كتب: أحمد السماحي
منذ سنوات و(الشارع المصري) لم يعد يغني، عكس ما كان يحدث في الماضي القريب، ففي بداية التسعينات، ونحن نقترب من موسم الإمتحانات كانت الإذاعة المصرية وبالتحديد إذاعة (الشرق الأوسط) تذيع بصفة منتظمة أغنية فرقة (المصريين).
التى يقول مطلعها: ( أبريل، ومايو، ويونية، موسم الامتحانات، ليه بتحلوي يا دنيا فى الوقت ده بالذات، ليه يا قلوبنا بدأتوا بالحب ودقدقتوا، يا ربيع هو ده وقته، ده إحنا ورانا شهادات).
في هذه الفترة كنا نتمنى أن تنتهي الامتحانات بسرعة، لماذا؟: لأننا ومع نهاية شهر أبريل كانت القناة (الأولى) للتليفزيون تبدأ عرض إعلانات الألبومات الجديدة التى ستطرح خلال موسم الصيف والتي يتغني بها (الشارع المصري).
منافسة ساخنة بين الأجيال
فكنا نرى منافسة بين عمرو دياب، ومحمد فؤاد، ولطيفة تشعل الجو مع سميرة سعيد، ومطربتنا الكبيرة وردة تدخل حلبة المنافسة فتزيدها إشتعالا مع (نجاة، وصباح، وسوزان عطية، وعفاف راضي، وهاني شاكر، ومحمد ثروت، ومحرم فؤاد، ومحمد رشدي، ونادية مصطفي، وميادة الحناوي، ورجاء بلمليح، وإيمان الطوخي).
ويطرح (عماد عبدالحليم، ومحمد منير، وعلي الحجار، ومحمد الحلو، ومدحت صالح، وإيمان البحر درويش، وطارق فؤاد) ألبوماتهم فنتمنى أن تنتهي الإمتحانات بسرعة حتى نستمتع بهذا الغناء الشجي الجميل المليئ بالتنوع والثراء والعذوبة، والمعاني الجديدة، والمفردات المختلفة التى تطرق أذاننا لأول مرة.
وتطل علينا ألبومات الشباب الجدد (أنغام، وهدى عمار، وإيهاب توفيق، ومحمد محيي، وحنان ماضي) فنعتقد إنهم يغنون لنا فقط لأنهم قريبين جدا من أعمارنا، لذا كان يرددها (الشارع المصري) في فرح وانطلاق.
خاصة أنه كان يدخل بقوة وبإيقاع راقص سريع حلبة المنافسة (حميد الشاعري وزملائه وأحبابه (هشام عباس، وعلاء عبدالخالق، وأنوشكا، وسيمون، وشهاب حسني، وعلاء سلام، ومغرد حجاب، وعلى حميده.
ومصطفى قمر، وحكيم، وإسلام، وإبراهيم عبدالقادر، وحنان، منى عبدالغني) فيتعرضون لهجوم كاسح من المتخصصين، وعشاق الأصالة والطرب، لكن المصايف والشوارع تنصفهم، وتردد أغنياتهم هنا، وهناك.
وفى ظل هذا المناخ الفني الرائع، تستقبل آذان (الشارع المصري) تيار من الغناء اللبناني الجميل العذب من خلال أصوات (وليد توفيق، ماجدة الرومي، وراغب علامه، وجورج وسوف، وائل كفوري، ونوال الزغبي، وعاصي الحلاني..
وربيع الخولي، وداليدا رحمه، ونجوى كرم، وجوليا بطرس، وعلاء زلزلي، وأحمد دوغان، ملحم بركات، نهاد طربية، ومايز البياع، وبسكال مشعلاني) فتمتلأ أعماقنا بالنشوة، وتدخل البهجة إلى قلوبنا.
