في ذكرى رحيلها الـ 80 ننشر حكايات مجهولة عن الأيقونة (أسمهان)
كتب: أحمد السماحي
طوال الـ 80 عاما الماضية، ومنذ رحيلها المفاجئ غرقا لم يتوقف الكلام عن المطربة صاحبة الصوت المتفرد (أسمهان)، حيث كانت حياتها القصيرة سلسلة من الألغاز التى لم تحل حتى الآن.
قال عنها الكاتب الكبير مصطفى أمين : كانت (أسمهان) امرأة ساحرة، أنوثتها طاغية، وفي عينيها جاذبية، وكانت أحيانا تتكلم وكأنها تغني، وأحيانا تغني وكأنها تتكلم.
وكانت (أسمهان) لها قدرة غريبة على اجتذاب الرجال، تلتقي بها للمرة الأولى فتشعرك أنك أعز صديق التقت به في حياتها، ثم بعد ذلك تسألك عن اسمك!
وأضاف مصطفى أمين : كما كانت (أسمهان) شخصية غريبة، فهي تصر في الصباح على أن تفطر طبق فول مدمس وطعمية، وتصر في المساء على أن تأكل الكافيار، وتشرب زجاجة شمبانيا.
وتحرص على الذهاب إلى المساجد توزع الصدقات، وإلى الكنائس توقد الشموع، وفي الليل تذهب إلى النادي الليلي في ملهى (البيروكية) وتسهر حتى الصباح!
(أسمهان والتابعي).. علاقة خاصة
أما الكاتب الكبير (محمد التابعي) الذي كان أحد أصدقائها، ويقال أنه ارتبط بها بعلاقة عاطفية، فيقول عن (أسمهان): عيناها كانتا كل شيئ فيهما السر والسحر والسحب والعجب، وكانت تعرف كيف تستعمل سحر عينيها عند اللزوم!
ويضيف التابعي: كانت (أسمهان) تحب الغناء وشأن الفنانة الأصيلة كانت تحب دائما أن تغني لمزاجها هى، وبرغبتها هى، وأمام من تأنس لهم وترتاح.
أما الغناء بالأجر، وأمام من تعرف ومن لا تعرف، فهذا هو الذي كانت تضيق به وتثور من أجله، ولكنها كانت مضطرة لأن تغني لكي تعول أسرتها، أمها وابنتها (كاميليا).
وكان شقيقها (فريد الأطرش) يساهم في النفقات، ولكن النصيب الأكبر من هذه النفقات كان يقع دائما على عاتق (أسمهان).
وقد قالت لي مرة – يرحمها الله – في لحظة ضيق طفرت فيها الدموع من عينيها: (أن أهلي لا يقولون لي صباح الخير إلا بالثمن، صباح الخير عايزين النهاردة خمسة جنيه.
صباح الخير: لا تنسي أن تشتري للبيت (كذا وكذا)، صباح الخير: بكره لازم ندفع قسط المقاول عشرة جنيهات).
ومن هنا كانت تقبل أن تغني في حفلات كثيرة مرغمة، ولو كان أمرها بيدها أو لو كان عيشها مقصورا على نفسها لأرضت كبرياءها، ورضيت بالقليل وعاشت على القليل.
ولكن كانت هناك أسرتها، وطلبات الأسرة، بل وطلبات القادرين على أن يعملوا، ويعولوا أنفسهم، ولكنهم لا يعملون!.
(أسمهان) وتوزيع الدقيق
يرصد الكاتب (محمد التابعي) من خلال كتابه (أسمهان تروي قصتها) هذا الجانب المجهول في حياة (أسمهان) الذي يؤكد إنسانيتها الشديدة وحبها لعمل الخير.
يقول التابعي: (عرف فقراء بيروت في عام 1941 مرارة الجوع بعد أن ارتفعت أسعار القمح والدقيق – الطحين – كما يسمونه في لبنان، حتى عز الحصول عليه إلا بسعر السوق السوداء.
وهنا أنقل عن جريدة (الحديث البيروتية) الصادرة بتاريخ الاثنين 29 سبتمبر 1941، والمقال بإمضاء (س. معلوف): استعانت الأميرة (آمال الأطرش) بالله على تخصيص يوم الاثنين من كل أسبوع لتوزيع الطحين مجانا على الناس.
