بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كانت هناك أسباب كثيرة و متعددة تدفعنى لأن أفضّل إعادة عرض (يا عزيز عينى) الذى قدمته في افتتاح مهرجان المسرح المصرى على (المسرح القومي)، عن إعادة تقديمه في الأوبرا.
لم يكن الأمر يتعلق فقط بعدد ليالى العرض التى سيوفرها لى المسرح بأكثر من دار الأوبرا بكثير، و لكن كان (المسرح القومي) بالنسبة لى بيتى الذى أحبه وأفضله، فلقد قدمت عليه معظم أعمالى في القطاع العام حتى صرت صاحب أكبر رصيد في مخرجى المسرح الذين قدموا عروضا من انتاجه.
فقد توالت أعمالى عليه منذ قدمت مسرحية (عجبى 1986)، وبعدها: (حكايات صوفية 88/ أهلا يا بكوات 1989/ منمنمات تاريخية 1995/ وداعا يا بكوات 1997/ ثم إعادة انتاج أهلا يا بكوات 2006/ زكى في الوزارة 2008/ في بيتنا شبح 2012/ باحلم يا مصر 2014/ اضحك لما تموت 2018).
ووصلت عدد ليالى العروض التي قدمتها عليه إلى رقم قياسى، فمثلا مسرحية (أهلا يا بكوات) قدمت عليه لمدة ثلاث سنوات (89/90/91)، في سابقة كانت تحدث للمرة الأولى في مسرح القطاع العام، بل أعيد عرضها في 1993، ثم مرة أخرى في 2006.
كما أننى حققت فيه أعلى الإيرادات في تاريخ مسرح القطاع العام في عدة أعمال (أهلا يا بكوات/ زكى في الوزارة/ اضحك لما تموت)، وكان لى شرف تقديم عرض افتتاحه عام 2014 بعد الحريق الذى دمر خشبته.
لم تكن تلك هى الأسباب فقط لتفضيلى العمل على خشبة (المسرح القومي)، بل كانت هناك أسباب خفية لا يعلمها أحد، فأنا أدين بالفضل لتلك الخشبة، وأعتبرها سبب عشقى لفن المسرح منذ أن شاهدت عليها أول مسرحية في حياتى.
فمازلت أتذكر حتى الآن جلستى وسط عائلتى – وأنا لم أصل الى سن المدرسة بعد – في (بنوار رقم 2) محدقا فى ذلك العالم السحرى الذى انفرج عنه الستار، وظلت تلك اللحظة مترسبة في وجدانى بكل رهبتها و انبهارى بها، وأظن أنها غيرت مسار حياتى فيما بعد.
ظللت مرتبطا بـ (المسرح القومي)
وظللت مرتبطا بهذا (المسرح القومي) خلال سنوات الصبا وأنا أشاهد بعض المسرحيات عليه، وعندما التحقت بالجامعة قادنى شغفى بالمسرح للتواجد فيه مرة أخرى لحضور امتحانات التخرج لمعهد الفنون المسرحية التي كانت تقدم عليه في أوائل السبعينات.
وكم كنت سعيدا وأنا أقف عليه للمرة الأولى فردا في (الكورس أو الجوقة)، وأنا مازلت طالبا بالجامعة في مسرحية (حدث في أكتوبر 1973)، من إخراج الأستاذ (كرم مطاوع) لأتابع يوميا الفنان الكبير (محمود ياسين)، وهو يلقى منولوج الكلمة.
والعملاق (شفيق نور الدين)، وهو يلقى منولوج (عنترة العبسى)، وأشاهد تجليات القديرة (سهير المرشدى)، ورصانة القدير (أشرف عبد الغفور).
ثم اشتراكى ممثلا بعد التخرج في (مسرحية الميت والحى 1976)، من اخراج الأستاذ (مجدى مجاهد) بجوار أساطين (المسرح القومي): (أمينة رزق – حمدى غيث – عبد المنعم إبراهيم – عبد الرحيم الزرقانى – حسن عبد الحميد).
ومازلت اذكر أيضا ارتباكى وقلقى عندما وقفت مخرجا على تلك الخشبة للمرة الأولى في مسرحية (عجبي)، فقد كنت أحس إحساسا صادقا – و ليس من باب المبالغة أو من باب المجاز – بأن هناك مئات العيون تراقبنى في انتظار ماذا سأقدم؟
إنها عيون (عزيز عيد ويوسف وهبى وفتوح نشاطى وخليل بك مطران)، إلى جانب عيون بطلى المسرحية (صلاح جاهين وجمال عبد الناصر).
