كتب: محمد حبوشة
أشعر أن (فلسطين) لم تعد في القلب كما كانت في الشعر، كما كتب محمود درويش، أو في الرواية كما كتب: (غسان كنفاني، إميل حبيبي، رضوى عاشور، سحر خليفة، إبراهيم نصر الله، جبرا إبراهيم جبرا، إلياس خوري، واسيني الأعرج، إسماعيل فهد إسماعيل، سعد الله ونوس)، وغيرهم ممن سجلوا معاناة هذا الشعب الأعزل.
وعلى مستوى السينما لم نعد نري أعمالا مثل (فتاة من فلسطين، ناجي العلي، نشيد الحجر، وادي الذئاب، باب الشمس)، وفي الدرما: (التغريبة الفلسطينة، عائد إلى حيف، لن تقط القدس، حارس القدس) وغيرهم من أعمال رسخت عمق الجرح الفلسطيني الغائر في الضمير العربي.
ففي وقت يتعرض الأشقاء من شعب فلسطين لعدوان غاشم مستمر منذ أكثر من عشرة أشهر، ويحاول الجميع تقديم يد العون والمساعدة لإغاثة أهل فلسطين بكل السبل ومنها الدعاء لأهل غزة والقدس والدعاء لأهل فلسطين أجمعين بالقوة والانتصار، تكتفي الفضائيات العربية بنقل أخبار حرب الإبادة والتجويع المتعمد بدم بادر.
نعم تكتفي الفضائيات بنقل الأخبار دون أية تحليلات توضح للعالم حقيقة هذا العدو الصهيوني الغاشم، في حربه الشرسة على إخواننا في (فلسطين) سواء في قطاع غزة أو الضفة دون تعليقات تنوه بالإدانة وكأنه شعب قد انسلخ عن جسد الأمة.
السوشيال ميديا تناصر القضية
هذا في وقت تهتم فيه السوشيال ميديا بنشر صور الإرهابي الدولي (نيتنياهو) بتصريحاته المستفزة بشأن إبادة جماعية يومية تستهدف تصفية قضية فلسطين، أيضا يسعى رواد التواصل الاجتماعي بنشر بوستات وعمل هشتاجات توخز الضمير الإنساني.
فضلا عن الإكثار من الدعاء لشعب فلسطين من قبيل: اللهم ارزق إخواننا في فلسطين الصمود والقوة في وجه الطغيان وانصرهم.
اللهم انصر ضعفهم ورد إلينا المسجد الأقصى ردا جميلا.
اللهم إنّا نبرأ من حولنا وقوتنا وتدبيرنا إلى حولك وقوتك وتدبيرك لا إله إلا أنت لا يعجزك شيء وأنت على كل شيء قدير.
اللهم إنا لا نملك لأهلنا في فلسطين إلا الدعاء.
اللهم يامن لا يهزم جنده ولا يخلف وعده، ولا إله غيره، كن لأهلنا في فلسطين عونا ونصيرا ومعينا وظهيرا.
اللهم احفظ أهل فلسطين في غزة والقدس بعينك التي لا تنام، وأرزقهم الثبات والقوة والتمكين وبارك في إيمانهم وصبرهم.
اللهم اجعل لأهل غزة العزة النصرة والغلبة والهيبة.
اللهم إنّا نعوذ بك من العجز والقهر.
اللهم نستودعك فلسطين وكل أهالي غزة فانصرهم واحفظهم بعينك التي لا تنام، واربط على قلوبهم وأمدهم بجندك وانزل عليهم سكينتك وسخر لهم الأرض بما ومن عليها.
اللهم حرر المسجد الأقصى.. اللهم انصر شعب فلسطين ضد المحتلين.
يا الله إنهم عبادك المستضعفون فكن لهم عونا ومعينا يا رب انصر فلسطين الحبيبة.
اللهم ارزق أهل فلسطين الثبات والنصر والتمكين، وبارك في إيمانهم وصبرهم.
