محمد عبد الواحد يكتب: (روزاليوسف).. امرأة من فولاذ (5)
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
في دأب ملكة النحل استمرت (روزاليوسف) في استكمال بناء أسطورتها.. طفلة ماتت أمها وهى رضيعة وغادرها أبوها لتجارته في بلاد بعيدة، وتربت لدى أسرة مسيحية أخفت عنها هويتها المسلمة فشبت على أنها مسيحية واخفت عنها اسمها (فاطمة)، ليكون اسمها (روز).
وخفت عنها أنها ابنة أسرة أخرى فشبت على أنهم أسرتها حتى انقطعت مصاريف أبيها للأسرة فتخلصت منها بإرسالها مع صديق لهم إلى البرازيل لتعمل خادمة لدي أسرته.
ومن على متن السفينة المهاجرة وأثناء رسوها في الإسكندرية هربت الطفلة (روز) من قدرها المرسوم لتستقل القطار إلى القاهرة وتتعرف في شارع محمد على على (فرح إسكندر) صاحب الفرقة المسرحية لتبدا رحلتها على المسرح حتى تتربع كملكة المسارح وعمرها لم يتجاوز ال26 عاما.
لكنها على أثر خلاف مع (يوسف وهبي) حول تقديم دور اختارته ومع اصراره على إسناده للممثلة الناشئة (أمينة رزق)، أصرت هى الأخرى على اعتزال الفن تماما، لتبدأ في ولوج عالم جديد عليها.. عالم الصحافة.. الذى لم تقتحمه امرأة قبلها، ولم يجرؤ أن يتحول إليه أحد من أهل الفن.
وبدأت (روزاليوسف) بمجلة تحمل اسمها، وهى سابقة لم تتكرر في عالم الصحافة.. رغم أن كل سلاحها من العلم كان سنوات في المرحلة الابتدائية يجعلها تقرأ بصعوبة و توقع اسمها ببطء.
رغم ذلك راهنت بكل ما تملك على نجاحها في التجربة الجديدة، حتى أنها حولت بيتها إلى مقر لمجلة روزاليوسف.. وقد فشلت أعدادها الأولى لكونها كانت أعدادا ثقافية جادة تحت إشراف (عباس العقاد) لتبدأ في تغيير الخط وإسناد التحرير إلى الصحفى المخضرم محمد التابعى لتتحول إلى مجلة فنية خالصة.
إدخال عناصر الجذب للمجلة
عمل (التابعي) على إدخال كل عناصر الجذب إلى المجلة من غلاف ملون وأخبار فنية وأسلوب خفيف مشوق ساخر ورسوم كاريكاتورية معبرة وساخرة.. وكان الذكاء باستبدال الصور الفوتوغرافية التي لم تكن طباعتها بالجودة والوضوح الكافيين في هذه الفترة بالرسوم المعبرة التي تتم طباعتها بجوده عالية.
كانت مصر في هذه الفترة من أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات تموج بالتقلبات والصراعات السياسية بين القصر والإنجليز والوفد كحزب أغلبية وبقية الاحزاب المعارضة.. تتقلب فيها الوزارات كل أشهر قليلة.
ولأن (روزاليوسف) تدين لمصر بنشأتها واسمها ومجدها الذى حققته بديلا عن الضياع كخادمة، فقد قررت أن يكون لها دورا في هذه الصراعات السياسية، بأن تضم إلى مجلتها الفنية بعضا من الصفحات السياسية.
بالفعل عملت (روز) على استخراج رخصة لمجلة سياسية رغم معارضة التابعي – الصحفى الأول لديها – لأنه تخصص في النقد المسرحى وليس له سابقة في الكتابة السياسية.
رغم ذلك أصرت (روز) واستعانت بالصحفى (حبيب جاماتي) ليكتب صفحتين أسبوعيا في المجلة.. لما مرض (الجاماتى) فجأة طلبت (روز) من أحد معارفها الصحفيين بجريدة (البلاغ) أن يكتب الصفحتين.
لكنها بعد أيام فوجئت بجريدة (السياسة) الأسبوعية تتهم مجلة روزليوسف بسرقة هذا المقال حرفيا من صفحاتها.. لكى تتدارك (روز) الفضيحة أسرعت تطلب المساعدة مرة أخرى من (التابعي) الذى رضخ لإلحاحها، وبدأ يكتب بابا سياسيا ليبدأ طريقه الجديد ككاتب سياسى من الطراز الأول.
بل أصبح (التابعي) فيما بعد أستاذا لصحفيين مروا من بوابة (روزاليوسف).. وتتلمذ على يديه جيلا كاملا من أبرزهم (محمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلى أمين وغيرهم.
بدأت مجلة (روزاليوسف) تحت إشراف (العقاد) الوفدى الهوى، مما أكسبها تعاطف حزب الأغلبية (الوفد)، وقد تم احتسابها أنها الذراع الإعلامي للوفد، مما جعلها هدفا لنيران الإعلام التابع للقصر.ح
استبدال كلمة (الوفد) بـ (روزاليوسف)
حتى أنهم صدروا إحدى مجلاتهم بكاريكاتير لزحام يرفع لافتة مكتوب عليها (حزب الوفد) مع شطب كلمة (الوفد) واستبدالها بكلمة (روزااليوسف) ليصبح (حزب روزاليوسف).
