بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
فيلم (أهل الكهف) ظلمته ظروف عرضه، ولكن هذا لا ينفي أنه فيلم متميز وإضافة مهمة للسينما المصرية ولكل من شارك فيه، ولا زالت متاحة فرصة أن ينال حقه جماهيرياً، المهم أن يرفع النقاد أصحاب الذمم الواسعة أقلامهم عنه ويكفيهم الإشادة بكل مبتذل ورخيص في الفن.
مثلما في العالم دول تلتهم دولاً، وبين الشعوب فئات تلتهم فئات، وفي الحياة أناس يشرّدون أناساً، وفي البحار أسماك تقتات على أسماك، ففي الفن أيضاً فنانون يهمّشون فنانين ومنتجين يبعثرون أحلام منتجين وأعمال تلتهم أعمالاً.
وفي موسم العرض السينمائي الأخير، التهم فيلم (ولاد رزق 3.. القاضية) الأفلام المنافسة له، وسطا على رواد السينما بفضل الحملة الدعائية الضخمة والزن الإعلامي والبهرجة البصرية المصاحبة له والتي ساقت الناس إلى دور العرض لمشاهدته.
وكأنهم قطيع يساق إلى مراعي يوهمونه أنها ثرية العشب، وبعد أن يذهب إليها يكتشف أنه العشب المر الذي ينشر الفوضى بين القطيع، ويحولهم إلى كائنات تتناطح وتنتهج البلطجة على بعضها وتنتشر الفوضى بينها، فعندما يتكتل القادرون خلف فيلم يجمل صورة البلطجي الحرامي ويبرر جرائمه فاعلم أن الهدف أبعد كثيراً مما تتخيل.
من الأفلام التي تم عرضها في هذا الموسم (أهل الكهف)، فيلم متميز ولكن حظه سيء، يتمثل سوء حظه في عرضه في نفس توقيت فيلم البلطجة المصنوع على نمط الأكشن الأمريكي (ولاد رزق).
قد يقول أحدهم أن مخرجه (عمرو عرفة) شرع في تصويره منذ العام 2020، وكان بإمكانه وإمكان منتجه محمد الرشيدي تأجيل عرضه أو تقديمه بعيداً عن (ولاد رزق) والرد بسيط أن النماذج المشابهة لولاد رزق موجودة كل الوقت، والهروب من مواجهتها يعني الاستسلام لسيطرة الرداءة والابتذال على السينما.
فن حقيقي وإبداع متميز
الفنانون الذين يصرّون على تقديم الهادف فنياً، يراهنون على أن قطاع عريض من الجمهور لازال يبحث عن فن حقيقي وإبداع متميز ومضمون هادف، من الطبيعي أن تكون صدمتهم كبيرة من الهرولة وراء أفلام العنف والأكشن الخالية من القيمة.
لأن ذلك يؤكد المقولة التي يرددها صناع الفن الرديء منذ سنوات (الجمهور عايز كده)، والتي تعد أداتهم لتبرير ما يرتكبونه من جرائم في حق الفن والمجتمع.
الجمهور مثله مثل الفنانين وغيرهم من أصحاب المهن، فيه الساذج والواعي، وفيه الحكيم والجاهل، وفيه الضال والمهتدي، وفيه الأعمى والبصير، وكما يقولون (لكل فولة كيال).
فبالرغم من ضعف الاقبال على فيلم (أهل الكهف)، فإن من شاهدوه خرجوا من قاعات العرض وهم سعداء باختيارهم فيلم حقيقي يتضمن عناصر الإمتاع، القصة والإخراج والتمثيل والديكور والتصوير، فيلم يمنح مشاهده الرضا النفسي والتشبع الفني ويستفز عقله للتفكير مجدداً في قصة (أصحاب الكهف).
القصة معروفة لنا جميعاً، ونقرأها بشكل أسبوعي تنفيذاً لتعاليم رسولنا الكريم، وقد استوحى منها توفيق الحكيم مسرحيته (أهل الكهف)، والتي أمتعت قراءها مكتوبة وحاضريها مسرحاً.