الفضائيات العربية تنقل الأحداث
في قلب هذا المشهد اكتفت الفضائيات العربية بنقل الأحداث فحسب، بينما الأطفال الذين يدمر العالم اليوم فوق رؤوسهم يكبرون لينقذوه أو ليجعلوه أكثر دمارا، نحن شهود فقط على دمار العالم فوق رؤوس أطفال غزة، ونقف مشلولي الأيدي نكتفي بالحزن أو الصراخ بحناجرنا، وألم في القلب وذلك أضعف الإيمان.
الأمر المؤكد أننا لن نعيش حتى نرى من نجا بأعجوبة من هؤلاء أطفال (فلسطين) بعد عقدين أو ثلاثة عقود، لنكون شهودا، هل سيبنون هذا العالم الذي دمر فوق رؤوسهم أم سوف يجعلونه أكثر دمارا على الذين تسببوا في انهيار كل شيء اليوم: الروح، البراءة، القيم، الإنسان.
ما تعرفه غزة من حصار وتجويع وتدمير وقتل على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بدعم دولي غير مسبوق تقوده القوى الغربية، يعكس لاعدالة النظام الدولي – وهو ما ينبغي أن تؤكد عليه فضائياتنا – حيث القوة أسمى من القانون، ويجعل الحرب التي هي شر لا بد منه بدون قواعد ولا أخلاق.
تحالف دولي ضد لفسطين
إن الأمر أشبه بتحالف دولي غربي ضد مليونين ونصف من سكان غزة التي تم دك بناياتها وقتل أبرياء بها دون تمييز بين المدنيين ولا استثناء المنشآت الصحية، لم يعد الأمر يتعلق باختلال آليات سياسة القوة في العلاقات الدولية.
بل بمنح العالم المتقدم الغطاء لحرب إبادة جماعية لأبناء (فلسطين)، تستهدف مدنيين عزل وأطقما طبية ومباني صحية ومساجد وكنائس، فالغارات الجوية المكثفة على قطاع غزة والهجوم البري الكاسح بعد التوغل في قلب غزة.
وما رافقهما من تقتيل دموي، حول غزة إلى (مقبرة للأطفال)، في أكبر انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي.. إنها أول مرة يقع فيها إجماع غير مسبوق حول منح دولة الاحتلال ورقة خضراء من زعماء العالم المتحضر لإبادة ما تبقى من شعب صمد أكثر من سبعة عقود في وجه آلة جهنمية للتقتيل.
إن هجوم حماس كما قال الأمين العام للأمم المتحدة لم يأت من فراغ، فكيف يتم الحديث عن إرهاب حماس في الوقت الذي يتم السماح لإسرائيل بحملة تطهير بقوة السلاح ضد مدنيين عزل.
فالمنطق المستقيم الذي ينتصر للقيم الكونية كان يفرض بقوة الأشياء إدانة الطرفين في كل ما يرتبط بقتل المدنيين واستهداف المنشآت المدنية، بدل تجريم الضحية وتبرئة الجلاد، هذا هو جوهر القانون الدولي الذي يفرض المساواة والعدالة بين الدول.
لم يعد الأمر اليوم يتعلق بما إذا كنا مع حماس أم لا، ولكن بقواعد القيم الإنسانية في العلاقات الدولية، كان يمكن أن نختلف في تقييمنا لو كان رد الفعل الإسرائيلي موازيا لفعل حركة المقاومة.
وإذا كنا ندين كل أشكال قتل المدنيين واستخدام القوة العسكرية التي تمس الأبرياء، إلا أننا لا يمكن أن نسوي بين الضحية والجلاد، فنحن اليوم أمام حرب إبادة جماعية وعقاب جماعي للأبرياء.
حيث أن ما يقارب نصف القتلى الذي تجاوز عشرة من أبناء (فلسطين)، هم من الأطفال، فلا بيت هناك ليس فيه قتيل، في كل عائلة هناك جراح وآلام حرب غير عادلة على مرأى من العالم المتحضر.
لاتهتم فضائيتنا بإفهام العالم
وهنا أتساءل في دهشة: إلى متى لا تهتم فضائيتنا بإفهام العالم أنه لا تعلم الآلة الحربية الجهنمية الإسرائيلية المدعومة من طرف القوى العظمى في الغرب، إسقاطات ما تصنعه الآن من دمار وتقتيل، على أطفالها الإسرائيليين أيضا.
