بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
(رينانا راز، يولا بينيفولسكي، روث باتير، شيكما بريسيلر، إيرين أكسلمان)، ربما هى أسماء قليلة للغاية وسط طوفان الاحتجاجات الداخلية التى تشهدها (إسرائيل) منذ السابع من أكتوبر الماضي والعدوان على غزة.
قائمة طويلة يضاف لها يوميا أسماء جديدة.. فنانين وممثلين وأيضا علماء وباحثين وغيرهم الكثير.
القائمة تطول والاحتجاجات تزداد حدة والمجتمع يزداد هو الآخر تمزقا واتساعا وتباعدا فى الرؤى والمواقف، ولازال رئيس حكومة (إسرائيل) بنيامين نتانياهو مصرا على عناده وتمسكه بالسلطة خوفا من محاكمة تطاله لفساده السياسي واخفاقه الأمني فى غزة.
فيما هو غرقا فى وحلها فلا هو قادر على إطلاق سراح أسرى (إسرائيل) لدى المقاومة الفلسطينية، ولا هو قادرا على التقدم خطوة واحدة نحو القضاء عليها والخلاص منها.. فقط قتل ودمار وخرب فتلك هى شريعته ومنهاجه.
هدم الثوابت الصهيونية
251 رهينة أثناء هجوم المقاومة في 7 أكتوبر، وسط اعتقاد أن 116 منهم لا يزالون في غزة، بينهم 41 يقول جيش (إسرائيل) إنهم قتلوا، وأي كان العدد زاد أو نقص لكن الثابت هو أن اسرائيل فى أزمة غير مسبوقة.
أزمة تمزق نسيج المجتمع وتكاد تعصف بمفهوم الانصهار الداخلى أحد الثوابت والركائز التى تأسست عليها العقيدة الصهيونية، وتشهد إسرائيل أخيراً عدة صراعات داخلية.
تتمثل بتصعيد ذوي الأسرى المحتجزين في قطاع غزة احتجاجاتهم ضد الحكومة، والتظاهرات اليومية الناتجة عنها بمشاركة عشرات آلاف الإسرائيليين.
أما نتنياهو وفى تعقيبه كل مرة على تلك المظاهرات يحاول القاء الكرة فى ملعب المتظاهرين واتهامهم بأنهم وقود الحرب الداخلية فى اسرائيل وقوله: (يجب ألا تكون هناك حرب أهلية بين الأشقاء، الانقسام ضعف، والوحدة شرط للنصر).
هذا الوضع غير المسبوق كان سببا فى تولد ظاهرة الاحتجاج الداخلى فى الشارع الاسرائيلي.
احتجاج جاء مضافا لسلسلة من عواصف الاحتجاجات الاخرى التى اندلعت منذ أكثر من عام ونصف رافضة لمحاولات نتنياهو واليمين المتطرف الانقضاض على السلطة.و
إحداث تغييرات جذرية فى بنيتها خاصة تلك التى تمس بالمؤسستين التشريعية والعسكرية عبر محاولات مستميته لتمرير حزمة من القوانين والتشريعات التى تزيد من قبضة اليمين إحكاما على السلطة.
وتطيح معها بقدرة اليسار والوسط فى ضمان البقاء على الحياة داخل مجتمع ودولة تتجه وبقوة نحو اقصى اليمين السياسي والديني.
ومنذ بداية العدوان على غزة حاولت دوائر صناعة القرار تمرير شعار (يسرائيل بياحد) – أي اسرائيل متحدة – وهو شعار زائف، سقط منذ اللحظات الاولى للحرب وتهاوى تماما كشعارات أخرى أكثر كذبا وزيفا، مثل قدرة الردع والقدرة على الحسم.وغيرها من الشعارات الجوفاء التى سقطت جميعها فى بحر رمال غزة بلا رجعة.
صوت الدمار والخراب
المتابع للإعلام الإسرائيلي، ورغما عن ارتفاع صوت الدمار والخراب عن أي صوت آخر، يلاحظ أصواتا أخرى ترفض استمرار هكذا وضع يمزق المجتمع وينتقص من ثوابته.