كما استوحت منها إيران مسلسلاً حقق نجاحاً كبير، وقد اختار أن يقدمها أيمن بهجت قمر كاتباً وعمرو عرفة مخرجاً برؤية جديدة، أضافا شخصيات وأحداث ومواقف لتأكيد ما أكدته المعجزة الإلهية، فالتغير في الزمن يصاحبه تغير في جوهر الحياة الإنسانية.
صحيح أن ملامح الإنسان لم تتبدل، ولكن سلوكياته وقناعاته تتبدل وتتغير، ولكل زمن أناسه الذين يختلفون عن سابقيهم ولاحقيهم. الحكاية تدور أحداثها بعد بعث المسيح عليه السلام، وكان الايمان به وبرسالته جريمة يهتز لها عرش الملك وينال مرتكبها صنوفاً من التعذيب.
وهو ما دفع فتية آمنوا بربهم من فئات مختلفة إلى الهروب من بطش الملك الوثني (دقيانوس) ليأووا إلى كهف (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً)، وهم يعتقدون أنهم لم يلبثوا سوى يوم أو بعض يوم، يخرجون للحياة ليكتشفوا أن كل شيء تبدل، الظاهر والباطن، وتغيرات الباطن أشد من تغيرات الظاهر.
فالكل آمن بالمسيح، ولكنه إيمان ليس كالإيمان، إيمان ظاهري، فقد تسيّد النفاق بين الراعي والرعية وأيضاً رجال الدين، وأصبح الدين أداة للاتجار به وتحقيق مكاسب وتصفية حسابات، إنه النفاق، والمنافقون أشد كفراً، والمنافقون أشد عداوة من الكفار، ولذلك فقد توعدهم رب العالمين بالدرك الأسفل من النار.
رسالة بليغة في (أهل الكهف)
(أهل الكهف) لم يحتملوا زيف الحياة بعد عودتهم إليها، ولم يتقبلوا انتشار النفاق والفساد، وقرروا العودة إلى الكهف بمحض إرادتهم وأداروا ظهورهم لكل مغريات الدنيا وآثروا عليها ظلام وضيق الكهف، نجاة بإيمانهم الحقيقي من الإيمان الظاهري ومن تجار الدين والدنيا.
الرسالة بليغة، وليتك تنظر حولك لتعرف أشكال وألوان النفاق التي تعددت وانتشرت، فالديانات السماوية ليست هي ذاتها الديانات التي بعث الله بها رسله، والقيم ليست هي القيم التي دعا إليها الأنبياء.
القصة رواها رب العالمين في كتابه الكريم لعل الناس تتعظ، وحكاها المبدعون عبر وسائط مختلفة وبرؤى مختلفة عل الناس تستوعب، واليوم يرويها كل من (أيمن بهجت قمر وعمرو عرفة) ومعهم أبطال الفيلم بطريقتهم لعلنا نفيق.
ولكن للأسف لم يمنح الناس أنفسهم فرصة مشاهدة الفيلم وهرولوا إلى الفيلم الذي يهدم كل بقايا القيم داخلنا، وهو ما يؤكد أن اليوم الذي يفيق فيه الناس غير موجود أو على الأقل بعيد.
فيلم (أهل الكهف) عليه مآخذ، ولكن لو حاسبنا صناعه بنواياهم لتجاوزنا عن أخطائهم الصغيرة.
ولذا فإن التحية حق لكل من شارك في الفيلم من فنيين ومبدعين وممثلين وعلى رأسهم خالد النبوي ومحمد ممدوح وغادة عادل ومحمد فراج وأحمد عيد وبيومي فؤاد وأحمد بدير وريم مصطفى وهاجر أحمد وبسنت شوقي وصبري فواز وريم مصطفى وأحمد فؤاد سليم وأحمد وفيق والكبير الراحل جميل برسوم والعظيم رشوان توفيق.