علينا أن نضع التاريخ ومستقبل المنطقة في الحسبان، كيف سيكون من نجا من أطفال غزة بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان؟ كيف سينظر الطفل الفلسطيني الذي نجا من كل هذا الدمار الشامل وأصبح راشدا؟.
هل سيميل من سيصبحون نساء ورجالا غدا إلى أطروحات الحوار العادل والتعاون المثمر وروح الإخاء وأحاجي الحلول السلمية؟
ينبغي أن تدرك الفضائيات العربية الغارقة في العبث، إن الحروب ليست مجرد ساحة للاقتتال والاحتراب، بل هي أيضا مجال لصراع السرديات حولها، فما هي السرديات التي ستتردد غدا على مسامع هؤلاء الأطفال الشهود على كل مشاهد الدمار والتقتيل المشرعن بحق الدفاع عن النفس.. ويؤمن بها.
قيم التعايش المشترك والسلام وحقوق الإنسان، واعتبار الآخر ليس عدوا يجب اجتثاثه، بل صنوا له الحق في الوجود والحفاظ على مقوماته الإنسانية وهويته الحضارية أم إشاعة حس الانتقام والثأر والتطرف الأعمى لذات جريحة عانت من حرب غاشمة ومن تأديب جماعي عبر القتل والتشريد؟
أي أطفال سينتجهم هذا العالم
نعم أي أطفال سينتجهم هذا العالم وهم ضحايا ما يسوده من ضغائن وأحقاد وتقتيل، إن الآلة المتطرفة لإسرائيل والمجتمع الدولي الداعم لها وفي مقدمتهم إسرائيل، التي تقود حملة تطهير ضد شعب (فلسطين) في غزة اليوم، هى التي ستخلق الإرهاب والتطرف غدا.
وتئد كل ما تم بناؤه منذ اتفاقيات أوسلو.. أي ردم ثلاثة عقود من محاولات السلام الهش الذي جاء بعد وديان من الدماء وأشلاء ممن قتلوا أو شردوا أو سجنوا.
لم يفقد أطفال (فلسطين) فقط أقاربهم، بل فقدوا الشروط الإنسانية لنمو سليم متصالح مع العالم، إنهم يكبرون وسط رائحة الموت الذي ينمو بجانبهم، يلهون معه، يتجنبهم لحظة أو يصيبهم بشظية، ويقتل أقرانا لهم في نفس المنزل أو من ذات العائلة أو في ذات الحي الذي يقطنونه.
وحين ينهار البيت فوق رؤوسهم، يحولون ما تبقى من أنقاض المنازل إلى ملهى للعب، وممارسة الغميضة أو التأرجح على عمود باب بيت استمر لوحده صامدا ليحولوه إلى أرجوحة.
هؤلاء هم أطفال (فلسطين) أيتها الفضائيات العربية المغيبة، أولئك لذين يجب أن تهتم بهم الفضائيا العربية من خلال تقارير وتحقيقات مصورة تنقل لنا أنهم يحسون كما لو أن هذا قدرهم، الحرب والموت والترحيل، كما لو أنهم يطهرون الإنسانية مما فيها من غرائز التقتيل البدائي والوحشي.
فكيف سننتظر منهم غدا ألا يسخطوا على عالم قاس أوجعهم وعلمهم أن الفقد أساس وجودي به يختلفون عن باقي صغار العالم، هل تعتقدون أنهم سيعيدون بناء هذا العالم الذي دمر فوق رؤوسهم أم سيجعلونه أكثر دمارا مما أورثناهم إياه.
أغلب الظن أن فلسطين لم تعد في القلب فقد، بل لقد تم محوها من ذاكرة العرب، حين تقاعس القادة، بينما الشعوب لا تملك سوى الدعاء والرجاء من المولى عز وجل أن يكون في عون شعب (فلسطين).
حتما سيحاسبنا المولى عز وجل حين خزل القادة العرب إخواننا في (فلسطين، بينما الشعوب المكلومة لاتملك سوى الدعاء لأبناء (فلسطين)، وحين تنتصر إرادة هذا الشعب الذي ينعرض للإباد سوف نكبر ونهلل بانتصارتنا.. يا لها من مهزلة!