بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
من جديد يثبت العدوان الإسرائيلي على (غزة) أن له الفضل فى فضح الصلة الوثيقة التى تربط تل أبيب بمعظم دول الغرب التى فضلت تغليب مصالحها الاقتصادية على أي اعتبارات أخرى.
فقبل أيام قليلة طالبت الحكومة الدنماركية، من المحاكم الوطنية رفض دعوى قضائية رفعتها أربع منظمات إنسانية ضدها بتهمة (المساهمة في الحرب غير القانونية على غزة)، بحجة أن من يرفعها غير متأثر مباشرة بتلك الحرب، ولأنها (مرفوعة من قبل منظمات، لا أشخاص)
تلك الدعوى جاءت على خلفية قصف طائرات (إف 35) الإسرائيلية للمدنيين الفلسطينيين في (غزة)، وعلى اعتبار أنها تحتوي على قطع تصنعها شركة (تيرما) للتقنيات العسكرية الدنماركية.
وهو ما اعتبرته المنظمات الأربع بمثابة انتهاك (كوبنهاجن) للقوانين الدولية، ليدعي وزير الخارجية الدنماركي (لارس راسموسن)، من جانبه إن حكومته (غير مذنبة) في تصدير غير قانوني للأسلحة، ومشدداً على أنه لن يسمح للمحاكم الدنماركية بأن تقرر ما إذا كان من غير القانوني تزويد إسرائيل بمعدات (إف 35).
تغليب المصالح على حقوق الإنسان
هذا السجال السياسي والحقوقي، جاء كاشفا معه عن الموقف الدعم لإسرائيل في (كوبنهاجن)، منذ بدء العدوان على (غزة)، وفضح معه كيف فضلت حكومة (ميتا فريدركسن)، تغليب مصالحها السياسية والاقتصادية مع تل أبيب على وقف نزيف الدم الفلسطينى، ومناصرة حقوق الإنسان التى طالما ظلت تدعى زيفا أنها خير من يحميه ويناصره.
وبالطبع ليس هذا السجال ليس وليد اليوم، بل تعود تفاصيله لمارس الماضي، حينما قررت أربع منظمات إنسانية دنماركية، وهى (العفو الدولية -أمنستي) و(الحق الفلسطينية لحقوق الإنسان)، و(أوكسفام إيبيس)، و(التعاون بين الشعوب).
رفع الدعوى ضد وزارة الخارجية والشرطة الوطنية في (كوبنهاجن)، المسؤولتين عن منح ترخيص التصدير العسكري، والتعاون على ملاحقة قضائية للحكومة الدنماركية على استمرار سماحها بتصدير المعدات لإسرائيل.
لكن المثير للاستغراب، هو زعم محامي الحكومة الدنماركية فى حينه أن رافعي الدعوى لم يتأثروا بشكل ملموس أو فردي من القصف الإسرائيلي والحرب، وأنه ليس لدى المنظمات غير الحكومية الحق القانوني في رفع دعوى قضائية ضد الحكومة أمام المحاكم الوطنية).
وهو ما رد عليه الأمين العام لـ (أمنستي)، (فيبي كلاروب)، بقوله: (نحن بالطبع مندهشون)، متسائلاً: (هل تعتقد الحكومة الدنماركية حقاً أن احترام القانون الدولي لا يمكن اختباره في المحاكم الدنماركية؟).
وأضاف: (إذا لم تكن لهذه المنظمة التي تعمل في جميع أنحاء العالم لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي حق ومصلحة قانونية في محاكمة هذه القضية، فمن سيفعل ذلك؟).
كما فنّد الأمين العام لمنظمة (أوكسفام)، (لارس كوك)، موقف بلاده، مذكراً (بأنه لدى المنظمة نحو 30 موظفاً في غزة، يعملون على مساعدة السكان المدنيين بالمساعدات الطارئة، وهم يتأثرون بشكل ملموس، وفردياً، بالقنابل التي تسقط عليهم”.
