محمد عبد الواحد يكتب: (روز اليوسف).. نجمة تهوى من سماء المسرح لتبزغ في سماء الصحافة (4)
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
لم تبلغ الطفلة الهاربة (روز) من قدرها كخادمة في البرازيل عمر الـ 27 إلا وكانت قد حققت في مصر مالم يحققه غيرها على مسارح مصر.. تعددت ألقابها بين (ملكة المسارح)، و(سارة برنار الشرق).
فجأة قررت (روز) الهبوط من هذه القمة واعتزال المسرح إلى الأبد.. كان ذلك القرار على أثر خلاف نشب بينها وبين (يوسف وهبي)، صاحب فرقة (مسرح رمسيس).
كانت (روز) بطلة الفرقة.. وكان لها دائما عند كل مسرحية جديدة الحق في اختيار الدور النسائى الذى يروق لها.. وحينما كان يتم الإعداد لمسرحية (الذبائح) تفحصت (روز) الأدوار النسائية الثلاثة (الزوجة المصرية – الزوجة الأجنبية – الفتاة اليتيمة التي تعيش في بيت عمها).
اختارت (روز) دور الفتاة اليتيمة لأنه من وجهة نظرها الدور الذى سيحظى بأكثر تعاطف جماهيرى.. لكن صاحب الفرقة (يوسف وهبي) كان له رأى آخر.. فهو يرى في ملامحها الشامية أقرب مصداقية لدور الزوجة الأجنبية.
رفضت (روز) وتمسكت بدور الفتاة.. عرض عليها القيام بدور الزوجة المصرية فكررت الرفض.. صارحها (يوسف وهبي) أن دور الفتاة اليتمية قد أسنده بالفعل لممثلة ناشئة صغيرة السن هي (أمينة رزق).
وأنه يرى في الدور انطلاقة لها تستحقها.. وأنه لن يستطيع نقض وعده لها وتحطيمها على مشارف مشوارها الفني.
(روز) أصرت على الرفض.. و لأن (يوسف وهبي) يتسم بالعناد فقد تمسك برأيه بشكل قاطع.. فقررت هى الأخرى بعنادها المعهود مغادرة الفرقة إلى الأبد.. بل واعتزال عالم المسرح كله.
أهدت لأمينة رزق فستانا سواريه
وحينما ذهبت (أمينة رزق) إليها في بيتها تهدئ من روعها وتعتذر لها عن ما سببته من مشكلة وترجوها العودة للدور الذى تحبه، صارحتها (روز) بأنها لا ذنب لها فيما حدث.
وأن هذا الموقف كان نهاية حتمية لسلسلة من المواقف والخلافات المستمرة في الفترة الخيرة بينها وبين (يوسف وهبي)، وأن ما حدث هذه المرة كان مجرد صفقة الباب الأخيرة في العلاقة بينهما.و
أهدت (روز) لأمينة رزق فستانا سواريه باهظ الثمن، معقبة أن هذا الفستان سينفعها ذات يوم في أدوار قادمة.
بعد أيام.. و كعادة (روز) في الالتقاء بمجموعة من الأدباء و الصحفيين والفنانين في ندوة بمحل حلوانى كساب – محل سينما ديانا حاليا – وقد انضم اليهم الصحفى (حافظ نجيب) – صاحب جريدة الواحة – ثائرا في غضب وهو يلقى إليهم بعدد من جريدة تسب الممثلات سبا غليظا فاحشا.
لتثور ثائرة (روزا) متسائلة: (كيف لا توجد في مصر إلى الآن جريدة أو مجلة فنية محترمة يكون من ضمن مهمتها الدفاع عن حقوق الممثلات المهدرة و كرامتهن؟!)، وكان من وقود ثورتها موقف (يوسف وهبي) الأخير معها.
ولأنها لا تترك ثأرها فهى تريد متنفسا تهاجم فيه (يوسف وهبي.. لتزيد دافعيتها في اتخاذ قرارها الذى أعلنته في تلك الجلسة بأنها عازمة على إصدار مجلة فنية.
أصيب الحضور بالوجوم.. فكيف لنجمة في مكانة (روز) أن تعتزل؟!، وكيف لمشخصاتية أن تقتحم عالم الصحافة الذى يموج بعمالقة الفكر والسياسة والأدب في هذا الزمن (الشيخ محمد عبده، سعد زغلول، بشارة تقلا، يعقوب صروف، عباس العقاد.. الخ )؟!.
وكيف والنساء مازلن يقبعن في بيوتهن ويتحركن داخل خمار وبرقع أن تصدر مجلة تحمل اسم امرأة (روز اليوسف)؟!.. كانت المفاجأة مركبة عاقدة للألسن!
كان لروز في هذا الوقت في بيتها صالون أدبى مماثل للصالونات الأدبية لكبيرات الممثلات في باريس.. تعقده بشقتها في الدور الخامس في (شارع جلال) المتفرع من شارع عماد الدين في عمارة يملكها (أحمد شوقى) أمير الشعراء.
من بين مرتادى الصالون (عباس العقاد و المازني، ومحمد التابعي).. عرضت عليهم (روز) الفكرة ليتحمس البعض وعلى رأسهم (العقاد) الذى أبدى استعداده أن يكتب لهذه المجلة الجديدة مجانا.. وعارض البعض وعلى رأسهم (المازني).
