بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
تساءل (محمد عبد الواحد) وعيناه على الطريق، وهو يقود السيارة مستمرا في طريق العودة بنا إلى المنصورة عن بقية قصة (عبد الهادي) و(ليلى).. قلت له: أخبرت (صلاح عبد السيد) بكل ما سمعته مني الآن.
ابتلعته حالة وجوم صامت.. فاجأني بطلبه أن أرتب له لقاءا مع (عبد الهادي شطيفة) ليسمع منه بقية القصة.. رغم شكى في موافقة (عبد الهادي) وهو على هذه الحالة من الغضب من خيانة زوجته و حبيبة عمره (ليلى) إلا اننى وعدته بترتيب اللقاء وضربت له موعدا سأكون عنده في انتظاره في المنصورة.
ردد (صلاح عبد السيد) بينه وبين نفسه لقب (عبد الهادي) الذى وضعه له (مجنون ليلي).. أكدت على صلاح ضرورة الاتصال بى قبل الموعد بيوم للتأكيد على حضوره لأتابع بدورى ترتيب اللقاء مع (عبد الهادي).
بالفعل أبلغني (صلاح) قبلها بيوم.. واتفقت بدورى مع (عبد الهادي) أن نلتقي على كازينو النيل الذي أصبح الٱن نفقا تسير فيه السيارات – المحافظ السابق للدقهلية لم يترك لأهل المنصورة متنفسا لمثل هذه اللقاءات التي كانت تجمع أهلها في حنو الطبيعة.
بالفعل جلست مع (صلاح) ليفاجئنا (عبد الهادي) قادما ناحيتنا تتبعه منكسة الرأس ذليلة الخطوات طليقته (ليلى).. بعد أن رفض أن تصطحب معها الطفلة التي يشك في نسبها!
كانت (ليلى) شاحبه.. ترتدي زيا أسود.. (عبد الهادي) أيضا كان يرتدي نفس اللون.. لم أعرفها في البداية.. لكنت قد تعودت أن أراها صغيرة و بريئة وفي ملابس المدرسة الزرقاء بالقميص الأبيض.. اللون الأزرق دلالة الجمال الملكى و اللون الأبيض عنوان الطهارة المطلقة.
أما إسباغ اللون الأسود الآن فقد كان حدادا على موت الكثير من الأشياء .. لاحظ (عبد الهادي) أنني أطيل النظر إلى (ليلى) في ريبة..
قال لي مؤكدا: أيوه يا إبراهيم.. هى (ليلي).. بس مش هى اللي انت كنت بتشوفها تحت دراعى وباغني لها زى عبد الحليم بتلوموني ليه.. أنا دلوقتي باغني لفريد الأطرش (ابكى يا عيني.. )!
مصر كلها هاتتفرج
في حدة التفت فجأة ناحية (ليلى) زاعقا وهو يشير إلى (صلاح) ليذكرنى بالشاويش وهو يشير للمتهم ناحية وكيل النيابة: إحكي للباشا اللي انتى عملتيه فيا.. علشان هايعمل موضوع خيانتك مسلسل مصر كلها هاتتفرج عليه كل ليلة ..
رد (صلاح) في ضيق: أولا يا أستاذ (عبد الهادي) أنا مش باشا.. ومافيش داعى للإهانات دي.. قذف (عبد الهادي) بوجهه أمام عينى (صلاح) في غضب: يعنى يرضيك يا أستاذ اللى عملته فيا دا؟
رد (صلاح) بهدوءه و صوته الخفيض: أنا عايز أعرف منك انت دلوقت.. انت جبتها معاك ليه؟
قال (عبد الهادي) وهو ينقل عينيه بينه وبينى وبين ليلى: جيبتها معايا لأنها مصدعانى كل شوية وعاوزانى أردها.. وقال ايه بتقول إنها هتتوب إلي الأبد.. وأنا جبتها معايا علشان تسمع بودانها رأى ناس كمل زيكم فيها.. الخاينة.. القذرة.
كان الانفعال بعبد الهادى قد بلغ أوجه وهو يردد الكلمات الأخيرة رافعا كفه مفرودة يجهزها لصفعة، وحينما أحاطت (ليلى) وجهها بيديها منكمشة قبض أصابعه ليلكم الهواء فوق رأسها في غضب هائل!
بادرته قائلا: ترجع فين يا (عبد الهادي)؟!.. دى إنسانه خانت أبوها وأمها وهربت معاك.. وخانتك.. وحطمتك بعد ما انت ضحيت بكل حاجه علشانها..لأ طبعا ماترجعش!
نظر إليّ (صلاح) متمهلا مؤكدا أن (عبد الهادي) قد طلب أن يسمع رأيه هو وليس رأي.. التفت (صلاح) إلى (عبد الهادي) قائلا أنه لو عاد إليها ثانية فسيدفع الثمن غاليا.. وأن عليه الآن أن يوصلها للمحطة لتسافر عند خالها في دمياط ولا تعود أبدا..
كادت (ليلى) أن تقبل أيادينا وهي تنوح بأن خالها بدا يقلق هو الآخر من وجودها في بيته خصوصا أن عنده شباب في عمرها ..
طلب منه (صلاح) مرة أخري مؤكدا أن يوصلها فورا إلى المحطة.. كان (عبد الهادي) قد وصله رأينا سويا.. كفت (ليلى) عن النواح، وقد أدركت أنه لافائدة .. وأن مظهرها البائس لم يمرر إلينا الرسالة التي كانت تريد لنا أن نقرأها.. وأن نقنع بها (عبد الهادي) بدورنا..
