بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
خرجنا من باب العمارة التي يسكن بها (صلاح عبد السيد) ونحن في حاله صمت كاملة.. يلفنا حزن دفين.. انسحبت من ملامحنا ابتسامات التشجيع له كغطاء بأن (الأمور على ما يرام).
كانت جرعة الأمل التي أطلقناها لـ (صلاح عبد السيد) هى آخر ما تبقى بداخلنا الذى تشقق باليأس الخفى.. خرجت أنا و(محمد عبد الواحد) وابنه المستشار متجهين لسيارة محمد.
والذي عبر لى من قبل عن أستاذية (صلاح عبد السيد) له بقوله: (حينما أفتح له مجموعة قصصية أشعر و أنى دخلت الفصل الدراسي، وأنه عليّ أن أنصت وأتعلم الكثير).
ودعنا ابنه لنركب السيارة وننطلق بها نتبع خريطة الـ gps ، في السيارة لاحظت انغماس (محمد عبد الواحد) في حالة سرحان وتوهان غير عادية.
مزيج من الفرح بلقائه لـ (صلاح عبد السيد)، بما له من مكانة في نفسه وحزن على رؤية عملاق هائل مكبل بأغلال المرض الغليظة تعوقه عن الحركة والكتابة.. كتاب ممتع أوشكت صفحته الأخيرة على دورها .
اتجهنا إلى العنوان الذي أرسله لي الدكتور (مدحت العدل) لتسليمه المسلسل الخاص بي – مسلسل أحزان الغريب – الذي يقع في 1500 صفحه.. تركني محمد عبد الواحد و ذهب بسيارته يبحث لها عن مكان ٱمن في عاصمة تحولت إلي جراج فوضوي.
تركت المسلسل مع أحد العاملين بشركة العدل للإنتاج الفني.. وقفت أمام العمارة إلى أن حضر (محمد عبد الواحد) بسيارته مرة أخرى بعد محاولاته العديدة في العثور على مكان يترك فيه سيارته.
ضحك (محمد عبد الواحد)
هبط علينا أمين شرطه يزن على الأقل 200 كيلو ليقول لنا انه سيأخذ رقم السيارة.. أخبرته أننا بلدياته من الصعيد.. ضحك (محمد)، وذهب برأسه الى الناحية الأخرى.
استأذنت أمين الشرطة على أساس أننا في حالة جوع رهيبة.. وأن صديقي سيذهب إلى الناحية الأخرى ليشتري بعض السندوتشات.. سمح لنا بدقائق خمس عاد بعدها محمد وفي يده ساندوتش.. و في يده الأخري شنطه بلاستيكية.
وهو يقول لي: أنا جبت لحضرتك ساندوتشين لأني عارف انك ما بتحبش تاكل من غير زوجتك، وضعت الحقيبه بجانبي.. قلت له: خايف ٱكل تجيني ازمه قلبيه كالعادة
بعد أن انتهى محمد من الساندوتش الخاص به.. سألني – هو حضرتك عرفت الأستاذ (صلاح عبد السيد) إزاي؟
كنت أنتظر منه هذا السؤال.. تأملت الزحام في الشارع ..
قلت له: كانت القاهرة في هذه السنوات البعيدة.. أقل زحاما.. وأكثر فقرا.. لكنها أكثر بهاءا وبهجة و نشاطا أدبيا وفنيا.. كنت يومها سعيدا فقد كان الانتداب الأول لى من وزارة التعليم التي كرهتها إلى وزارة الثقافة.
الموظف الغبي اللي استلم ورقة الانتداب في قاعة سيد درويش قام بتعييني فى قسم المرتبات.. بطبيعتي أنا موظف فاشل.
أكملت لمحمد حديثى وقد شدت خيوط الزمن كل وجدانى إلى هناك :
بعد خمسة أيام من استلامى لعملى الجديد خرجت من المكتب الذى أعمل به لأغسل وجهى في الحمام الخاص بالمكان.. هناك قابلت الروائي (أحمد الشيخ).. أخذنا بعض بالأحضان وهو يسألني:
انت هنا بتعمل إيه؟
أنا موظف في قسم المرتبات الخاصه بكم.
انفجر (أحمد الشيخ) بالضحك.. فهو يعرف انى آخر من يصلح في هذا العالم لأى وظيفة روتينية، فما البال بموظف في قسم المرتبات.. قال لي: بدأت شغل هنا من كم يوم؟
حوالي خمس أيام .
واتحملت ازاي المده دي كلها؟.. هههه .
أنا فعلا ناوي أبلغ مرضي.. وآخذ أجازه طويلة.
مرضي إيه وأجازة ايه.. تعالى معايا دلوقتي.