وكان أهم اعتراضاته إطلاقها اسم (روز اليوسف) على المجلة فأصرت على الاسم وبررت ذلك بأن (يوسف وهبي) أراد للناس أن ينسوا اسمها.
أصرت على اسم (روزليوسف)
لكنها مصرة على أن يصبح اسمها على كل لسان في شوارع مصر وبيوتها وفي الهتافات الصباحية لباعة الصحف (روزليوسف.. روزاليوسف)، ليسمعها (يوسف وهبي) في كل وقت وكل مكان.. كما أنها ترى في هذا الاسم استغلالا تجاريا لاسمها الجاذب جماهيريا، والذى كان لامعا في هذا الوقت حيث كانت في قمة مجدها.
الغريب في الأمر أن (روز اليوسف) في هذا التوقيت الذى قررت فيه إصدار مجلة تحمل اسمها – وقد كانت المجلة الأولى والأخيرة في عالم الصحافة التي تحمل اسم امرأة – كانت تعانى من صعوبة القراءة والكتابة.. فقد توقف تعليمها عند السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية.
في اليوم التالى حصلت (روز اليوسف) على تصريح المجلة من وزير الداخلية.. واختارت شقتها في الدور الخامس مقرا مؤقتا للمجلة.. فكان على المحررين صعود 95 درجة سلم للوصول إلى مقر التحرير.
أسندت (روز) تحرير العدد الأول لمحمود عزمى الذى ترجم لها من قبل عن الفرنسية العديد من المسرحيات الناجحة.. و قد خصصت في المجلة صفحتين للمسرح تهاجم فيهما (يوسف وهبي)، وتهزأ من فرقته المسرحية كاشفة كل عيوبها ونقاط ضعفها.
وقد أسندت هذا الباب لمحمد التابعى الذى اشتهر عنه براعته في النقد الفني.. كتب (المازنى) في العدد الأول من (روز اليوسف) مقالة ذكر فيها أن هذه المجلة مجرد نزوة من سيدة سرعان ما ستخبو و تنطفئ.
نشرت (روز اليوسف) مقالة (المازني) الذى يهاجمها فيه ويهاجم صدور المجلة وقد أرفقتها برد لها: نعم يا سيدى.. قد تكون هذه المجلة نزوة.. لكن كل عمل جديد هو وليد نزوة تتحول إلى فكرة أو عمل لتستمر أو تموت).
كان رأس مال المجلة هو اثنتى عشر جنيها.. و قد تضمن العدد الأول مقاطعا من الأدب الرفيع وشعرا لأحمد رامى و أ(زجال أبو زعيزع) التي ينظمها (على شوقي) ابن أمير الشعراء بالاشتراك مع الممثل عبد الوارث عسر.
ورغم هذا الرقى – و ربما بسببه – لم يبع من العدد الأول سوى عشرات الأعداد – بالمناسبة فقد تم الاحتفال منذ فترة قصيرة بصدور العدد رقم 5000 من مجلة روزاليوسف – مع هذا الإحباط للعدد الأول نصحها المقربون بغلق المجلة وعدم الخوض في الخسارة لأبعد من هذا.
(عباس العقاد) رئيسا لتحريرها المجلة
لكنها أصرت.. بل و باعت المجلة بنفسها لمعجبيها، ودارت على المصالح و الوزارات تبيع الاشتراكات بقيمة 50 قرشا للاشتراك الواحد.. وبما جمعته أصدرت الست أعداد التالية والتي رأس تحريرها (عباس العقاد) لتزداد المجلة جدية وجهامة فلم يلق أي من أعدادها النجاح المتوقع .
قررت (روز) تغير خط تحرير المجلة واستعانت بمحمد التابعى رئيسا لتحريرها.. قام التابعى – كصحفى تجارى – بالاستغناء عن كبار الكتاب والشعراء وجعل ثمن المجلة خمسة مليمات بدلا من قرش صاغ.
وغلف المجلة بصور كاريكاتورية ملونة وجذابة.. وتناول المواضيع الفنية التجارية، بل وكتب أكثر من نصف مواد المجلة بنفسه.. ارتفع التوزيع إلى 2600 نسخة لتصبح مجلة فنية شبه مطلقة.
وصلت بعضا من أعدادها إلى الفنان (زكي طليمات) في بعثته في فرنسا – زوج (روز) في هذا الوقت – ليرسل إليها خطابا يوبخها فيه على انحطاط مستوى المجلة، لكن التابعى اقنعها بأن الجمهور الذى يشترى مجلة عنوانها اسم امرأة وفنانة – روز اليوسف – هو جمهور باحث عن مواد خفيفة وظريفة وليس أدبا وثقافة ذات جدة والتي لها دوريات مخصصة أخرى.
اقتنعت (روز) بآراء التابعى وأصرت على استمرار المجلة على نهجها تحمل (التابعي) على أثر ذلك المسؤولية كاملة.
فرغم ما عرف عنه من كونه (دونجوان) الوسط الفني وصاحب الأناقة والوسامة الدائمة.
فقد كان لا يرى في هذه الفترة إلا وهو رائح وغادى ما بين ورشة تصنيع كلاشيهات الطباعة – الكائنة بجريدة البلاغ – و بين مقر مجلة روزاليوسف حاملا في جيوبه و بين يديه أثقالا من الأحبار و الأكلاشيهات المصنوعة من الرصاص.. صاعدا بها في كل مرة 95 درجة من السلالم نحو مقر المجلة في الدور الخامس.