(نجيب الريحاني): التمثيل لن يموت، والجمهور برئ من تهمة عدم تشجيعه
إعداد: أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الـ 75 لرحيل عملاق الكوميديا (نجيب الريحاني)، الفنان الخالد الذي رحل عن حياتنا يوم 8 يونيو عام 1949، دون أن يرى آخر أفلامه (غزل البنات).
(نجيب الريحاني) الذي كان يبكي بدموع حقيقية بعيدا عن المكياج، (نجيب الريحاني) الذي أمتع الجمهور وأدهش المعجبين بأدائه السلس البسيط المتميز في كل مراحل فنه، والذي قال: (خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي).
(نجيب الريحاني) الذي أسس مدرسة الكوميديا الراقية، والأخلاقية متجاوزا بها كوميدياته الهزلية، وارتجالياته الأولى، المدرسة التى أصبح تلاميذها (عادل خيري، فؤاد المهندس، عبدالمنعم مدبولي، فريد شوقي، محمد عوض)، من عمالقة الكوميديا.
(كنا نود أن يُكرم الأسطورة نجيب الريحاني) في احتفال سنوي يقدم كل عام أعماله المسرحية، وندوات ومحاضرات تشرح دوره في فن التمثيل، والقيم الفنية التى قام بها، لكن هذه هي مصر التى تحتفي مؤخرا بالتفاهات، وتصنع من التافهين رموز!.
نجيب الريحاني يتحدث .. فدقيقة صمت
كتب كثيرا عن (نجيب الريحاني) خلال السنوات الماضية، لكننا كأسرة (شهريار النجوم) قررنا أن نحيي ذكراه الـ 75 بشكل مختلف، وبدلا من الحديث عنه، نستعيد روحه من خلال أحد حواراته، ونعيد نشرها مجددا.
الحوار الذي وقع اختيارنا عليه نشر في مجلة (الصباح) في العدد 426، الموافق 23 نوفمبر سنة 1934، والذي نشر بمناسبة الموسم المسرحي الشتوي لفرقة (نجيب الريحاني).
(بمناسبة قرب افتتاح الأستاذ (نجيب الريحاني) موسمه التمثيلي، رأينا أن نتعرف على خطته الجديدة التى أعتزم السير عليها، ونوع الروايات التى سيعرضها إلى غير ذلك من المسائل.
وقد بدأ (نجيب الريحاني) الكلام عن فرقته فقال: سنفتح موسمنا برواية كوميدي أسند الدور المهم فيها إلى السيدة (عزيزة أمير) لما لهذه السيدة من مواهب كبيرة تليق لدور الرواية، ولا تمثله فقط، بل وتعيش فيه!.
أما الرواية نفسها فهي رواية أخلاقية تمثل حالة الرجل الذي مرت عليه الأيام دون أن يتجنب معاشرة الغيد الحسان، فعاش مع فتاة صغيرة في العشرين من عمرها، بينما هو رجل كهل يبلغ الستين.
وتمادى في هذا الحب لما رآه في هذه الطفلة من سذاجة واحتياج إليه، فإذا ما تتالت الحوادث، بين هذا الحب الشاذ الذي لا يتفق مع الطبيعة، أدرك الكهل المحب خطيئته في اندفاعه.
وأن هذه الطفلة من حقها أن تتزوج وتهنأ بمن تحب، ومن واجبه أن يكون أبا لها، وليس عشيقا، فيزوجها من ابن أخيه الذي كانت تحبه.
بهذا ينتهي موضوع رواية الافتتاح، ومنه يتبين لك أنها رواية أخلاقية، وأن على الممثل مسئولية كبيرة في النجاح، وهذا نوع جديد أردنا أن ندخله على مسارحنا، لأنه نوع (الكوميدي الراقي الإجتماعي الأخلاقي).
وفي اعتقادي أن الممثل القادر الذي يجيد دوره في هذه الرواية يكون قد بلغ الدرجة القصوى التى يجب أن يصل إليها في التمثيل المسرحي.
ويمكنني أن أضع هذه الرواية إلى جانب ما أخرجته من روايات في صف رواية (الجنية المصري) فكل منهما أخلاقية تعطي للجمهور بين الضحك والسرور درسا أليما يلمس حقيقة الحياة الإجتماعية المرة، فيخرج المتفرج بعد الضحك والدرس بعبرة قلما يجدها في رواية مسرحية.