فقد كانت تروى حياة الأول ويظهر بها، أما الثانى فبرغم عدم ظهوره على الخشبة إلا أنه كان وراء كل أحداثها، و عندما نجحت المسرحية وسافرت لتمثل مصر في (مهرجان دمشق) المسرحى العاشر اعتبرت أن هؤلاء قد رضوا عنى.
كل ذلك ساهم في إحساس ترسخ لدى بأن (المسرح القومي) هو بيتى الذى أعشقه، فأنا أعرف كل زاوية فيه ولى فيها ذكريات، و أحب العمل فيه مهما كانت التضحيات أو العراقيل . و لم تكن مطالبتى للصديقين (إسماعيل مختار وإيهاب) فهمى بالتعاقد معى أولا قبل البدء في إعادة صياغة عرض عزيز عيد لأسباب مادية.
ولكن لإحساس غريب انتابنى بأن هناك تعمد بإبعادي عن (المسرح القومي) في السنوات الأخيرة، لا أدرى من وراءها؟
نمى هذا الإحساس داخلى نتيجة لعدة وقائع جاءت متتالية، فبعد أن قدمت عرض (اضحك لما تموت)، للنجمين (نبيل الحلفاوى ومحمود الجندي)، والذى تم اغلاقه بعد شهرين بسبب مرض (الجندي) ودخوله المستشفى.
حاولت إعادة العرض
حاولت إعادة العرض عدة مرات ولكن كانت (ودن من طين و ودن من عجين)، حتى أصابنى اليأس برغم أن العرض كان ناجحا على المستوى الفني و الجماهيري، وحقق أعلى ايراد في مسارح الدولة في ذلك العام، وفي نهاية العام التالى 2019 جاءت (كورونا) لتغلق كل المسارح.
وعندما عاد النشاط المسرحى مرة أخرى صارحت الصديق (إيهاب فهمي) بأحد أحلامى وهو تقديم مسرحية تراجيدية لأول مرة في مسيرتى، فلقد قدمت الكوميديا السوداء في معظم أعمالى التي كانت مصرية الطابع، ولم أتعرض لإخراج عمل عالمي على الاطلاق.
ولذا اخترت المسرحية الأحب إلى قلبي، و التي أعتبرها أعظم ما كتب في فن المسرح، إنها مسرحية (هاملت) لوليم شكسبير التي درستها لطلابى عدة سنوات سواء في الدراسات العليا بقسم المسرح بكلية الأداب جامعة عين شمس.
أو في ورش الإخراج التي أعقدها بصفة منتظمة على أنها المسرحية القابلة للعديد من التفسيرات والرؤى الإخراجية، دون تغيير في النص أو تبديل أو إضافة، وعلى هذا الأساس كانت مشروع تخرج احدى دفعات ورشة الإخراج بمركز الابداع التي أشرف عليها.
والتي قدمت 3 تفسيرات مختلفة فازت إحداها للمخرج (هانى عفيفي) بمعظم جوائز المهرجان القومى للمسرح.
وعندما سألنى الصديق (إسماعيل مختار): لماذا (هملت) الآن؟، شرحت له رؤيتى التي تختلف عن كل التفسيرات والرؤى التي قدمت بها هذه المسرحية الخالدة، والتي تجعلها معاصرة لكل وقت و صالحة لكل زمان.
وانتهى الأمر بالموافقة على تقديم (هاملت)، وفجأة لمع في ذهنى خاطر، وهو أن أقيم ورشة قبل بدء البروفات لمجموعة من دارسى المسرح والمهتمين بفن الإخراج، أقوم فيها بشرح الرؤى المختلفة التي قدمت من خلالها هذه المسرحية، وارتباط ذلك بتطور الثقافة والعلوم الإنسانية والظروف السياسية.
كما أبين لهم الأخطاء الشائعة التي يقع بها بعض المخرجين عند تصديهم لذلك العمل، ومنها على سبيل المثال العمر الحقيقى لهاملت، وكيف أن النص يشير إلى أنه ربما تعدى الثلاثين من عمره !!
وبالفعل تم اختيار حوالى 30 من الدارسين، وبدأت الورشة أثناء تكوين فريق العمل الخاص بالمسرحية، وسرعان ما تم الاتفاق مع النجم (أحمد صلاح السعدني) للقيام بدور (هاملت)، والنجمة (ريم مصطفى) لدور (أوفيليا).
و.. فجأة وجدت (إيهاب) يطلب منى تأجيل (هاملت) بعد كل هذا الجهد!!
وتلك قصة أخرى..