بقلم: محمد حبوشة
رحل السيناريست والأستاذ بمعهد السينما المبدع (عاطف بشاي)، خلال الساعات القليلة الماضية، حزينا على أحوال الفن في مصر، وهو الذي يعتبر واحدا من أبرز كتاب السيناريو في مصر، حيث قدم العديد من الأعمال التي تركت بصمة واضحة في تاريخ السينما والدراما التلفزيونية المصرية.
تميز أسلوب السيناريست (عاطف بشاي) بالواقعية والعمق النفسي، حيث كان يركز على دراسة الشخصيات وتفاصيل حياتهم اليومية، مما جعله قادرا على تقديم لوحات واقعية للمجتمع المصري.
كما كان يتميز بقدرته على طرح القضايا الاجتماعية الشائكة بطريقة فنية مبتكرة، مما جعل أعماله تثير الجدل، وتشجع على التفكير.
رحل واحد من أهم مؤلفي الدراما المصرية، وأحد رموز الفن المصري، وواحدا من كبار كوادر التأليف الدرامي في مصر، كتب العديد من الأعمال التي علقت في أذهان المشاهد العربي، ما جعله يترك لنا مسيرة فنية غنية الأعمال التي لا تنسي على مر تاريخه الفني.
قدم (عاطف بشاي) تاريخ فني كبير بين السينما والدراما يصل إلى حوالي 60 عملا، وأبرز تلك الأعمال: (تاجر السعادة 2009، عمارة يعقوبيان2007، شخلول، والسندريلا 2006، الكلام المباح 2005 ، هكذا دواليك 2004، إلى أين تأخذني هذه الطفلة، وناس وناس ج1 1989).
أيضا في نفس العام قدم: (نقل مخ 1989، اللقاء الثاني، والمجنون، وصاحب العمارة 1988، الملائكة لا تسكن الأرض، المنحوس، قبل الوصول لسن الانتحار، وكل شيء قبل ما ينتهي العمر، محاكمة علي بابا، ويوميات ست عصرية 1987، الحلم القاتل 1986، الوزير جاي 1986 إلى من يهمه الأمر، وفوزية البرجوازية 1985).
وغيرها من أفلام مثل (المصيدة 1981، تحقيق1980 ، الوليمة 1979، أربعة فى خمسة، التوأم، الرحلة، فيلم، أمهات لم يلدن أبداً، ثلاجة بالتقسيط المريح).
الفن خطابه جمالى
فى رحيله اخترت أبرز تصريحاته في حوار له مع (اليوم السابع)، قدم فيه رؤية كاشفة للحالة الفنية في مصر بقوله: (نحن لم نكن بحاجة إلى معايير حقيقية لصناعة الدراما، وصياغة معايير للعمل الدرامي، وهذا لا يعد ردة حضارية، ويعود بنا إلى العصور الوسطى، كما يتصور البعض!!!
وأضاف: الفن خطابه جمالى وليس أخلاقى ولا ديني، فالفن لا علاقة له بالحلال والحرام، الحلال والحرام يقيمه رجال الدين، أم الفن يقيمه النقاد، وهناك فارق كبير بين الخطاب الفنى والخطاب الدينى والأخلاقي.
الفن يعنى الخيال والخروج عن المألوف، وتصور ما وراء الواقع، كل هذه الأشياء يعالجها الفن، ويقدم كل النماذج البشرية.
وقال (عاطف بشاي): بالتأكيد أنا ضد استخدام الألفاظ البذيئة والخارجة فى الأعمال الدرامية، ولن تجد أى عمل لى استخدمت فيه لغة متدنية أو لفظ خارج، لكن طريقة التعامل مع الموضوع جاء بشكل خاطئ.
فمثلا ما يقدمه رامز جلال فى برامجه، من شتائم وتحرش بالضيوف، واستخدام ألفاظ بذيئة لا يجوز أن تعرض على شاشات التليفزيون، هل عندما تضع صوت على الألفاظ البذيئة لمحاولة طمسها يعنى أنك قمت بواجبك فى حماية المجتمع وتهذيب الفنون؟ طبعا لا.
لأنه سيظل هذا البرنامج رديء وضد الأخلاق والقيم وضد الفنون وضد (كل حاجة فى الدنيا) حتى لو حذفت الألفاظ، دعنى أقول لك (الدراما والسينما لم تفسد شيئا، أشياء أخرى كثير أفسدت الناس منها التعليم المتدني)
وعن البدائل من وجهة نظره: أكد عانينا معاناة مرعبة خلال سنة حكم الإخوان، بسبب محاولاتهم طمس الفن والإبداع، الفن بناء درامى يحتمل الخير والشر ويحتشد بالأسوياء وغير الأسوياء.
