بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
فجأة ظهرت طائرة صغيرة فوق (الساحل الشمالي) – كما ظهر على بعض محطات التلفزيون – تجر وراءها لافتة لإحدى الشركات الكبرى العاملة في مجال العقارات، تعلن عن إحدى الشركات المالكة لأحد المشروعات، صار حديثاً للناس في كل مكان بسبب حجم الأموال الضخمة التى حصدتها في بضع ساعات!
ونحن قد اعتدنا كل صيف، أن يأتينا من أخبار (الساحل الشمالي) ما يستفزنا من حكايات عن شراهة الإنفاق التى تصل إلى حد السفه، وهذا الشره وذلك السفه أكاد أجزم بأنهما مقصودان لذاتهما.
فلن يحلو لصاحب الثراء الفاحش العيش في (الساحل الشمالي)، ولن يلتذ بالحياة أو ينعم بماله، إلا بممارسة شراهة التبذير والسفه في الإنفاق، ولو كنوع من التفاخر أو البطر، أو بالمعنى الشعبي (الفشخرة الكدابة).
وخلال الأيام الماضية، شاهدنا في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وتم عرضه بين فقرات برامج في قنوات تلفزيونية فضائية خاصة، أحد راكبي السيارات الفاخرة يدفع مبلغ 2000 جنيه مقابل ركن سيارته في مكان مميز بأحد شواطئ (الساحل الشمالي).
وقيل إن ذلك يحدث في بعض المنتجعات السياحية في (الساحل الشمالي)، كذلك سمعنا عن المغالاة في ثمن كوب شاي حتى وصلت الشائعات إلى أن سعره وصل إلى 1200 جنيه في بعض الكافيهات التى لا يدخلها إلا فئات .
لكن طغى الاستفزاز وجاوز مداه، بأن إحدى شركات العقارات قد حققت مبيعاتها عشرات المليارات من الجنيهات خلال 24 ساعة بحسب بعض وسائل الإعلام.
وقد أحدثت الأرقام نوعا من الصدمة لدى قطاعات غفيرة، لكن لم يخرج علينا خبير اقتصادي واحد (الله يرحمك يا دكتور صلاح يا جودة) ليفسر لنا عبر أي وسيلة إعلامية، كيف يمكن لمجتمع يعانى من أزمات اقتصادية طاحنة، خاصةً في رافدى الحياة الأساسيين في الغذاء والطاقة، أن تخرج منه كل هذه الأموال في بضع ساعات؟!
صفة خبير اقتصادي
واسمحوا لى أن انتحل صفة خبير اقتصادي بعد أن خلت الساحة ممن يمكن أن يحدثونا (بصراحة) عن (الساحل الشمالي) وغيره من مناطق الوفرة.. فلأدعى هذه الصراحة مضطرا وأنا أقرر لك انه ليس معنى حصد إحدى شركات العقارات مبالغ بالمليارات خلال وقت لم يتجاوز نصف اليوم، أننا نعيش في بلد واسع الثراء.
بل إن ما حدث يوحى بواقع مختلف تماماً عن كل التصورات السطحية، فمعنى جمع كل تلك المليارات خلال فترة وجيزة، هو أن الثروات الكبرى تتركز في أيد قليلة تمتلك حق سرعة التصرف فيما تحوزه من أموال ضخمة.
فيمكنها (بضغطة زر) تحويل ما تشاء من أموال، من حساب إلى حساب آخر، لإتمام عمليات البيع والشراء، إن ذلك لا يدل على هذا فقط، بل يدل على اختلال الميزان المالى، حيث تميل الكفة لصالح فئات قليلة على حساب الأغلبية الكاسحة ممن ليس لديهم فيلل أو شقق أو شاليهات فاخرة في (الساحل الشمالي).
(فما ينقص هنا يزيد هناك وما يزيد هنا ينقص هناك حسي القاعدة الميزانية التى تحكم كل شيء).
