرائه في هؤلاء النجوم، لذا آثر الحياد الإيجابي في كتاباته الفنية، التي كان يمارس فيها الهواية، لكنها حتما كانت تختلط بمهنيته العالية في فن الكتابة الصحفية.. رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما أمتعنا بكتاباته الخالدة.