(تيرما) و(ماي ديفينس)
وتنبع حساسية القضية من أن شركة (تيرما) تقدم إلى طائرات (إف 35) قطعاً مسؤولة عن التحكم بالطائرة وعن إطلاق الصواريخ، ومع تكرار استخدامها في قصف المدارس والنازحين المدنيين بـ (غزة) تصاعد الانتقاد الحاد للانتهاك الدنماركي لاتفاقيات منع الاتحاد الأوروبي تصدير المعدات العسكرية.
إذا كان هناك خطر أن تساهم في انتهاك قوانين الحرب المتعلقة بحماية المدنيين.
كما لاقت التحذيرات القانونية من أن (كوبنهاجن) تنتهك القوانين الدولية، أصداءً لدى الساسة والرأي العام الدنماركى، إذ أرسل ثلاثة وزراء خارجية سابقون، هم (فيلي سوندال) و(مارتن ليدجورد) و(موينز لوكاتوفت)، رسالة مشتركة.
اعتبروا فيها أن (من الجيد للدنمارك أن يكون هناك مجتمع مدني يستطيع الضغط عندما يكون هناك خطر يتمثل بضلال السلطات)، مشيرين إلى أن (القصف الإسرائيلي وتجويع السكان المدنيين في غزة دخلا منذ فترة طويلة كتب التاريخ باعتبارهما شكلاً عنيفاً غير عادي من أشكال الحرب).
ومؤكدين أن (المذبحة في غزة لا يمكن تحمل مشاهدتها، وكان ينبغي وضع حدّ لها منذ فترة طويلة من خلال ضغوط هائلة من جانب الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الآخرين، بما في ذلك الدنمارك).
وبعد اندلاع العدوان على (غزة) بشهر واحد كشف تحقيق أجرته مؤسسة (دان ووتش) الإعلامية وصحيفة (إنفورماسيون) في (كوبنهاجن) أن شركة (تيرما) متورطة في تزويد الجيش الإسرائيلي بمعدات عسكرية، أودت بحياة آلاف الفلسطينيين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ كشفت تقارير إعلامية دنماركية فى يناير الماضى، عن قيام شركة (ماي ديفينس) الدنماركية للتقنيات العسكرية بتزويد الجيش الإسرائيلي بمعدات (تزيد من قدرته في غزة).
وذلك في تجاوز للقوانين المتعلقة بمراقبة التصدير العسكري التي تفرضها سلطات (كوبنهاجن)، ويتعلّق الأمر بما يسمى (أنظمة حماية من هجمات طائرات مسيرة تسمى (بيتبول)، و(وينجمان) في (غزة).
واعترف فى حينه مدير الشركة (دان هيرمانسن) لمؤسسة (دان ووتش)، بأنه جرى التواصل معه من قبل متخصصين في الجيش الإسرائيلي، (كانت لديهم حاجة ملحة، وسألونا عن الكمية التي لدينا من الطائرات وكم يمكننا تأمينه بين الحين والآخر، وأجبتهم بأننا سنرى ما يمكننا فعله).
مرتزقة فى الجيش الإسرائيلي
بالطبع لا يقف الأمر عند حد تزويد إسرائيل بعتاد عسكري دنماركى، بل يتخطاه لمرحلة أبعد من ذلك، ففى يناير الماضى، كشفت قناة (دي آر) الدنماركية عن التحاق مواطنين دنماركيين بالجيش الإسرائيلي للمشاركة في العدوان على (غزة).
وفضحت وجود حالة ممنهجة لجلب المرتزقة عبر مؤسسات ومنظمات صهيونية فاعلة في الدول الاسكندنافية.
الأخطر من ذلك، هو ما نقلته القناة عن (كيرين داهان)، الرئيسة التنفيذية لمنظمة (SAR-EL ) الصهيونية، التي تعتبر من أنشط المنظمات التي تعمل على تجنيد المواطنين الاسكندنافيين في الجيش الإسرائيلي وتعمل بصورة علنية وتحت أنظار السياسيين والأمنيين في الدنمارك والسويد والنرويج وفنلندا.