وحتى إن ظلت أصواتا منفردة تغرد وحدها وسط طوفان الدم، لكنها تظل بمثابة دليل ضعف لهذا المجتمع الفاشي الدموي الذي لا يجد نفسه قادرا على البقاء سوى بالقتل، عبر رفعه شعار أن (إسرائيل) تخوض حرب بقاء ووجود لضمان مستقبل (إسرائيل) وشعبها.
رينانا راز
من بين تلك الاصوات فنانة إسرائيلية، تدعى (رينانا راز) أشعلت وسائل التواصل، في أعقاب مطالبتها بإسقاط حكومة نتنياهو بالقوة، وسلَّط الإعلام الاسرائيلي الضوء على تلك الدعوة، التي جاءت في خضم تظاهرات حاشدة تطالب بانتخابات عامة مبكرة.
(راز) البالغة من عمرها (46 عامًا) فنانة متعددة المواهب؛ إذ شاركت بأدوار في العديد من الأعمال الدرامية من مسلسلات ومسرحيات وأفلام.
وشاركت في فيلم (ميونخ)، للمخرج (ستيفن سبيلبرج) عام 2005، الذي دارت أحداثه حول مطاردة الموساد لأعضاء منظمة (أيلول الأسود)، التي كانت وراء تنفيذ عملية ميونخ عام 1972.
دعوة (راز) وبحسب القناة (12) الإسرائيلية تركت أصداءً كبيرة للغاية على منصات التواصل بعد أن رأت أن الحل للتغيير هو إسقاط نتنياهو وحكومته بالقوة.
كما سبق لها وأن ذكرت، في وقت سابق، خلال حديثها مع الناشطة السياسية (ستاف شافير)، عبر بودكاست (من الممكن) أنه (يتعين حدوث شيء ما متطرف من أجل حدوث تغيير، مع تأكيدها على أنها على قناعة بأن الأمر سينتهي بالعنف وأنها تأسف لقول ذلك.
لكنها تشعر أن (من يقبعون على رأس السلطة ويلتصقون بالمقاعد أناس في غاية العنف)، وقالت إن هؤلاء لن يستيقظوا من غفوتهم في الصباح ليخبروا الإسرائيليين أنهم فهموا وقرروا الرحيل.
وأردفت: هذا لن يحدث، يتعين تفكيك هذا الأمر، سيضطرون (الإسرائيليون) لتفكيكه بالقوة، وأنا آسفة لقول هذا، وحاولت المحاورة (شافير) تصحيح الموقف، وأبلغتها أن العنف ليس نهج اليسار الذي يتوق إلى حلول ديمقراطية.
فردت (راز) بقولها: (لا أذكر أي نضال ضد قوة فاشية نجح في كسرها بهذه الطريقة (السلمية)، العنف ليس من بين الخيارات، العنف هو الخيار الأوحد).
ليس لدينا بلد آخر نذهب إليه..
دعوة (راز) تضاف لدعوة بل ربما دعوات وسلسة من الصرخات التى أطلقتها ولازالت تطلقها بل كلل زعيمة الاحتجاج فى الشارع الاسرائيلي، (شيكما بريسيلر).
والتى تقود هذا الاحتجاج منذ نحو تسعة أشهر متواصلة، احتجاجاً على حكومة نتانياهو بسبب فشلها في تأمين صفقة لتحرير الرهائن، مع المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة والتوصل إلى اتفاق يسهل إطلاق سراح الرهائن المتبقين في غزة.
شيكما بريسيلر
(شيكما بريسيلر) عالمة الفيزياء (43 عاما)، وهي أم لخمس بنات، برز اسمها في الاحتجاجات المناهضة للحكومة منذ مطلع يناير ،2023 أي قبل اندلاع العدوان على غزة، وتعتبر من أبرز قادة هذا الحراك.
