(يا ملك طل) جعلت (وائل كفوري) يعترف بفضل جمهوره، ويعانق الأذان مع الأجراس
كتب: أحمد السماحي
منذ ثلاثة أيام طرح المطرب اللبناني الكبير (وائل كفوري) أغنية جديدة بعنوان (يا ملك طل) عبر قناته على اليوتيوب، وهى الأغنية التي قدمها لأول مرة على مسرح حفله الأخير الذي أقيم في بيروت.
الأغنية كلمات الشاعر منيربوعساف، وألحان د. هشام بولس، وتوزيع موسيقي داني حلو، وميكس وماسترينج رالف سليمان، وبمجرد طرحها تصدرت (الترند)، وهى واحدة من الأغنيات الطربية القليلة في السنوات الأخيرة التى تعيدنا لعصر الغناء الحقيقي، وعصر أساطين النغم.
منذ استمعت إلى أغنية (وائل كفوري): (يا ملك طل) وقعت في غرامها مباشرة، وعلى الفور تسللت إلى قلبي وسكنت فيه ولم تبرحه حتى اليوم، فهي متكاملة العناصر من تأليف، وتلحين، وتوزيع، وأداء، وتفوق فيها كل عناصرها تفوقا ملحوظا.
منير بوعساف والله أكبر
الانطباع الأول الذي خرجت به بعد استماعي إلى (يا ملك طل) أول مرة أن لحنها واحد من أجمل الألحان التى وضعها (هشام بولس) مؤخرا، لحن وضع خصيصا لـ (الاستيدج)، لا يصلح أن يغنى مثلا في برنامج، ولا في سهرة.
لكن توقفت للحظات عند الكلمات، فوجدتها عبارة عن كلمات مجاملة من (وائل كفوري) لجمهوره الذي يسانده ويدعمه في كل خطواته، واعتراف من المطرب أن جمهوره هو سبب الشهرة والمكانة التى وصل إليها.
ووجدتني أقول لنفسي أن الكلمات أشبه بالأغنيات التي كانت موجودة في بداية القرن التاسع عشر، والتى كان (المذهبجية) يغنونها للست (منيرة المهدية)، والست (بديعة مصابني)، والست (رتيبة أحمد) في بداية فقرتهن الغنائية في الملاهي والكازينوهات الليلية التى كن يغنين فيها.
لكن بعد استماعي للأغنية مرة ثانية وجدت أنني على خطأ، فالأغنية أعمق وأهم مما تركه الأنطباع الأول، فهي بجانب لحنها الرائع، تحمل كلماتها فكرة مليئة بالحب والعشق للبنان.
وابتعدت بمعانيها عن المباشرة والافتعال والشعارات، واستطاعت أن تمزج الماضي بالحاضر والمستقبل، وتقدمه صحبة من الحب (التراتيلي) العاشق للبنان.
وهذا ليس غريبا على الشاعر المبدع (منير بوعساف) المرتبط بوطنه، الذائب فيه، والذي يكتب ببساطة وبتلقائية مذهلة، ويلتقط من الناس كلماتهم، ويتمثلها ويضعها في سياق حدوتة عاطفية سرعان ما تصبح أغنية جماهيرية.
إن ما يجعل لـ (منير بوعساف) خاصيته الشعرية واتساع جماهيريته ليس فقط براعته اللفظية، ولا روعة قوافيه وتراكيبه فقط، ولكن بساطته التى تشبه السهل الممتنع في شعره.
فشاعرنا في أغنياته الوطنية مثلا، لا يرى الوطن كما نراه نحن البسطاء والعاديين، ولكنه يراه في كل شيئ، يراه في الإنسان، في الطبيعة، في كل ما راودنا جميعا من مشاعرمرتبكة حائرة حيال حياتنا وحبنا، وانكساراتنا.
ومحاولتنا أن نفرح ونحن نبكي، وأن نأمل ونحن نتمزق، وأن نثق بالنصر رغم جبروت الأعداء، ومحاذير المخاطر، وسلبية الأصدقاء.
وفي أغنية (يا ملك طل)، كتب (منير بوعساف) كلمات في لبنان ذكرتنا بروائع شعراء لبنانيين مثل (يونس الابن، مارون كرم، مصطفى محمود، الأخوين رحباني) وغيرهم، فقال عن لبنان:
لبنان أرض الحلا قبل الحلا خلقان
بيروت ست الدّني للأبد حرة
بيعتق عمر الكون بيتغيّروا الأزمان
وست الدّني بتضلّ عالشّمس تتمرا
من بقاعي الحر من شمالي، من جبل لبنان الأخضر
من شمخة جبل صنّين، وأرض الجابت قدّيسين
من بيروت الحلوة وأكتر
تحيّة لجنوبي الغالي، لصمودو لجبينو العالي
عا صمودك، الله أكبر، كيرياليسون.
ولا أدري أي شيطان شعري وقع على (منير بوعساف) حتى يختم الأغنية بهذا الختام المدهش الرائع الذي عانق فيه الأذان، الأجراس، في جملة (الله أكبر)، وكلمة (كيرياليسون) التى تتكرر في صلاة الأخوة المسيحيين، وفي صلوات القداس، والصلوات الطقسية خاصة.