الجمهور والفنان
* لقد اقتصرت في موسمك الماضي على إخراج رواية واحدة هي (الدنيا لما تضحك)، وظل الجمهور ينتظر روايتك الثانية فلم تخرج غيرها، وكنا نلتمس لك العذر وقتئذ لأنك لم تبدأ عملك من أول الموسم، فهل أعددت العدة لموسم كامل يطمئن إليه الجمهور؟
** نجيب الريحاني: لقد أعددنا أنفسنا لإخراج رواية الافتتاح، وأعددنا بعدها رواية (فودفيل)، وستعقبهما ثالثة استعراضية كبرى، انتظر بفارغ الصبر ما سيكون لها من شأن إن شاء الله.
ولقد ضممت من أجل الأستعدادات للمخاطرات الفنية المقبلة عناصر جديدة إلى فرقتي، فمن الممثلات عدا السيدة عزيزة أمير، هناك السيدة زينب شكيب، وسرينا إبراهيم.
كما أضفنا عناصر قوية من الرجال أمثال الأستاذين (حسن فايق، وبشارة واكيم) ولا غرض لي إلا أن أخرج عملا مسرحيا فنيا على الوجه الأكمل.
فلست أبحث عن الشخصية البارزة وأعهد إليها بدور هام سواء أكان يلائم الممثل أو الممثلة أم لا يلائمها، ولكن أبحث بين الممثلين والممثلات عن الأصلح للدور حتى ولو كان ممثلا صغيرا ارضاء للفن دون الأشخاص.
* ماهي نظرتك إلى الموسم التمثيلي هذا العام بصفتك مدير فرقة؟
** نجيب الريحاني: اعتقادي الراسخ أنه لا يوجد موسم تمثيلي (بطال)، فالتمثيل بجميع أنواعه لم يمت ولن يموت، وسيتطور كثيرا وسنرى على المسرح ديكورات وتعدد أماكن تشبه السينما، وتزيد عنها.
وإذا قدمت أية فرقة من الفرق عملا مجيدا نجحت، وإذا لم تقدم فشلت، أما مقولة أن الجمهور أحجم عن مشاهدة التمثيل، وأن الأزمة المالية سببت غلق أبواب المسارح فهذا قول أستنكره.
والجمهور برئ من تهمة عدم تشجيعه للتمثيل، وليست هذه إلا أعذار واهية، لا يمكن الأستناد إليها بأي حال، في عدم وجود النهضة التمثيلية التى يجب أن تكون في مصر.
وكل ما أعرفه أن هذا الجمهور الذي يتهم بعدم تشجيعه للتمثيل هو جمهور حساس ذو عاطفة، وإدراك فلا يمكن أن يتغابى أو يتجاهل أو يتغاضى عن تقدير أي مجهود جدير بالتشجيع.
لكن هذا الجمهور ينصرف عن الفنان الذي يضحك عليه، ويكرر نفسه.
* هل تقصد بهذا التمثيل السينمائي أم المسرحي؟
** نجيب الريحاني: أنا أقصد التمثيل عامة، على أن لي كلمة، من الواجب أن أخرج بها في هذا المقام، وهي أن على حضرات زملائي مديري الفرق المسرحية التى اعتادت تمثيل نوع الدراما أن يعتمدوا في رواياتهم التى يمثلونها على الناحية الأخلاقية أكثر من الأعتماد على الحوادث المثيرة للعواطف.
والدافعة للحزن أو البكاء، فهذه طريقة لا يمكن الوصول بها إلى النجاح، فإذا اعتمدوا على الناحية الأخلاقية كما قلت فأنا الكفيل بنجاح فرقهم، وليأخذوا مثلا لذلك رواية (غادة الكاميليا) فماذا فيها من موضوع؟
شاب من أسرة كريمة أحب فتاة من فتيات الندية وحملها بإخلاصه على حبه، فأقصاه أبوه، وآوته الفتاة، وأخذت تنفق عليه من مالها، ورجاها أبوه أن تقطع صلتها به، لأن علاقتهما تسيئ للعائلة.
ومدعيا أن ابنته لن تتزوج مادامت علاقة أخيها لا تزال مستمرة معها، فتضحى الفتاة بحبيبها، وتمثل كرها له، وتمرض بالسل، ويعلم الشاب بسر التضحية، فيذهب لزيارتها مع أبيه ولا تراهما حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة.
هذا موضوع أخلاقي محض ليس به أثر للحوادث المزعوم أن النجاح متوقف عليها، ومع هذا فقد نجحت (غادة الكاميليا) نجاحا عالميا، فلماذا لا تمثل الفرق المسرحية روايات من هذه النوعية؟!