ونتباهى أمام زملائنا وأصدقائنا إننا نفهم اللهجة الخليجية فندندن لزملائنا مطلع أغنية حلوة لـ (محمد عبده، أونبيل شعيل، أوخالد الشيخ، أوعبدالله الرويشد، أو محمد المازم، أوعبدالكريم عبدالقادر، أوعبدالله رشاد، أوعلى بن محمد، أوأصيل أبوبكر، أو أبوبكر سالم).
السيارات تزف الأغنيات
هذا المناخ الفني الصحي المليئ بالغناء من كل الألوان ومن كافة الأطياف والذى يلبي إحتياجات الجميع في (الشارع المصري)، كنت أستمتع به أنا وجيلي وكل الأعمار، ونحن طلبة في المرحلة الثانوية، والجامعية، خاصة فى موسم الصيف.
فخلال فترة التسعينات كانت ألبومات الكاسيت هى العملة الرابحة للمطربين والمنتجين، وكانت شوارعنا فى الصيف تحديدا تزف ألبومات المطربين من كل صوب وناحية، من خلال كاسيتات السيارات، وبلكونات الأهل والجيران التى (يلعلع) فيها صوت الكاسيت.
كان (الشارع المصري)، و(بلكونات) البيوت هى أكبر دعاية لكل الألبومات، وكانت تفوق دعاية التليفزيون.
مصر لم تعد تغني!
لكن ها هو موسم الصيف أوشك على الانتهاء، وعدد الألبومات المصرية والعربية التى طرحت لا تزيد عن 10 ألبومات، فضلا عن مئات من الأغنيات المنفردة (السينجل).
وهذا العدد الضئيل رغم جمال وعذوبة الكثير منه لم يبل عطش (الشارع المصري) فى نهار الصيف الحار، ولم يخفف من وهج حرارة الصيف العالية التي نعاني منها منذ سنوات.
ماذا حدث؟!، ما حدث أن الشارع المصري للأسف لم يعد يغني كما ينبغى، واكتفينا ببعض الألبومات القليلة التى تعد على أصابع اليد الواحدة، وأغنيات (السينجل) وعدد من الحفلات القليلة التى تتبع وزارة الثقافة متمثلة في دار الأوبرا المصرية، والآن الشركة (المتحدة) التى دخلت سوق الحفلات من خلال مهرجان العالمين.
القرصنة هى السبب
لكن بعيدا عن الحفلات، يوجد مشكلة كبيرة في سوق الكاسيت ليست وليدة اليوم، لكنها موجودة منذ سنوات طويلة، ومحتاجة تدخل فوري من الدولة، هذه المشكلة تتمثل في عدم وجود شركات كاسيت لإنتاج أغنيات جديدة، والشركات القليلة الموجودة يقتصر دور معظمها على التوزيع فقط.
لماذا لم يعد يوجد شركات إنتاج؟! لأنها تتعرض للخسارة الفادحة، بسبب (القرصنة) فاليوم أي مطرب يطرح أغنية جديدة على منصات الأغاني، فى لمح البصر، وقبل أن يغمض عينه أويفتحها يجد أغنيته تم قرصنتها.
وبالتالي إنهارت وتدمرت صناعة الكاسيت، وأغلقت الشركات، وسُرح العمال والعاملين فيها، لأن أي شركة تحسب جيدا كل (جنيه) تدفعه، وليس معقولا أن تنتج للخسارة!، إلا إذا كانت لغسيل الأموال!، وبالتالي يهمها العائد المادي من وراء البيع، فإذا كان البيع (زيرو)، إذا لماذا تنتج؟!
والسؤال الذى يحيرني ويشغلني: لماذا تترك الدولة منذ سنوات طويلة صناعة مهمة مثل هذه فى مهب الريح؟!، رغم إنها كانت تدر للدولة المليارات سنويا !!
هل (الشارع المصري) لم يعد يحب الغناء؟!، بالعكس الشعب المصري والعربي عاشق لكل ما هو غناء خاصة إذا كان جميلا وشجيا!!، إذن ما الذى حدث؟: الذى حدث يا سيدي أن أي شركة إنتاج تريد أن تكسب ماديا من وراء المطرب الذى تنتج له، خاصة وأن الإنتاج الغنائي الآن أصبح مكلفا جدا جدا.
