بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عندما اتفقت مع الدكتور مجدى صابر – رئيس دار الأوبرا في ذلك الوقت – على تقديم عمل جديد ينتمى لنوعية المسرح الموسيقى، كان في ذهنى معالجتى التي كتبتها في عام 2014 عن مسرحية (روميو وجوليت) و التي تطورت لتصبح فكرة أخرى تتماس وتتقاطع مع النص الشكسبيري.
و كأنها (معارضة) له كما يحدث في فن الشعر، وعندما جلست مرة أخرى الى الأوراق تطورت الفكرة حتى لم يبق من نص شكسبير سوى مشهدين فقط، تقدمت بعدها الى الدكتور مجدى بالفكرة مكتوبة بالتفصيل فيما يشبه سيناريو كامل لأحداث العرض و تشريح للشخصيات وتفاصيل حولها.
بالإضافة إلى ميزانية مقترحة، فقرر إسناد إنتاج العمل إلى فرقة (فرسان الشرق) التابعة للاوبرا، قائلا أن بها 33 راقصا وراقصة، ولديها الإمكانات لتقديم مثل هذا العمل.
على أن استعين بمن أراهم مناسبين من مطربى فرق الموسيقى العربية، ولكن للأسف رفض فكرة أن تكون هناك فرقة موسيقية مصاحبة للعرض يوميا – برغم وجود عدة فرق للموسيقى بالأوبرا – ولكن أفرادها يتقاضون مكافآت مقابل العروض، وتلك تكلفة كبيرة لا تتحملها ميزانية العرض.
وطلب بأن تكون الموسيقى مسجلة ويتم الغناء عليها، وحدد موعدا مبدأيا لعرض (روميو وجوليت) في شهر نوفمبر من نفس العام، وعندما طلبت منه أن يتيح للعرض أكبر عدد من الليالى صارحنى بأن نظام (الأوبرا) لا يسمح بفترات العرض التي تمتد لشهور مثل المسارح الأخرى.
ولكنه وعدنى بتوفير عشرة أيام في العرض الأول لـ (روميو وجوليت)، على أن يتجول بعدها في دور الأوبرا بدمنهور والأسكندرية، وفي حال نجاحه أن يعاد كلما سنحت الفرصة.
على الفور عقدت اجتماعا بمدربتي (فرقة الفرسان) الزميلتين العزيزتين (كريمة بدير، ورجوى حامد)، وطلبت منهما أن يشاركا في التجربة كمصممين للرقصات ومساعدى إخراج.
تصوري الكامل للعرض
وشرحت لهما تصوري الكامل للعرض، ووضعت بين يديهما المعالجة التفصيلية التي كتبتها، ثم اتصلت بالزميل والصديق (محمد منير) المسئول عن فرق الموسيقى العربية بالأوبرا الذى أبدى تعاونا رائعا، فقد جمع مجموعة من المطربين والمطربات الشباب للمشاركة في تجربة (روميو وجوليت).
وقمت باختيار بعضهم بناء على مواصفات الشخصيات، ومدى تقبلهم لفكرة أن يجتازوا تجربة جديدة يتحركون فيها أثناء الغناء، فقد رفض البعض فكرة الرقص تماما، برغم أن الصديق (محمد منير) أفاض في شرح التجربة لهم، وأنها من الممكن أن تكون نقلة في حياتهم الفنية .
بعد حيرة قصيرة اتصلت بالصديق الشاعر الكبير (أمين حداد) وطلبت منه صياغة عرض (روميو وجوليت)، فلم أكن أريد شاعرا تعود على كتابة الأغنية ، فهذا العرض ليس مجموعة أغان.
بل هو عرض متكامل لو تم حذف أي مقطع فيه سيختل بناؤه ومن الأفضل – من وجهة نظرى – أن يعالجه شاعر قادر على استخدام قوالب متعددة ومختلفة ويتنقل بسهولة بين بحور الشعر والشعر الحر أو (شعر التفعيلة) والنثر أحيانا، (هكذا فعل عمنا فؤاد حداد ذات مرة في المسحراتى).
لذا وقع اختيارى على (أمين) لإحساسى أيضا أن كثير من قصائده تحمل داخلها (دراما خفية)، وعندما جلسنا سويا وعرضت عليه المعالجة التفصيلية التي كتبتها كانت له أسئلة كثيرة و تحفظات قليلة استغرقت منا مناقشات طويلة.
وبعد أن تم التوافق على كل شيئ طلب منى أن يكون هناك نصا مسرحيا يكتب من خلاله أو بمعنى آخر يعيد صياغته شعرا.