* أن هذا النوع إذا مانت تعجب به فئة أو طبقة، فهو لا يعجب فئات وطبقات كثيرة من الناس، هم يكرهون مثلا أن يشاهدوا في الطريق رجلا (دهسه) الترام، فهل من المعقول أن يقبلوا على مشاهدة هذا المنظر في مسرح ويدفعوا من أجله نقودا؟
** نجيب الريحاني: لماذا تحكم على الجمهور؟! الجمهور المصري كبيرجدا ومتعدد الأمزجة، وعلى الرغم من هذه الملاحظات التى أبديتها في سؤالك فإن أملي عظيم في مستقبل تمثيل الدراما، إذ من المحال أن يموت هذا النوع ما دام زميلي الأستاذ يوسف وهبي من أنصاره.
وأنا أعتقد أنه لم يقصد باحتجابه الأخير الامتناع عن التمثيل، ولكنه أراد الراحة من الأعمال الفنية الكبيرة التى قام بها، ولابد أنه سيرجع إلينا بنشاط جديد، وسنرى منه ما يعزز فكرتنا، وهي أن المسرح لن يموت.
* ما رأيك في إعانة وزارة المعارف للمسرح المصري هذا العام؟
** نجيب الريحاني: ماذا أقول لك يا صديقي في خمسة وسبعين جنيها تبرعت لي بها لجنة وزارية مكونة من رجال لا يملك الإنسان إلا أن يقر بعملهم وحسن إدراكهم وإنصافهم؟
ويجب أن أصرح أولا بأني أستبعد على اللجنة أن يكون عملي في نظر أعضائها لا يساوي غير هذا المبلغ، لأنني لو ظننت هذا لكنت كمن يتهم حضراتهم بما لا ارضاه لهم!.
لقد أرادوا أن أربح 75 جنيها وإرادتهم فوق كل شيء، فوق تقدير الجمهور، وفوق الماضي المشرف، على كل حال كتر خيرهم، لقد وفروا على ثمن تذكرة السفر درجة أولى إلى باريس، ودفع البقشيش للخدم والجرسونات.
فكل هذه مبالغ كنت سأدفعها من جيبي فوفروها عليّ، وسأضعف شكري لهم إذا بقى لي من مبلغهم شيئا انفقه في باريس، باريس التى تعرف كيف تقدر الفنانيين، ولو كانوا من غير أبنائها، ولو كانوا مغمورين في بلادهم.
المسرح والتمصير
* هناك فكرة يقولها الكثيرون وهى أن الرواية المعربة لا يمكن أن تنجح حتى إذا كانت قوية في موضوعها على عكس الرواية المصرية التى تنجح مهما كان مبلغ ضعفها، ويقال أن هذا من أسباب عدم انتعاش المسرح لعدم وجود مؤلفين مصريين، فهل أنت من أنصار هذا الرأي أم من المعارضين له؟
** نجيب الريحاني: الذين يقولون هذا عندهم بعض الحق، لأن الرواية المعربة إذا كانت إجتماعية، فالمؤلف الأوروبي يبحث ويدرس الحالة الإجتماعية عندهم، وهي غيرها عندنا، فإذا ترجمت الرواية من الفرنسية إلى العربية مثلا ومثلت على المسرح كما ترجمت، فالمتفرج يشاهدها وهو غير فاهم لما يرمي إليه المؤلف.
وتذهب منه المعاني ويرى العادات غريبة عليه، وعندئذ لابد أن يسخط، وأنني أؤكد لك أنه إذا مثلت هذه الرواية عندي في مسرحي لابد وأن أرى ثلاثة أرباع المتفرجين يتركونني وينصرفون.
والباقون ينهالون علي ضربا انتقاما لأنفسهم، والمعقول في مسألة التمصير أن يأخذ المشتغلون بالأدب المسرحي فكرة الرواية ويمصروها على أن لا يبعدوا كثيرا عما قصد إليه المؤلف، فليس عندنا إلا رجال أكفاء لتأدية هذه المهمة.
بديع خيري وكفى!
* وما رأيك في المؤلفين المسرحيين؟
** نجيب الريحاني: ليس عندنا مؤلف مسرحي في مصر، إلا مؤلف واحد هو الأستاذ بديع خيري، فلا يوجد من ينقل صورة حية من حياتنا وبيئتنا ومجالسنا إلا هذا الأديب العبقري.
وإذا كنت أنا أشترك معه في تأليف بعض الروايات فهذه لا تعد إلا محاولة من المحاولات.