السؤال الثاني: لماذا حدث كل هذا يا جماعة الخير؟!، لأن الدولة تخلت عن صناعة الغناء!، بتقولوا ايه يا ولاد!، بنقول الدولة نفضت ايدها، وتركت الصناعة نهبا للقرصنة، والسرقات الإلكترونية التى نعانى منها منذ سنوات طويلة.
وحاول بعض المنتجين المحبين للمهنة مراراً وتكراراً وضع ضوابط، ومقابلة بعض المسئولين، ولكن لم نجد جديدا، وظلت المشكلة قائمة كما هى، لا يوجد حل!، هل لا يوجد حل فعلا؟.
جني مليارات الغناء
الحل موجود، وسهل وبسيط، وشاهدناه فى بعض المنصات الخاصة بعرض المسلسلات، حيث تم فرض نوع من الحماية من جانب جميع هذه المنصات، من يريد أن يشاهد مسلسل معين فعليه أن يدفع ويشاهد!
وهذا هو المطلوب فى الغناء من يريد أن يحمل أغنية أو يحمل ألبوم من على الإنترنت فأهلا وسهلا به، شرط أن يدفع مبلغ معين وليكن رمزيا جدا.
وبالتالي هذا المبلغ البسيط جدا، سيشجع شركات الإنتاج على دوران عجلة الإنتاج مرة آخرى، لأنها ستضمن أن أي ألبوم ستنتجه ستجني من ورائه الملايين فى غمضة عين.
وبالتالي سيستمتع (الشارع المصري) بغناء صحي، ومنافسة قوية، وظهور أصوات جديدة، وسيشجع هذا على فتح شركات إنتاج جديدة للغناء.
لكن ما يحدث الآن فى الغناء وكما قالت لي مطربتنا الراحلة (نجاح سلام)، فى حوار معي: (نحن كجيل كنا محظوظين بإنتاج الإذاعة لأغنياتنا، لأن تخلي الإذاعة والتليفزيون عن الإنتاج يساعد على إنحراف البنات، والشباب!).
إنحراف الشباب بسبب الغناء
ما ذكرته صوت العرب (نجاح سلام)، حقيقي جدا، فأي مطربة غير مشهورة تريد عمل ألبوما الآن لابد أن يكون ورائها ثري عربي، أو رجل أعمال مصري معجب بصوتها أوطلتها!. غير هذا لا تنتج وإذا تجرأت وأنتجت أغنية لن تجيد تسويقها!
وإذا كانت مشهورة لابد أن تنتج لنفسها، أو تترك نفسها لشركة إنتاج تستغلها ماديا ومعنويا!، وأي مطرب يريد أن يغني لابد أن يكون ورائه شركة إنتاج كبيرة.
أو شاعر أو ملحن عربي من الذين ينتجون من الباطن لأجل عيون المطرب!، أو لنشر أعمال هذا المتطلع للنجومية عربيا.
كيفية حماية الدولة
كل هذا العبث راجع لعدم وجود شركات فنية مصرية تنتج لأجل الفن والغناء، والمكسب طبعا، كما كانت تفعل قديما شركات الكاسيت.
وبالتالي تقلص عدد الألبومات جدا جدا، وبعد أن كانت مصر تطرح فى العام مابين 80 أو 90 ألبوما غنائيا، بمعدل 1000 أغنية فى السنة، أصبحت تطرح 3 أو 4 ألبومات، وعشرات من الأغنيات السينجل التي لايقبل عليها (الشارع المصري).
لكن كل هذا غير كافيا، لهذا لابد من تدخل الدولة لعودة صناعة الكاسيت، أو على الأقل تنتج أغنيات جديدة، وتضعها على منصات الأغاني، وتكون مسئولة عنها، وفي هذا الوقت ستكون قادرة على حماية صناعتها.
وتحمي بناتنا وشبابنا الموهوب من الإنحراف، أو سلك طرق غير شرعية لإظهار موهبتهم.