ويقدم الفضليات والعاهرات، فهو تعبير عن الواقع لاستخلاص الحكمة، وإلا كنت حرقت كل كتب وروايات الكاتب دوستويفسكي، وشكسبير لأن معظم مسرحياته تنتصر للشر، هل معنى ذلك أن شكسبير ليس مبدعا؟ كذلك الأمر بالنسبة لكتب وروايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
ويجب النظر فى المحتوى ذاته، ومن يكتب المحتوى، لا يمكن أن تأتى بكاتب مثقف وفنان وصاحب رؤية ومفكر وقارئ جيد، ويستخدم ألفاظ فى السيناريو الذى يقدمه مثل (روح أمك) و(فشخ) وغيرها من الألفاظ التى يتم ترديدها فى الأعمال الدرامية، المقياس ليس فى إزالة الألفاظ البذيئة.
يجب أن تتدخل الدولة
ولكن يجب أن تطلع على المحتوى أولا، وإن وجدته غير مناسب ورديء لا يتم عرضه من الأساس، وأصبحت (مصيبة) أن تجد كاتب السيناريو نفسه يستخدم هذه الألفاظ فى حياته، فمن الطبيعى أن يكتبها فى أعماله ومؤلفاته.
وشدد (عاطف بشاي): يجب أن تتدخل الدولة لإنتاج الأعمال الدرامية، وأن يكون تدخلها بالمال، وتوفير التمويل اللازم لإنتاج أعمال حقيقية، وإحياء إنتاج قطاع التليفزيون وصوت القاهرة، لأن إهمالهما كانت نتيجته هى ظهور الدراما المسفه.
الدولة كانت تقوم بالإنتاج سابقا، وفى الستينيات تجد أفلاما مثل (الأرض والمومياء)، وأفلام الرائع يوسف شاهين، وهذه الروائع كانت تخرج بدون فرض وصاية أخلاقية، لأن الفنان أو المبدع كان يشعر بالمسئولية المجتمعية من داخله، بدون حاجة لفرض وصاية عليه.
وتساءل (عاطف بشاي): أين قطاع التليفزيون، هذا الذى ولد عملاقا وانهار، أنا شخصيا كتبت ما يزيد عن 15 فيلما من إنتاج كلاسيكيات التليفزيون، وأفخر بذلك، وكانت بعض أعمالى تعرض بدون أن تمر على الرقابة، وذلك بشجاعة من (ممدوح الليثي)، لأنه كان يؤمن أن الرقابة الحقيقية تنبع من داخل الفنان.
وأن تقييم الأعمال الفنية يتم من خلال النقاد، ودعنى هنا أقول لك أن عهود التحضر والعصور التى بها الفنون مزدهرة هى العصور التى كان بها حركة نقدية عظيمة.
أؤكد مرة ثانية على وجوب تدخل الدولة، ليس بسلطتها، ولكن بمالها، لأنها حريصة على أن يتم إنتاج أعمال لها قيمة، التليفزيون نشأ ليكون خدمي، وتم اعتباره من القطاعات الخدمية، ولذلك كان يتم إنتاج أعمال قيمة.
ولم يكن الفنان أو نجم العمل يحصل على أجور بملايين الجنيهات (عشان يظهر وهو بيقتل فى الناس بسنج ومطاوي).
وعن الأجور المرتفعة للنجوم قال (عاطف بشاي): للأسف الشديد، لأن الفن كله والأعمال الدرامية تحولت إلى تجارة، وتحولت من فن مسئول عنه فنانين ومبدعين إلى سلعة مسئول عنها منتجين وممولين وأصحاب رؤس أموال، فمن الطبيعى أن يسعى كل طرف للحصول على نصيبه، بما فى ذلك الممثلين.
كنا فى السابق نعتبر الأعمال الدرامية من مسلسلات وأفلام، فن وصناعة وتجارة، والآن أصبحت تجارة فى المقام الأول، وصفقة تجارية، تهدف للربح فقط، و(سبوبة) دون النظر للمحتوى.
الورش أفسدت الكتابة
وصمم (عاطف بشاي) على أن ورش الكتابة، أفسدت فن كتابة السيناريو، من بدأها بالأساس يرى أن كتابة السيناريو صنعة وليست فنا، ومن هذا المنطلق تم ترويج هذه الكارثة، التى ستقضى على الدراما، لأن فن كتابة السيناريو فى سبيله للانقراض.
وهذه حقيقة يؤكدها تترات المسلسلات التى تجد فيها 3 و5 كتاب للسيناريو، وهم جميعا فهموهم أنها ليست موهبة ولكنها صنعة، وتحول السيناريو لصنعة يكتبه (أسطى وشوية صبيان)، وذلك رغم أن كتابة السيناريو فن يستدعى الموهبة والثقافة العامة الضخمة والدراسة الأكاديمية.