وجدت نفسى مشغولا بكثير من التفاصيل ففضلت أن يعاوننى مؤلف في صياغة الحوار بدلا من أن أكتبه بنفسى كما تم في عرض (يا عزيز عينى)، وعلى الفور قفز إلى ذهنى شاب شاهدت له عدة عروض بعضها مقتبس و البعض الآخر تأليفا خالصا وتوسمت فيه موهبة متفجرة حاز جائزة الدولة التشجيعية في التأليف المسرحى.
و بالفعل بحثت عن (محمد السورى)، وعرضت عليه فكرة مشاركتى في كتابة النص على أن يصيغه (حداد) شعرا فيما بعد فتحمس للتجربة وبدأنا العمل.
مشاهد غنائية وراقصة
كنت في عجلة من أمرى فكتابة النص وصياغته شعرا ستستغرق وقتا، وكنت أريد البدء فورا، ولذا استدعيت العزيزتين (كريمة، ورجوى)، وشرحت لهما أن هناك مشاهد غنائية وأخرى راقصة.
وبما أن النص الغنائى لم يكتب بعد فمن الممكن البدء بالمشاهد الراقصة، وعلى عكس المتوقع طلبت منهما البدء بالتصميم أولا ثم إضافة الموسيقى على الحركة فيما بعد، هكذا كان يعمل بعض كبار المصممين، منهم على سبيل المثال محمود رضا.
و لكن كان الأمر صعبا بالنسبة لهما، أن يستمر التصميم على مجرد صوت (مترنوم) أو بالعدد، حتى إنهما اضطرا إلى اختيار موسيقى للعمل عليها مؤقتا.
ولم أوافق بالطبع، فقد كنت أتخيل أن الحركة يجب أن تسبق الموسيقى، وأن تأتى الموسيقى فيما بعد بناء على مقتضيات المشهد الحركي، وحسب طوله ونوعيته.
لم يكن هذا هو الاختلاف الوحيد في أسلوب العمل، بل سرعان ما ظهرت اختلافات أخرى تخص (نوعية) الحركات المستخدمة في تصميم الحركة، أو لنقل (مفردات الحركة)، فالتصميم للرقص المعاصر يختلف عن تصميم الأعمال الاستعراضية.
ولكننا استطعنا بالنقاش الطويل أن نصل الى أرضية شبه مشتركة، لكن ما وقف عائقا بشكل كبير وهدد التجربة كلها بالفشل هو الرفض الداخلى لراقصي فرقة (فرسان الشرق) أن يقوموا بالتمثيل.
كانت الفرقة معتادة في عروضها أن يقوم أشخاص من خارجها بالتمثيل في حين يقومون هم بالرقص فقط، ويعتبرون وجودهم في أي مشاهد تمثيلية أنهم (مجاميع)، وتلك نظرة قاصرة استمدوها من تجارب سابقة خارج الفرقة حيث ينفصل التمثيل عن الرقص.
أو كما نرى في عروض كثيرة تأتى الأغنية في وسط العرض فيتوقف التمثيل ليدخل الراقصون، وتنتهى الأغنية فيخرج الراقصون ويعود الممثلون.
وبرغم الاجتماعات الطويلة، عقدها لهم مشكورا السيد مدير الفرقة، إلا أن تيارا خفيا من الرفض للمشاهد التمثيلية كان يسرى بين أعضاء الفرقة.
عاملا آخر كان يؤرقنى، كان كثرة غياب الراقصين – على عكس المطربين الذين كانوا في غاية الالتزام – فلم يجتمع في تدريب واحد الأعضاء كلهم المقدرين بثلاثة و ثلاثين عضوا.
كان العدد الأقصى للحضور لا يتجاوز العشرين، وبالتالى فإن التدريبات كانت عرجاء، وكل مرة يجرى تحفيظ أناس جدد، وعندما طالبت بنشر إعلان لاستقبال أعضاء جدد قادرين على التمثيل والرقص و الغناء قوبل طلبى بالرفض الشديد من إدارة الفرقة.
بل اعتبروا أنه إهانة، فقررت الاستعانة ببعض الموهوبين في الرقص والتمثيل من المعاهد والكليات المتخصصة في بعض الأدوار، ولكنهم عوملوا على أنهم جسم غريب داخل الفرقة، فهربوا واحدا وراء آخر.
لم تكن تلك هى المشكلات التي واجهتنى فقط، ولكن القدر كان يخبئ لى ما هو أقسى!
وتلك قصة أخرى…