رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (صلاح عبد السيد).. أشواك على فرعي صبار (4)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

تنطلق بنا السيارة.. وأنا غارق مع (محمد عبد الواحد) في ذكرياتي عن (صلاح عبد السيد).. الذي كنا معه منذ دقائق..

مررنا بلوحة لمدرسة إعدادية يتشاجر أمامها بعض الطلاب.. ألقى أحدهم بالآخر إلى الأرض، وهو يلاحقه باللكمات بينما الآخر يدفعه في بطنه بركلات وقد ثار حولهما الغبار.. وأنا أتابع المشهد أكملت لمحمد:

من الأشياء التي أذكرها قبل أن أحكي لك بقيه قصتي مع (صلاح عبد السيد) .. أنني كنت منتدبا من التربية والتعليم إلى وزاره الثقافة.. من شروط هذا الانتداب أن لا تتخطى خمس سنوات..

انتهت الخمس سنوات.. أرسلوا لرئيسي في إدارة الأدب ليسألوه بشكل روتيني عن رأيه في انتقالي من وزارة التعليم بشكل نهائي إلى وزارة الثقافة.. كان الرجل يتحاشي مقابلتي في الفترة الأخيرة.. لعب الفأر في عبي كما يقولون.. قابلته و سألته: كيف كان ردك علي الوزارة بشأن نقلي؟

قال وقد لاحظت تحاشيه النظر في عينى: كتبت لهم أنني بالطبع لا أستغني عن وجودك معنا هنا.. وقد وافقت على النقل .

انتظرت أن تأتيني الموافقة دون جدوى.. أذهب ويصاحبنى (صلاح عبد السيد) يوميا إلى قاعة سيد درويش في الهرم.. لا توجد أوراق نهائيا!!.. نعود مرة أخرى لمدير إدارة الأدب فيتلجلج ويتهرب ولا يعطينا أبدا إجابة مقنعة..

قال له (صلاح عبد السيد) منفعلا: لقد أكدت أنك منحت للأستاذ ابراهيم رضوان موافقه  النقل.. و قد ذهبت معه بنفسى إلى قاعة سيد درويش عشرات المرات.. دون أن نجد أي موافقه ولا حتى أي  أوراق  بهذا الخصوص.

كنت ألاحظ انفعالات (صلاح عبد السيد).. كان قلقا وغاضبا أكثر منى.

ازاي دراعه اليمين وهو مخليك رايح جاي علي قاعة سيد درويش؟

هو الأستاذ (سعد) قال لك إيه؟

في إحدى الأيام قال لي (صلاح عبد السيد) أن زميلتنا  المسيحية تريدني في موضوع هام.. دخلت مكتبها لتبادرنى متسائلة: هو الأستاذ (سعد) قال لك إيه بخصوص نقلك؟

قلت لها: قال لي أنه وافق على انضمامى لوزارة الثقافة وانتقالى من التربية والتعليم..  بل وأضاف  أنه يعتبرني ذراعه اليمين.

ابتسمت متعجبة –  ازاي دراعه اليمين وهو مخليك رايح جاي علي قاعة سيد درويش؟

 دخل (صلاح عبد السيد) مندفعا وهو يقول  لها: ما تخبيش على (إبراهيم) أي حاجه  يا أستاذه.. لأنه كده مستقبله ها يتحطم.. و دا حته من قلبي..

 قالت له في تحرج: خلاص بلغه انت يا أستاذ صلاح..

التفت لي (صلاح عبد السيد) منفعلا: اسمع يا إبراهيم.. الراجل ده كتب الرد على وزاره الثقافه. بأنك عمالة زايده عنده.. واللي هو شايفه إنك ترجع المنصورة ثاني للتربية والتعليم.. خصوصا إن مالكش سكن في القاهرة..

لاحظ (صلاح عبد السيد) أن رعشة قد تملكت جسمى بأكمله..  فقد تذكرت عودتي السابقة للمنصورة بعد رحلة معاناة لمدة خمس سنوات بين الإذاعة والتلفزيون والمسرح..

قال (صلاح عبد السيد) مشجعا و محذرا في نفس الوقت – شوف يا إبراهيم.. هاسيبك تتصرف زي ما انت عايز.. بس علشان خاطري اتصرف بعقل..

كان صوتى يرتعش برغبة جامحة في الانتقام: يا صلاح أنا ما عادش فيا عقل.. الراجل ده كدا بيقتلني..

أخذنى (صلاح عبد السيد)  نسير ناحية غرفة الإدارة الواسعة: انت دلوقت  تشرب كباية شاي وسيجارة.. فيه أوضه متصله بالأوضه اللي احنا هانقعد فيها دلوقت علشان الإجتماع الأسبوعي.. خده معاك جوه.. اقفل عليكم الأوضه و اتفاهم معاه.. يمكن يحل ليك المشكلة.

 جلست أترقب وصوله.. بمجرد ظهوره تركت نصف كوب الشاي متجها ناحيته: لو سمحت يا أستاذ (سعد) كنت  عايزك في الأوضه التانيه دقيقة واحدة.

تردد الرجل متوجسا: خير؟

التفت (صلاح عبد السيد) في جلسته معقبا: ما تشوفه عايزك ليه يا أستاذ سعد؟.. ان شاء الله خير.

بمجرد دخوله معى إلى الغرفة أحكمت إغلاق  الباب.. التفت ناحيته مثبتا نظراتى في عينيه المراوغتين: الورق بتاعى وصل حضرتك؟

 قال لي وقد ابتعد عنى خطوة : طبعا وصلني.