فى السابق، كان كاتب السيناريو له تاريخ طويل، (أسامة أنور عكاشة) مثلا كان كاتب قصة، و(يسرى الجندي) كان مؤلف مسرحي، وأنا كنت رسام وناقد، وجميعنا عشقنا فيما بعد كتابة السيناريو، فهو موهبة تتعلق بالثقافة العامة والدراسة الأكاديمية المتخصصة.
بعض الذين يكتبون حاليا، لا يقرأون، و(معهمش إعدادية، ولديهم أخطاء إملائية ونحوية كثيرة، ومن الممكن أن يكتبوا أعمال (تطربق الدنيا من الإعجاب)!
يؤكد (عاطف بشاي): فن كتابة السيناريو، مثل كتابة الشعر، وكما أن الشاعر له أسلوبه الخاص، كاتب السيناريو كذلك، كيف تطلب منى أن أصدق أن مجموعة من البشر يمكن أن يحدث بينهم انسجام فكرى لكتابة سيناريو واحد؟ كل شخص له فكرة وطريقته وأسلوبه وخلفيته.
ولهذا ترى الكثير من الأعمال الدرامية الحالية، لا يوجد اتساق فى أحداثها وأبطالها، ومن الممكن أن تقص بعض الشخصيات والمشاهد ولا يحدث أى خلل فى السياق، ومن الممكن أن تختفى شخصيات وتظهر أخرى دون أى تأثير، وكما وصفهم الكاتب الكبير وحيد حامد بأنها أعمال مثل ملابس المجذوب، عبارة عن (رقع).
آخر أعمالى كانت مسلسل (تاجر السعادة)، وعرضت بعض الأعمال فيما بعد، لكن الغلبة الآن للاتجاهات السابق ذكرها، أنا وأبناء جيلى تعودنا أن نطلب، لا أن نلهس وراء شركات الإنتاج، فعز علينا أنفسنا، نحن أصبحنا ضيوفاً على مائدة الكتاب الجدد خريجى ورش الكتابة.
وتحدث (عاطف بشاي) في أسى: أنا وأبناء جيلي، أمثال (يسرى نصر الله، وبشير الديك، ولينين الرملي، ومحمد حلمى هلال، ومحمد جلال عبد القوي، ومحفوظ عبدالرحمن – الله يرحمه – فشلنا فى أن نتكيف فى الزمن الحالي، (ومبقاش حد عاوزنا).
أنا حاليا غير مرغوب، لأن المنتح فاهم من الأول أن أنا هقوله (لأ) أننى فى وجه نظره شخص (نمكي، وبايخ) وغاوى فلسفة، و(مبسمعش الكلام) ولا أسمح بأن يملينى المنتج أو الممثل أو البطل أن أكتب شيء معين.
فى السابق كان كتاب السيناريو عددهم محدود ومعروفين بالاسم وتاريخ كل منهم، أما حالياً، ورش الكتابة انتجت عدد ضخم من كتاب السيناريو (منعرفش نزلوا من السما ولا جم منين).
مئات المقالات النقدية
وأخيرا قدم (عاطف بشاي 296 مقالا نقديا في (المصري اليوم) وغيرها من المئات الأخرى في (روزاليوسف) – كنت أستمتع بها أسبوعيا – شرح فيها بعمق ملاحظاته حول أحوال الفن والمجتمع، وأثر التعليم في حياة المصريين، مؤكد أن إصلاح التعليم من شأنه علاج الخلل في منظومة حياتنا.
في آخر مقالاته بعنوان (بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس) يقول: هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك تماما الفروق الجوهرية بين لغة الأدب وبين اللغة المرئية، وأن القصة أو الرواية المقروءة تختلف اختلافا كبيرا فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة.
ومن ثم فإن السيناريو فن قائم بذاته ولذاته.. ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معد أو ناقل أو محاك للرواية الأصلية.. وإنما هو ينشئ عالما كاملا يوازى عالم الروائى.. يتفق معه فى المضمون الفكرى.. هكذا كانت رؤيته لفن السيناريو الذى كتبه ودرسه لطلاب معهد السينما.
السلام لروح (عاطف بشاي) الذي يعد من كتاب السيناريو أو المؤلفين الذين لا ينساقون وراء (أي ورق)، إنما سيناريست من العيار الثقيل، وعندما تشاهد له عمل فني، فإن خفة ظله لا تؤثر إطلاقا على الرسالة التي يبغي أن يوصلها للمشاهد، إنما تعمل على جذبه لها.