قالت قبل أيام قليلة (بعد ما حدث في السابع من أكتوبر، وفي ظل تطرف هذه الحكومة وإنكارها لفشلها، يجب عليها أن تعيد التفويض للشعب).
كما سبق لها وأن حذرت مرارا من انحدار (إسرائيل) السريع نحو الاستبداد في ظل مواصلة الحكومة اليمينية برنامج الإصلاح القضائي المثير للجدل، وسط انقسام حاد بين مؤيدين للسياسات القومية للحكومية ومعارضين لها يسعون للدفاع عن الهوية الليبرالية والديموقراطية.
(بريسيلر)، كان لها تصريح هام العام الماضي فى حديث لها مع وكالة (فرانس برس)، أكدت فيه أن إسرائيل تسير على طريق الاستبداد وزادت (هذا يعني أن هناك من يرغب في أن يصبح مستبدا).
في إشارة إلى (نتانياهو)، وتضيف (إذا أكملت إسرائيل في هذا المسار، لن تبقى كما هى، وكما أعتقد أنا وأنت والشعب أنها عليه)، وتضيف (في إسرائيل، لايوجد نظام ضوابط وتوازنات مثل دول أخرى، لذا فإن الديموقراطية لدينا هشة للغاية).
وتشير إلى أن 225 قانونا قدمت إلى الكنيست، ومن شأنها إبعاد (إسرائيل) عن هويتها الديموقراطية الأساسية.
لم تكن (لبريسلر) أو عائلتها أي ميول سياسية قبل العام 2020، عام تفشي فيروس (كورونا)، عندما أمر رئيس الوزراء المحاكم بإغلاق أبوابها كباقي مرافق الدولة.
وهو ما شكك فيه منتقدوه، مع اعتبارهم أن تلك الخطوة لم تكن سوى محاولة منه لتأخير بدء محاكمته، وحينها شعرت عالمة الفيزياء أن عليها التحرك، فقادت مسيرة إلى القدس ودعت الإسرائيليين إلى الانضمام.
(بريسلر) التي تدير مختبرا في معهد وايزمان المرموق للعلوم، والتي تريد عيش حياة طبيعية مع بناتها، قالت فى حديثها مع (فرنس برس): (ليس لدينا بلد آخر نذهب إليه، يجب أن نكسب..
حتى يكون لدينا منزل طبيعي نعود إليه، لا شيء أكثر من هذا)، وتضيف مشككة (لكن يبدو أن هذا غير مضمون على الإطلاق).
يولا بينيفولسكي
صوت آخر من أصوات الغضب والرفض يضاف لصوتي (رينانا راز، وشيكما بريسيلر)، هو صوت (يولا بينيفولسكي)، الفنانة ومنتجة الأفلام.
تلك التى عبرت فى الشهر الثاني للحرب على غزة عن بالغ غضبها من خلال اعلانها عن تخليها عن جنسيتها الإسرائيلية احتجاجا على الحرب الإسرائيلية على غزة والانتهاكات المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
(بينيفولسكي) قالت فى حينه: (لم يكن الأمر سهلا، فكرت بالأمر طويلا منذ عرفت التاريخ الحقيقي للمكان الذي نشأت فيه، هذا التاريخ الذي لم نتعلمه في المدرسة).
موضحة أن السبب الذي جعلها تقدم على هذه الخطوة الآن، (هو الهجوم المروع الذي قامت به إسرائيل على غزة، والأبعاد الكارثية لعدد الضحايا المدنيين جراء هذا العدوان)
روث باتير
(روث باتير)، الفنانة الإسرائيلية التي تم اختيارها لتمثيل (إسرائيل) في معرض (بينالي البندقية للفنون)، في أبريل الماضي قالت هى الأخرى: (إنها ترفض فتح الجناح الإسرائيلي حتى يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين في غزة).
وكتبت في بيان على إنستجرام (أشعر أن وقت الفن قد ضاع)، موضحة سبب قرارها هي وزميلين قائمين على الجناح بعدم فتحه، ووقع ما يقرب من 9 آلاف شخص، من بينهم فنانون ومديرو متاحف، على نداء عبر الإنترنت يدعو إلى استبعاد إسرائيل ويتهمها بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
ورفض منظمو البينالي والحكومة الإيطالية النداء قائلين: إن من الضروري منح إسرائيل مساحة في المعرض.