ومسؤولة عن سفر مرتزقة للقيام بمساعدة الجيش الإسرائيلي في مهام كثيرة، كالصيانة واللوجستيات، بقولها (إن الكثيرين يأتون من الدول الشمال أوروبية) زاعمة أنهم (يقومون بمهام غير مسلحة، وأن ما بين 4 إلى 5 آلاف شخص يقومون سنوياً بأعمال تطوعية في الجيش الإسرائيلي).
منظمة (SAR-EL ) الصهيونية
كما نقلت (دي آر) عن الرائد في الجيش الإسرائيلي، (إيناف ليكيت)، قوله (إن تأثير هؤلاء المرتزقة ضخم) في الحرب، مشيراً إلى أنهم (يمكثون عادة بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع في الثكنات، ويقومون بأشياء لا يهدر الجنود أوقاتهم فيها ليركزوا على عملياتهم العسكري، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي (يحتاج يومياً إلى 700 متطوع).
الأكثر دهشة فى هذا السياق، هو حديث قناة (دي آر) عن أنها وضعت المعلومات أمام جهاز الاستخبارات الدنماركي (PET)، الذي يراقب ما يسمى بـ (الاتجاه نحو التطرف).
منذ أن بدأت ملاحقة بعض الشبان الذين سافروا إلى سوريا واتُهموا بـ (الخيانة) لالتحاقهم المفترض بتنظيمات إسلامية متشددة، أو القتال في صفوف (كيانات أجنبية)، ويقضي بعضهم أحكاماً طويلة تتراوح بين 12 و16 عاما.
وقالت (دي آر) إنها سألت الاستخبارات عما إذا كانوا (يقومون بمراقبة أو يعرفون أشخاصاً سافروا أو يخططون للسفر إلى غزة للانضمام إلى حماس؟).
فوصل القناة رداً مكتوباً ومختصراً: (يتابع جهاز الاستخبارات عن كثب الوضع في إسرائيل وغزة، والعواقب المترتبة عليه فيما يتعلق بالدنمارك وبالأشخاص المقيمين في الدنمارك).
ومن جانبها، أشارت قناة (دي آر) إلى أن القانون الدنماركي يمنع التحاق المواطنين في جيوش أجنبية ولو كانت تحت مسمى “الخدمة العسكرية الإلزامية).
مؤكدة أن هناك (دنماركيين يتلقون تدريبات عسكرية، بالإضافة إلى قيامهم بأعمال إغاثية وبعضهم يؤدي الخدمة العسكرية في إسرائيل).
وقالت (دي آر) إن وزارة الخارجية الدنماركية حولت طلبها للتعقيب على التقرير إلى وزارة العدل، واكتفت الخارجية بالإشارة إلى أنها (تنصح بعدم السفر إلى المناطق الحدودية مع (غزة).
وأي سفر غير ضروري إلى جميع أنحاء إسرائيل، بغض النظر عن الغرض من السفر، أما وزارة العدل، فجاء ردها المكتوب على (دي آر) واضحاً في انحيازه، وقالت فيه (تؤكد الوزارة أنه ليس جريمة جنائية أو غير قانوني الدخول إلى إسرائيل أو الإقامة فيها والقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي).
لكن على ما يبدو أن المستوى الأمني والسياسي في الدنمارك ليس مهتماً كثيراً بما تقوم به المنظمات الصهيونية من عمل وتجنيد مواطنين يهود أو من مؤيدي إسرائيل.
كما يشار إلى أن حزب (اللائحة الموحدة) اليساري طرح إشكالية الازدواجية في تعاطي جهازي الاستخبارات المدنية والعسكرية مع الدنماركيين المنضمين لصفوف تنظيمات مسلحة في سوريا وأولئك المنضمين كجنود في الجيش الإسرائيلي أثناء الحرب على غزة.
لكن محاولات اليسار لمناقشة هذا التمييز بالتعاطي في الحالتين أُجهضت ومُنع النقاش بصرامة.