على فين؟
في إداره اخترعوها هنا اسمها إدارة الأدب.. بيتعين فيها الأدباء اللي طفشانين من أماكن وظيفيه مضايقاهم زي حالاتك كده.
دخلت وراء (أحمد الشيخ) غرفة واسعة للغاية.. يتوسطها منضدة هائلة.. يلتف حولها مجموعة من الأدباء أعرف بعضهم.. اتجه بى مباشرة إلى سيدة تتصدر الغرفة بمكتبها اتضح لى أنها مديرة إدارة الأدب: أقدم ليكي الأستاذ (إبراهيم رضوان).. من أهم شعراء العامية في مصر.
لم يبدو على قسمات وجهها أي تقدير.. سألتنى في آلية: حضرتك بتشتغل فين؟
في إدارة المرتبات!.. ضجت الحجرة بضحك الأدباء.. ضحك مزيج من السخرية و المرارة.. ضحك هو ترجمة فورية لمقولة (شر البلية ما يضحك).. ضحك جعل المديرة تلتفت ناحية الجالسين في انزعاج متسائل؟
انتهت موجة الضحك بأكثرهم شعورا بمرارة موقفى متسائلا: إبراهيم رضوان اللي أنا باحبه يشتغل في إدارة المرتبات؟!.. وفيه إدارة جنبها إسمها إدارة الأدب؟ !
كان صارم القسمات.. لكنها صرامة القاضي.. الصرامة المحببة للنفس.. صرامة الصدق و حب الحق .
صلاح عبد السيد و(مديحة أبوزيد)
في تدارك مفاجئ للموقف أشارت لى المديرة: اتفضل روح لرئيسك وقول له الأستاذة (مديحه أبو زيد) بتقول لحضرتك هى أخدتني خلاص إدارة الأدب.. ولو سمحت هات لى منه إخلاء طرف.
خرجت من الغرفة مسرعا.. انتبهت لصارم القسمات يصاحبنى التوجه إلى رئيس قسم المرتبات.. لم يترك لى الفرصة لأتكلم .. سأل رئيس القسم في استنكار بالغ: عارف دا مين اللي بيشتغل معاكم في إدارة المرتبات؟!
أجاب رئيس القسم فى آلية قارئ الكشوف في أرشيف: الأستاذ (إبراهيم محمود رضوان علي).
أجابه في تحد بالغ: لأ يا أستاذ: دا إسمه الشاعر (إبراهيم رضوان).. والأستاذه مديحة أبوزيد اختارته كزميل في إدارة الأدب كشاعر من أعظم شعراء مصر.. ولو سمحت عاوزين إخلاء الطرف الخاص به حالا.
بالفعل انتهى إخلاء الطرف في دقائق معدودة ليسارع به وهو يتقدمنى لتسليمه للأستاذة (مديحة) التي أشارت إلى بما يعنى انتهى الموضوع.
جذبنى لأجلس إلى جواره على المنضدة الهائلة مبتسما: إنت بقيت معانا خلاص في إدارة الأدب.. أخيرا قابلت حضرتك .
بس حضرتك ما عرفتنيش بنفسك؟
اسمي (صلاح عبدالسيد).. يمكن تكون مش عارفني على أساس انك شاعر وأنا قصاص.
إزاي مش عارفك.. أنا قارئ جيد ليك يا أستاذ (صلاح).
كانت مفاجأة مفرحه تشبه فرحته اليوم بك يا محمد، حينما عرف أنك تتابعه .. قال لي في مودة ذابت معها صرامته: بلاش حكاية أستاذ دي.. أكيد قريت لي في الأهرام؟، لأ.. قريت لك في مجلة (الدوحة).
فرح (صلاح عبد السيد) جدا وهو يقول: أنا كنت بانشر في الدوحه علشان الفلوس.. والحمد لله إن أنا اكتشفت إن فيه ناس متابعاني عن طريق قصصي القصيرة في الدوحة.
عرفني (صلاح عبد السيد) ببعض الموجودين: ده فؤاد بدوي، وده مصطفى الشندويلي، وده محمد كمال محمد، وده محمد أبو الخير.. و …و.. و..
انتهت الجلسة.. كانت المفاجأة السعيدة لي أن تقول الأستاذة مديحه لنا: نتقابل يوم الإثنين اللي جاي.
فرحت جدا.. أخيرا التحقت بعمل يتيح لى أن أسهر حتى الصباح، ولن انهض من السرير بعد الظهر.. أن أعانى من زحام المواصلات الكريه يوم واحد في الأسبوع.
في الحلقة القادمة نستكمل بداية تعارفي على صلاح عبد السيد