هذا ما قرأته في الصحف، فدهشت واستغربت، لا لأن الأميرة (آمال الأطرش) قررت عمل شيئ إنساني يرضي الله، ويرضي ضميرها، بل أن دهشتي واستغرابي من اختيارها توزيع الطحين وسيلة لإرضاء الباري والضمير.
فلو قيل لي مثلا أن الأميرة (آمال الأطرش) قررت توزيع أي شيئ غير الطحين لقلت: لا بأس، فالأميرة اعتادت أن تكون سخية جوادة، إلى حد كبير كما يقولون.
ولكن أن تقوم على توزيع الطحين مجانا في وقت يصعب فيه الحصول عليه بالفلوس، فهذا يعتبر من المغامرات الجريئة في الوقت الحاضر) .
(أسمهان) طيبة القلب
يقص (محمد التابعي) حكاية أخرى تؤكد إنسانية (أسمهان) وطيبة قلبها فيقول: دعتها مرة مطربة من مطربات الدرجة الثالثة لحضور حفلة لها، ولبت (أسمهان) دعوة (الزميلة) وألحت على أن أصحبها.
وجلست في (البنوار) الذي وضعته المطربة الداعية تحت تصرف (أسمهان)، ورفع الستار وانطلقت المطربة تغني بصوت أشبه بصرير الباب العتيق، وزمت (أسمهان) شفتيها وشدت على أسنانها.
أما أنا فقد تراجعت بمقعدي إلى مؤخرة (البنوار)، وتهيأت للخروج، ولكن (أسمهان) أصرت علي أن نبقى إلى نهاية الحفلة، والتفتت إليّ تهمس وتهددني بأنها مستعدة لأن تعمل فضيحة.
وتمسك بخناقي إذا لزم الأمر لكي ترغمني على البقاء، وصاحت فيّ أقعد!، وقعدت، واضطررت أن أسمع (صرير الباب العتيق) إلى ما بعد منتصف الليل!
ولما خرجنا إلى الشارع قالت: هل يكلفك كثيرا أن تجبر بخاطر الناس؟!، أي ألم كنت أسببه لهذه المسكينة لو كانت رأتني أغادر حفلتها بعد الوصلة الأولى؟!
فقلت لها: ولكن من مصلحتها هى نفسها أن تعرف أن صوتها لا يصلح للغناء، وابتسمت رحمها الله وهى تقول : دعها تغني فلعل بلوى الناس بسماع صوتها أخف كثيرا من بلواهم بها إذا هى اشتغلت بغير الغناء!
(أسمهان) والشحاذة
يواصل التابعي في كتابه الشيق ذكرياته مع (أسمهان) فيقول: في أحد الأيام وبالتحديد في شارع (عماد الدين) رأينا إمرأة شابة في ملابس رثة ممزقة افترشت بلاط الشارع وراحت في نوم عميق.
وعلى صدرها يرقد رضيع قد أحاطته بذراعيها، ووقفت (أسمهان) أمام الاثنين، ثم فتحت حقيبة يدها وأخرجت ورقة مالية بقيمة خمسة جنيهات، وترددت والتفتت إلى تقول:
(ولكن لو وضعت الفلوس في يدها يمكن حد يفوت ويشوفها ويسرقها منها وهى نائمة)، وجلست (أسمهان) القرفصاء أمام الشابة النائمة، ومدت يدها وتناولت الرضيع برفق من على صدرها.
ثم مدت يدها بالورقة المالية، ودستها في صدر المرأة، وهنا أفاقت الأم من نومها مذعورة فزعة، وحملقت في (أسمهان) ثم مدت يدها بلهفة تسترد رضيعها.
وقالت لها (أسمهان): (ما تخافيش، ماتخافيش، أنا أخدته علشان أقدر أحط لك الفلوس في صدرك)، ومدت المرأة يدها إلى صدرها وأخرجت الخمسة جنيهات ونشرتها بين يديها وتطلعت فيها كأنها لا تفهم من هبوط كل هذه الثروة عليها!
هذه بعض الحكايات الإنسانية التى ننشرها على مسئولية الكاتب الصحفي الكبير (محمد التابعي)، الذي ارتبط بعلاقة خاصة جدا تعتبر من الألغاز الكثيرة في حياة (أسمهان).