كما يمكننى (طالما ثبت على نفسي تهمة الانتحال بالاعتراف والذي هو سيد الأدلة) أن أضيف بأن هذه الأموال الطائلة التى تدفقت علامة على استفحال سطوة رأس المال بعدما خدع الجميع بما يسمى (الليبرالية الجديدة) والتى أطلقت يد المستثمرين، واعدة بتحقيق جنة الأرض التي تروج لها بعض وسائل الإعلام.
تلك الجنة التى سبق أن فشلت الشيوعية في تحقيقها خلال تجارب مريرة شهدها القرن العشرين!.. وسواء كانت الشيوعية أو الليبرالية الجديدة، فهى مشروعات دولية تقف وراءها مؤسسات وهيئات من ذوات اليد الطولى!
لفظي (EGYPT) و(مصر)
ولأن مصر من المجتمع الدولي المدفوع دفعا أمام خطوات ما أطلق عليه مفكرون اقتصاديون (الرأسمالية المتوحشة)، فلذلك لابد أن تتلقى نصيبها من ذلك التوحش في تحقق مجتمعين متوازيين أطلق عليهما رواد التواصل الاجتماعي مؤخرا لفظي (EGYPT) و(مصر).
فالأقلية المترفة المنعمة التى تعيش في Egypt في منتجعاتها في (الساحل الشمالي) وغيره لاتكاد تعرف عن الأغلبية الكاسحة التى تعيش في مصر شيئا من معاناتها.
فقد انقسم المجتمع المصري انقساما حاداً حيث ظهرت فئات لا تتحدث في حياتها اليومية، باللغة العربية بلهجاتها التى يلهج بها المصريون، ولاتلتزم في الغالب بالعرف الاجتماعى المصري، إلا بما يراعى مصالحها فقط.
وهذه الفئة تتعامل أيضاً بسلة عملات على رأسها الدولار الأمريكي، وليس شرطاً أن يكون من بينها الجنيه المصري، باستثناء التعامل مع جانب (مصر).
وعلى هذا الأساس تحسب حساباتها في معيشتها العامة واليومية، فقد لايفزعهم ما أفزع أهل الجانب الآخر من حجم الإنفاق، بل هى بحساباتهم أمور طبيعية وفي نطاق المعتاد، ويبدو الإعلام غائبا عن هذا المشهد.
فماذا يعنى مبلغ 50 أو 60 مليار جنيه، بينما بحسبة بسيطة تتهاوى ضخامة هذا المبلغ بقسمته على خمسين، أى أن رجل الخمسين مليار في حقيقتها هى مليار واحد من الدولارات.
بذلك سيصبح ركن السيارة 40 دولارا وليس 200 جنيه، بينما كوب الشاي يزيد قليلا عن دولارين!
قس على ذلك كل شيء، بداية من زجاجة المياه الصغيرة في كشك في أول طريق (الساحل الشمالي)، ونهاية بقصر على لسان ممتد في عمق البحر الأبيض المتوسط! يبرزه بعض الإعلاميين في إعلاناتهم دون ذرة من حياء.
فمصر بالنسبة للأجانب و(الإيجيبتاوية) تعتبر من أرخص بلاد العالم ومن ترونهم من أغنياء القوم الذين يشترون القصور والفيلات ويركنون سياراتهم بالألفين جنيه، هم بالكاد من الطبقات المتوسطة!.
أما الطبقات الغنية الحقيقية بالمقاييس الأجنبية، أو حتى (الإيجيبتاوية)، فأنت لاتكاد تراها في الدوائر المحيطة بك، لأنها تعيش وتتكاثر في مجالات أخرى قد تصادفها يوماً إن كتب لك الأقدار هذا الشرف العظيم.
وهى منزلة لا تتحقق ولا يعبر عنها إلا الاصطلاح الصوفي- وإن كان غير مناسب تماماً لهذا المقام – وهو (خاصة الخاصة)، أو (خواص الخواص)، ولكننا مضطرون لاستخدامه لإيصال المعنى طالما أن الإعلام قاصر عن ذلك!