اختراق الإعلام الدنماركي
مواقف السلطات الدنماركية المتماهية مع إسرائيل، ليست المصالح الاقتصادية وحدها فقط من تقف وراءه، فمنذ اندلاع حرب الإبادة على (غزة)، طرحت أسئلة حول مهنية تغطية بعض وسائل الإعلام الدنماركية خاصة مع تبنيها وترويجها الدعاية الإسرائيلية.
ويشار إلى أن الاختراق الإسرائيلي للإعلام الدنماركي، ليس بالأمر بالجديد، بل أسلوب منهجي تأسّس في 16 يناير 2010، حين عقد وزير الخارجية الإسرائيلي السابق (أفيجدور ليبرمان) مؤتمراً لسفراء إسرائيل في الدنمارك والنرويج وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا.
وذلك لتحديد (المبادئ التوجيهية الأساسية) لحملات علاقات عامة لتحسين سمعة إسرائيل.
كما لعبت سفارة تل أبيب وسفيرها في (كوبنهاجن) آنذاك (آرثر أفنون)، دوراً في البحث عن أسماء ألف شخصية دنماركية، لتجنيدهم من أجل تجميل صورة إسرائيل وإعادة تسويق الدعاية الإسرائيلية في عدوانها على الفلسطينيين في (غزة).
ولعله من اللافت أن عام 2010، الذي شهد إطلاق تلك المبادئ، شهد أيضاً اعتراف رئيس تحرير أكبر صحف البلاد (بوليتيكن)، واسمه (هربرت بونديك)، أنه كان مجنداً من قبل الاستخبارات الإسرائيلية لتعزيز نفوذ تل أبيب، وأنه استخدم الصحيفة كأداة لتعزيز مصالح إسرائيل.
كما أقرّ المستشار الإعلامي لسفارة تل أبيب (دان أوريان)، في ديسمبر 2010، بحسب صحيفة (بيرلنغسكا)، باتباع أساليب الارتزاق لتجنيد صحفيين وناشطين ممن أطلق عليهم وصف (حلفاء استباقيين).
(أي مروجي الدعاية الإسرائيلية) مقابل (مكافآت) بقوله: (أنا متأكد من أنه إذا قام شخص ما بشيء مهم فسيكافأ).
لكن مع العدوان الحالي، حاولت (بوليتيكن) أن تظهر نفسها بشكل متوازن نوعاً ما، خصوصاً مع وجود كادر يهودي في هيئة التحرير ناقد لشخص رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو).
وينطبق ذلك على بضعة صحف يمينية، أبرزها (فيكند أفيزن)، بينما ظهرت صحيفة (إنفورماسيون) بصورة أكثر توازناً في التغطية، وإن وقعت أحياناً في مطبات خلط الأخبار بآراء مسبقة عند بعض المراسلين إلى جانب الصحيفة اليسارية (آربايدن) المؤيدة للحقوق الفلسطينية بشكل واضح.
فضح الإبادة الصهيونية لغزة
خيوط الأحداث المتلاحقة تكشف معها إنه وعلى مدار 13 عام، واصلت إسرائيل تخصيص الأموال لتوظيف جماعات ضغط وشركات علاقات عامة في العواصم الأوروبية، ومنها بالطبع (كوبنهاجن).
لكن لعلّ أكثر ما يزعج إسرائيل الآن شعورها بتراجع مصداقية سرديتها لدى الجمهور الأوروبي، خاصة بين الأجيال الشابة، التي استهدفتها في خطة 2010 باعتبارها قيادات المستقبل.
ويكشف ما سبق عن أن بعض ساسة الدنمارك يتجندون لخدمة أجندات اللوبي الصهيوني، رغم أن يهوداً في بلدهم يقفون ضد الصهيونية، وسيكون عجيباً أن يلاحق مواطنو البلد، يهوداً وغيرهم، من أجل عيون جيش وكيان أجنبي متهم بارتكاب إبادة وجرائم حرب.
مصنف بمستوى تصنيف التنظيمات الإرهابية، لكن المؤكد الآن أن عام 2024 ليس الأفضل للبروباجندا الإسرائيلية فى أوروبا التي باتت تتكشف تدريجياً.