وللكلمة أكثر من شكل (كيرياليسون، كيري إليسون، كيرياليصون، كيريليسون، كيريليصون كيريا ليسون، وكيريي ليسون)، و(كيري) اختصار (كيريوس) أي (الرب)، أو (يا رب)، وكلمة (إليئسون) أي (أرحم) أي (يا رب أرحم)!.
(هشام بولس) وراحة الأرواح
معظم الفن الذي يظهر في لبنان في السنوات الأخيرة فن متعة، فن يصنع أساسا بهدف تقديمه كوجبات خفيفة لرواد الكازينوهات ونوادي الليل في بيروت، وفي أعلى الجبل.
لكن يوجد قلة من نجوم الأغنية اللبنانية لايقدمون أغنية إلا إذا كانت تحملا جديدا، وإضافة للمكتبة الغنائية من هؤلاء المبدع (هشام بولس).
فهو واحد من المبدعين القلائل في لبنان الذي لم يستطع أن يعيش تجربة الكذب والافتعال الفني، ولم تستطع دوامة الشهرة أن تجذبه فيتسلق عليها مقدما أغنيات فارغة المضمون، لهذا انتظر جديده بفارغ الصبر.
والحقيقة عندما سمعت لحنه (يا ملك طل) لم أجد غير كلمة واحدة (الله، الله، ايه الجمال ده)، وظللت أرددها كثيرا، لأن الأغنية الطربية من البداية للنهاية (بكوبليهاتها) غائبة عنا في السنوات الأخيرة باستثناء قلة من الأغنيات.
ثانيا: طريقة توظيف (هشام بولس) للكورس كانت رائعة، خاصة البنات كان توظيفهم في الأغنية مدهش، وقد عزف بمهارة على وتر حساس في مشاعرنا غير موجود كثيرا في مجال الأغنية.
وهذا الوتر هو ذكائه في استخدام مقام موسيقي لا يستخدم كثيرا الآن وهو(راحة الأرواح على درجة سى عراق)، وهو من المقامات التى تتميز بالفخامة، والجزالة، ورغم أنه مقام مشتق إلا أنه من أكثر المقامات الشرقية التى تعشقها أذن المستمع العربي.
وقد استمعنا إليه في كثير من الأغنيات الشهيرة مثل (للصبر حدود، والأطلال، سيرة الحب، حمال الأسية، الورد جميل، سامحتك سامحتك، أبو عيون جريئة، طبعا أحباب، ودارت الأيام) وغيرها الكثير.
ومقام (راحة أرواح) ليس حزينا، لكنه مقام شجي، و الشجن ليس هو الحزن، وقد استخدمه (هشام بولس) في (يا ملك طل) بشكل متميز للغاية، فيه مناجاة، وفيه نقلات موسيقية رائعة فى المقامات خاصة مقام (العجم).
وجاء توزيع الموزع الذكي (داني حلو) حلو مثل اسمه، يحمل بساطة وذكاء ومهارة في طريقة توظيفه لبعض الألات الوترية.
(وائل كفوري).. يطرب الأذن
أما الأداء فجاء أداء (وائل كفوري) في أغنية (يا ملك طل) أداء مطرب متمكن من الأداء الشرقي الذي يطرب الأذن ويهدهدها، ويصل بالمستمع إلى مرحلة التخدير فبعد أداء الكورس لبداية الأغنية والتى يقول فيها:
يا ملك يا ملك طلّ اشتقنالك واشتاقوا الكلّ
المسرح إلك رح نسمعك وللصّبح معك منضلّ
كلّ الجمهوراللّيلة واصل لعندك ملهوف
يا وائل طلّ علينا ما تنطّرنا طلّ وشوف
يدخل (وائل كفوري) على المسرح فيسرق قلوبنا ومشاعرنا مع إيقاعات صوته التى تحمل الطرب والبهجة والشجن، وهويغنى موال يقول:
أوف أوف يسعد مسا الأحباب من بعد لغياب
الفرحة بقلبي كيف بدّي أوصفا
وعرفت بس طلّيت يا أغلى لحباب
هيك الدّني بتجيب عشّاق الوفى
أنتوا مملكتي وجمهوري وفيكن بتشرف بحضوري
ولو ما أنتوا تكونوا حدّي ما كنت وائل كفوري
بعد انتهاء (وائل كفوري) من الموال يدخل كورس البنات الذي وظفهم (هشام بولس) بشكل رائع فيرددن:
(شو حامل بصوتك إلنا شو جايي اللّيلة تسمّعنا
غنّي وخلّي الصّوت يجود والله اشتقنا نسمع مغنى)
وتستمر الأغنية في حالة تصاعد، حتى تصل لقمة التصاعد في (القفلة) العبقرية لصوت (وائل كفوري)، الذي شعرت أنه يؤذن وهو يردد (الله أكبر)، ويبتهل وهو يقول (كيرياليسون).
الكوبلية الأخير:
في النهاية عندما يجد المستمع كلمات ينساب معها، ويبحر في ثنايا حروفها بكل تشكيلاتها، خاصة إذا التقت بذلك النغم الرائع الذي صورها بذلك الحس الذي يتنقل بها عبر موسيقى الكلمة ذات الجرس الموسيقي تارة، وبين نبرات موسيقية أخرى تعكس الواقع للبيئة التي عاشها الكاتب والملحن والمطرب تارة أخرى.
فنحن أمام عمل من ذهب لا يصدأ مهما مرت عليه الأيام والسنين، وهذا هو الحال مع (يا ملك طل).