وقد اغتاظ (النحاس باشا) لهذا الهجوم ليخرج في إحدى خطبه مؤكدا: (نعم.. نحن حزب روزاليوسف).. رغم ذلك لم تمر سوى فترة إلا وبدأت (روزاليوسف) في مهاجمة الوفد ورموزه و على رأسهم (سعد زغلول، والنحاس باشا).
هاجمته كلما رأت منه شبهة خضوع لأى شروط إنجليزية.. أو خنوع لسلطة زوجته الصغيرة السن (زينب هانم الوكيل).. وقد ضمت إلى هيئة التحرير طالبا في كلية الطب تخصص في كتابة المقالات السياسية العنيفة الساخرة التي تنال من كبار السياسيين والباشوات ومعالي الوزراء.
لتنال من هالة القداسة حولهم ،بل ونالت منهم بالرسوم الكاريكاتورية اللاذعة التي تشوه الصورة المثالية الأبوية، لتجعلهم مسوخا تسلم رقابهم للشعب كله ليسخر من أخطائهم وفضائحهم.
لم يملك كبار السياسيين أعصابهم أمام هذا الهجوم المتواصل وغير المسبوق بقيادة امرأة لتتم مصادرة المجلة عدة مرات سواء في عهد إسماعيل صدقى أو في عهد محمد محمود باشا الذى بدأ عهده بمصادرة هذا اللسان الجارح والكاشف والناقد.
لتكون أول مجلة تتم مصادرتها في عهد الدستور ولكنها لم تكن الأخيرة، فخلال عام 1926 فقط قد تم مصادرة 26 عددا من مجلة (روزاليوسف).
وبالمناسبة فخلال مسيرتها الصحفية على مدار 30 عاما فقد تم مصادرة حوالى 35000 نسخة من إصداراتها.. كانت المصادرة لروزاليوسف تأتى بثمار عكس المتوقع لتكون سببا في تكالب الجمهور على شرائها ومضاعفة توزيعها حتى أصبحت المجلة السياسية الأولى في مصر.
روزاليوسف ترفض تهنئة الملك
كانت (روزاليوسف) لا تعرف المهادنة.. عندما أرسل الملك (فؤاد) لتهنئتها على مرور العام الأول لروزاليوسف، في محاولة لإمالتها بعيد عن الوفد منافسه الأول في حلبة السياسة أجابت مندوبه قائلة: (أبلغ مولاك أنى أرفض هذه التهنئة).
أصبحت (روزاليوسف) المجلة السياسية الأولى في مصر، وقد دفعت (روز) لذلك ثمنا فادحا بمواجهتها بكل أنواع التهديد والوعيد والمصادرة وحتى السجن.. حتى أن المحيطين بها أيضا قد شاركوها دفع الثمن وعلى رأسهم محمد التابعى.
يقول محمد التابعى: دخلت السجن في شهر ديسمبر من عام 1927، وكان ذلك بسبب مقال كتبته عن صاحب الجلالة (رضا بهلوي).. والد (محمد رضا بهلوي) شاه إيران، ونشر المقال في مجلة (روز اليوسف) في شهر أكتوبر 1927.
وكنت يومئذ موظفا بسكرتارية مجلس النواب، ومن هنا لم أكن أوقع مقالاتي بأي اسم مستعار أو حقيقي، كما إنني لم أكن رئيس التحرير المسئول، وكانت صاحبة المجلة ومديرتها المسئولة الصديقة الغالية (روزاليوسف) غائبة في باريس مع زوجها الأستاذ (زكي طليمات الذي كان يدرس هناك فنون المسرح.
ومع ذلك فقد بادر رجال البوليس السري إلي القبض عليّ مع اثنين كانا معروفين بأنهما يعملان مثلي في تحرير (روزاليوسف)، وأودعونا سجن التخشيبة أسفل سراي محكمة الاستئناف بميدان باب الخلق.
وحقق معنا الأستاذ (أحمد زكي سعد) وسألنا وأنكرنا جميعا أن لنا صلة باسم كاتب المقال، وأعادونا إلى سجن التخشيبة، وأثناء الليل بكي الزميلان، وهنا خجلت من نفسي، كما أكبرت شهامة الصديقين فقد أنكرا معرفتهما بكاتب المقال، مع أنهما يعرفان طبعا أنني كاتبه.
وقلت لهما: (بس بأه.. بلاش عياط وخلونا ننام، وبكره الصبح راح اعترف لوكيل النيابة إنني أنا اللي كتبت المقال)، وفعلا اعترفت، وأفرج المحقق عن الصديقين، وقرر استمرار حبسي إلا إذا دفعت كفالة قدرها خمسون جنيها، ومن أين لي يومئذ بخمسين جنيها؟
وأودعت سجن الاستئناف، وبقيت فيه سبعة أيام، وذات صباح فتح السجان باب الزنزانة وهو يقول: (مبروك.. دفعت الكفالة )، وعجبت من الذي دفعها. ع
رفت من مكتب السجن أن صديقي اللدود يومئذ (يوسف وهبي) الذى نواصل الهجوم عليه وعلى فرقته في (روزليوسف)، هو الذي دفعها عندما بلغه الخبر، وهوإنني عجزت عن دفع الكفالة).