المثير في حينه هو وسائل الإعلام الأمريكية والغربية نقلت في حينه مضمون بيان نشرته جماعة نشطاء تسمى (الفن وليس تحالف الإبادة الجماعية) يندد بفظائع مستمرة تمارسها إسرائيل في قطاع غزة.
معتبرًا أن أي تمثيل رسمي لإسرائيل على الساحة الثقافية العالمية بمثابة موافقة على الإبادة الجماعية في غزة، لكن بطبيعة الحال لم يكن هناك قدرة على إقناع معرض (بينالى البندقية) منع (إسرائيل) من المشاركة بسبب سلوكها في الحرب على غزة.
إيرين أكسلمان
بالطبع ما سبق ليس سوى نذر يسير من أصوات الاحتجاج الداخلي في اسرائيل ويكفي الاشارة الى وجود اسماء اخرى تطالب بوقف الحرب فورا منها، المخرج (إيرين أكسلمان) صاحب فيلم (إسرائيلزم – Israelism)، الذي أثار ضجة داخل إسرائيل خلال الأشهر الماضية.
وقال (أكسلمان) فى تصريح سابق ولافت له (كان لدي مدرس يعرف مدى تقدميتي أنا وعائلتي، وفوجئ بمدى تأييدي لإسرائيل.
سألني عما إذا كنت أعرف أي شيء عن التاريخ الفلسطيني، فقلت له (لا، فأعطاني كل هذه الكتب لمؤرخين إسرائيليين يساريين ومؤرخين فلسطينيين يساريين، وبدأت أستيقظ وأدرك أن الرواية التقليدية المؤيدة لإسرائيل تمحو الفلسطينيين بشكل أساسي).
هذا الوعي الجديد دفعه لإنتاج فيلم (إسرائيلزم – Israelism)، الذي يتتبع رحلة الجندي السابق (إيتان) مؤسس حركة (If Not Now)، وهي حركة من اليهود الأمريكيين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف دعمها لإسرائيل التي تحتل فلسطين وتقتل أهلها، في كفاحهم ضد الممارسات القمعية.
وعلى الرغم من الاتهامات المتكررة بمعاداة السامية، حقق الفيلم نجاحا كبيرا حين عرض في فبراير 2023، وفاز جوائز عدة.
فيلم (إسرائيلزم – Israelism)
كذلك جاء فوز فيلم (لا أرض أخرى) في الدورة الماضية لمهرجان (برلين) السينمائي بمثابة صفعة مزدوجة على وجه السياسات الإسرائيلية.
إذ كشف العمل الذي شارك في صنعه (يوفال أبراهام)، عن معاناة الشعب الفلسطيني، وأكد بروز أصوات معارضة للحرب على غزة بين الفنانين.
ودعا (أبراهام) في كلمته أثناء تسلم جائزة أفضل فيلم وثائقي إلى وقف إطلاق النار في غزة، وجاء الرد الإسرائيلي أن أبراهام (معاد للسامية). وصرح المخرج بعدها لصحيفة (الجارديان) البريطانية قائلا (إنه كان يعتزم العودة إلى إسرائيل في اليوم التالي للحفل الختامي، لكنه غير خططه خلال توقفه في اليونان، عندما علم أن وسائل الإعلام الإسرائيلية وصفت خطابه بالمعادي للسامية).
ربما ما سبق كان محاولة لكشف تناقضات المجتمع الإسرائيلي وتطرفه وجنوحه إلى العنصرية، وتكميم أفواه المعارضين. وابراز لحقيقة وواقع مفاده أن هذا المجتمع يعيش فى أوج مرحلة غير مسبوقة من التمزق والاحتقان التى احدثتها وفجرتها المقاومة الفلسطينية فى السابع من أكتوبر.