إنها قصة مجنونة
خرجت (ليلى) من الكازينو دون أن تصافحنا، بينما تبعها (عبد الهادي) يدفعها أمامه بيده، حتى كادت أن تنكفئ على وجهها كما فعل معها و هى داخلة..
قضيت بقية النهار والليلة مع (صلاح عبد السيد) نحكي في أكثر من موضوع حتي ننسي موضوع (عبد الهادي) و(ليلى).. فجأة قال لي صلاح: إنها قصة مجنونة.. لقد بدأت تراودني لكتابتها.. لو أنني كنت أعرف النهاية كنت سأكتبها كرواية.. لكنني أشك أن قصتهما انتهت عند هذا الحد..
وكانت القصة بالفعل واحدة من أهم القصص لصلاح عبد السيد، والتي كان يحكي فيها كل ما حدث لعبد الهادى لتنتهى بصافرة القطار ويرددها فضاء المحطة (ليلي تخونك.. ليلي تخونك.. ليلي تخونك).
كان من عادة (صلاح) أن يسافر رأس البر ويظل في شقته شهرا كاملا يكتب رواية جديدة.. لا يخرج منها إلا إذا ذهبت لزيارته.. مشينا سويا على البحر.. ذهبنا إلي بائع الصحف فوجد عنده مجموعته القصصية (العصفور).
اشتري نسخة له ونسخة لي.. أخذ يقلب في صفحات الكتاب حتي عثر علي قصة (الصفارة).. تنهد (صلاح) في أسى وسألني عن (عبد الهادي) و(ليلي).. قلت له: (عبد الهادي) ضرب بكلامنا عرض الحائط ورجع لها.. وهى دلوقتي محجبة، وما بتسيبشي فرض..
قال لي (صلاح) وهو يهز رأسه محاولا اقناع نفسه: يمكن تكون تابت.
بعد سنوات سألني فجأة مرة أخرى عن (ليلى) ومجنونها (عبد الهادي).. قلت له: ظبطها مرة تانيه وهى تخونه..
سألني (صلاح) وكأنه لم يفاجأ: مع رمزي برضه؟
قلت له: مع صاحب (أجانس سيارات)!
قال (صلاح): وهو أخباره إيه؟
قلت في أسى مسكين.. تعب جدا.. اتبهدل في لبسه.. و ساب دقنه.. واتفصل من شغله.. و في الآخر أدمن مخدرات .
قال صلاح: وهو فين دلوقت؟
أخبرته أن شقيقه أودعه في إحدى المصحات النفسيه الخاصة بالإدمان.. زرته أكتر من مرة هناك، ولاحظت أن الممرضين اللي في المستشفي بيبيعوا للمرضي كل أنواع المخدرات.. أدركت انه لا شفاء له ..
حالته النفسية تدهورت
ذهبت بعد عدة أشهر لزيارة (عبد الهادي) صباح يوم، فأخبروني في المستشفى أن حالته النفسية كانت قد تدهورت تماما في الفترة الأخيرة.. وأنهم اضطروا لإخضاعه للعلاج بالصدمات الكهربائية.. لكنه اختفى فجأة ذات مساء من المستشفى، ولم يتم العثور عليه حتى الآن ..
بحث شقيقه عنها في كل مكان دون جدوي..
بعد شهور وفى وقت جفاف النيل التف زحام يهمهم محوقلا حول جثته المتحللة في قاع نهرالنيل بالمنصورة، الذي شهد علي كل أحداث القصة منذ أن كان ينتظرها أمام المدرسه ليغني معها
(يا بحر سايل بين شطين.. يا حلو يا اسمر.. لولا سوادك جوه العين.. ما كانشي نور).. كان النيل قد كتب على قاعه نهاية الرواية التي لم يكتبها (صلاح عبد السيد في قصته (الصفارة)!
…………………………..
و
أثناء دخولك يا حبيبي علينا..
كان الضي سابق خطوتك
تحضنني لازم كل يوم..
وتغطي جرحي وغربتي.. ياصلاح.. ببسمة حضرتك
داخل كأنك شمس خضرة حنينة
اللحظه كانت من جمالك 100 سنة
أقعد معاك
وكأني قاعد في رحاب..
إنسان.. ولي..
تشبه.. ودا رأيي..
بلال.. عثمان..
عمر.. ثابت.. علي
واضح وضوح الشمس ..
في سكة شروق
طالع لفوق بالحرف..
تسبق في الجميع
الحرف عندك وردة بتنادي الربيع
هادي.. وفيه جواك طوفان..
واضح في كل نجوم بتظهر..
جوه كل حروف شريفة..
من كيانك ع الورق
الصدق جوه عنيك برق
ووصل بصدق لناس كتير..
جوه البلد
كنت السند ليا في رحلة غربتي
ألقاك معايا لو أحس الاحتياج..
لدراع شريف..
يقدر يجفف دمعتي
إنسان جرئ.. في كل شئ
راسم لجيل.. قادم.. طريق
ورقيق يا صاحبي.
وقلب عاشق كل واحد يعرفه
إنسان بمعني الكلمه..
كل حروفه ع الورق النضيف بيشرفه
ويعرفه
علشان يعرفنا في يوم..
إن الحياة لحظة.. ولازم تنقضي
وساعات كتير تشكيلي..
ان الجيب فضي
وان اللي باقي مش كتير
لكن في قلب البير مازال مليان حروف
يا صلاح ولا حسيت بخوف
ولا كنت غير فارس همام
واقف علي كتفك يمام
و.. سلام علي روحك..
يا صاحبي يا صلاح
يا اللي ما زلت برغم موتك..
كل يوم
نلقاك قصص خالدة..
بحبر الفجر مكتوبة..
على ضي الصباح
من كتاب (مدد.. مدد)
سيره ذاتيه لبلد