 وعملت فيه إيه يا أستاذ سعد؟

وافقت طبعا.. دا انت  دراعي اليمين يا إبراهيم!

حضرتك كتبت لهم إن أنا عمالة زايده.. وما ليش سكن في مصر!.

ابتعد عنى مذعورا يردد: أكيد زمايلك هما اللي خانوك وكتبوا عنك الكلام ده.. من غير ما أنا أعرف!

تناول الورقة مرتعشا.. مزقها بسرعة –  يعني انت عايزني أودي زمايلك في داهية؟

تناول الورقة مرتعشا

صرخت فيه مرعدا وأنا أدفع ناحيته بقلم وورقة مكتوبا فيه صيغة الطلب: ماتستعبطش عليا.. لو كلامك صح اكتب لي دلوقتي انك موافق!

تناول الورقة مرتعشا.. مزقها بسرعة –  يعني انت عايزني أودي زمايلك في داهية؟

 قلت له: ما يروحوا في 60 داهية.. أحسن ما أنا أرجع للتربية والتعليم.. إمضي يا أستاذ..

 رفع من صوته كى يسمعه من بالخارج في محاولة للتدخل وإنقاذه: لأ مش هامضي يا إبراهيم.. هتعمل ايه يعنى؟

أمسكت بياقة قميصه أجذبه ناحيتى وملامح وجهى تفور في عينيه بغضبى الهائل: قسما بالله لو ما وقعت ما هاتعدي علي خير..

ردد في محاولة زائفة للتماسك: والله ما تقدر تعمل حاجة!

ما حدث بعد ذلك سأتجنب وصف تفاصيله التي وصلت بنا إلى (شرطة أم المصريين).. لينتهى كل هذا الجدل برضوخى للعودة إلى وزارة والتعليم بعد صدور القرار بشكل رسمي.. رغم ذلك لم يكف (صلاح عبد السيد) من جانبه عن اعتراضاته ومحاولاته الدائبة..

اتصل بالمستشار (علي السيد) المستشار القانوني لوزير الإعلام طالبا منه التدخل.. اتصل المستشار بالفنان عبد الحميد حمدي المثال المشهور ورئيس الهيئة  الذى هاجمته الصحف بعد أن صمم تمثالا لأم كلثوم وضعوه بالمنصورة..

بالفعل تم إلغاء الأوراق السابقة.. ظل (صلاح عبد السيد) يتابع الأوراق الجديدة في كل مراحل انتقالها ورجاءات التوقيعات وطرقعات الأختام المتتابعة حتي تيقن تماما من الموافقة علي تثبيتي في وزارة الثقافة.. بل وصمم علي الاحتفال بالحدث بشراء تورتة علي حسابه وزعها علي الزملاء..

كنت أتكشف جوانبا جديدة في شخصيته.. فرحته طاغية تفوق فرحتي.. فرحة عودة الحق إلى صاحبه.. فرحة مشاركته في تضميد جراح صديق.. هذا هو (صلاح عبد السيد) الذي كان له الفضل في تعييني بوزارة الثقافة.

كان (محمد عبد الواحد) يستمع لي في تعجب من إخلاص كاتبه المفضل، وهو يستكشف فيه هذه الجوانب الإنسانية التي تؤكد له صحة يقينه بتفرد هذا المبدع..

تابعت من نافذة السيارة (فرعي صبار) على جانب الطريق شاهرة أشواكها المدببة.. تذكرت (صلاح عبد السيد) وهو يقطف كل يوم وردة حمراء أو بيضاء لزوجته من حديقة فيلا الشاعر (أحمد شوقي) التي خصصوا لنا فيها عدة حجرات لإدارة الأدب!

 و..

يا صديقي.. كنت الوردة..

قايده ف قلبي شمعه منورة

كنت الإمام للكل..

والقائد في كل مكان تروحه يا صلاح

جواك سماح الدنيا.

والنهر اللي كان فايض على شط الجميع

جواك ربيع الحب.. واضح في العيون

عمرك ما كنت تخون صديق

ولا كنت غير السوسنة فوق الطريق

شخصيه طاهرة مقدسة

تكتب.. صبحت المدرسة المفتوحة

فوق أرض الأدب

جوه الكتب.. كنت الحروف الطاهرة..

في زمان الجفاف

كنت اللحاف.. لينا إذا زاد المطر

جواك ملاك.. راسم قمر.

للي ما زالوا فوق طريق الأمنيات

وحاجات حاجات..

واعي لكل مشاكل الكون اللي خانق في الجموع

تصبح دموع ع الشقيانين

تصبح شموع

والكلمه رافضه في الرجوع

والجوع لكل حروف تضيف

ترسم على ورقك رغيف للمحتاجين

ٱه يا حنين الساقية للموال

وللكلمة الحلال

ما قدرت أنده ليك.. بغير كلمة بلال

لاعشقت يوم أبدا ضلال

ولا يوم دخل جيبك قروش

غير بالحلال

مهما يميل الحل..

تزيد فيك الصلابه..

والصمود والاحتمال

و ما زال في قلب الكون سؤال

ليه الحقوق بتضيع تملي

ع اللي بيحبوا البلد

واللي بيعشقها لابد تضيع حقوقه بدون تمن

يكفيك يا صاحبي يا صلاح

انك مازلت لناس كتير جدا..

وطن.

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.