بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
لا تشكل ذكرى 5 يونيو كل سنة مجرد استحضار مرارة أيام الهزيمة وانكسار تجربة تجربة تاريخية فارقة في عمر مصر تعرف باسم تجربة (عبد الناصر)، لم يزل هناك من يتفق ويختلف حولها إجمالا او تفصيلاً.
لكن يوم 5 يونيو يشكل أيضاً فرصة للوصول للهجوم على (جمال عبد الناصر) إلى الذروة، حيث لا يجد (عبد الناصر) من يدافع عنه في هذا اليوم كما يحدث في أيام أخرى مثل ذكرى ثورة يوليو أو تأميم القناة.
ففى ذكرى النكسة يتوارى المدافعون عن (جمال عبد الناصر) من الناصريين أو غيرهم من الذين يقدرون تجربته مع مآخذهم عليها دون حالة الهوس المعتادة حيال ذكر اسمه سواء من المحبين أم الكارهين.
وهنا لن أتعرض في قليل أو كثير لما أثاره الأستاذ (إبراهيم عيسى) في برنامجه على (قناة القاهرة والناس) بتحليله لخطاب التنحى الشهير عقب النكسة.
فليقل الأستاذ (إبراهيم) ما شاء له أن يقول، ولا أظن ذلك يتعارض مع ما سبق أن سمعته منه مباشرة من أن أكثر زعيمين في تاريخ مصر المعاصر قدما لهذا البلد ما لم يقدمه غيرهما هما (مصطفى النحاس وجمال عبد الناصر).
بل وانتظر منه قريباً أن يقدم لنا تحليلا لهزيمة (جيفارا) وقتله برصاص المخابرات الأمريكية في غابات بوليفيا.. هذا ان اعتبر جيفارا قد لقى الهزيمة من الأساس!.
وعموماً فالهجوم على عبد الناصر ونسب كل نقيصة إليه ليس له موسما، لأن ذم عبد الناصر لا يحتاج الى أيام معينة في السنة مثل شتلات الشجر، بل الهجوم عليه وانتقاده، كالطماطم والليمون والموز وخضروات السلطة، يستغرق طوال أيام السنة!
تحليل الأستاذ (إبراهيم عيسى)
وقد فوجئت بما هو أنكى من تحليل الأستاذ (إبراهيم)، حيث وصلت إلى عبر الواتساب الخاص بي، معلومة جديدة لم أسمعها من قبل، عبارة عن صورة مأخوذة لبوست على فيسبوك على ما يبدو، لأحد النشطاء المشهورين.
بأن قائداً عسكرياً رفض تنفيذ أمر (جمال عبد الناصر) بضرب مظاهرات للطلبة في الإسكندرية سنة ١٩٦٨ لمطالبتهم بمحاكمة المسئولين عن النكسة.
والأمر المنسوب صدوره لجمال عبد الناصر بأن يتم استخدام الطائرات المروحية لتصب نيرانها على هؤلاء المتظاهرين لإجبارهم على فض المظاهرات!
وقد قرر القائد العسكري المنسوب له ذكر ذلك في مذكراته، أنه رفض تنفيذ الأمر الصادر له من قائده المباشر، والذي أكد له أن (جمال عبد الناصر) هو من أصدر بنفسه هذه التعليمات بعد الفشل في التصدى لهذه المظاهرات بالطرق التقليدية!
وقد أعرب صاحب المذكرات بأنه صارح قائده بأنه لن ينفذ الأمر لأنهم اشتروا هذه الطائرات لضرب إسرائيل وليس لأبنائنا، ثم يكمل أنه أعلن استعداده للمحاكمة بتهمة عصيان الأوامر.
لكنه أمام إصرار قائده أمر بالفعل بطلوع الطائرات في سماء الأسكندرية، ولكنها اتجهت لتدور في البحر بدلاً من أن تتجه إلى تجمعات الطلاب المتظاهرين!
ولا أدرى كيف يمكن تصديق مثل هذه المعلومات، لا لأن (جمال عبد الناصر) يفعلها أو لا يفعلها، ولكن تخيل معى كيف يمكن أن تطرأ فكرة تفريق مظاهرات باستخدام مدافع الطائرات الهليكوبتر، على عقل رجل مثل (جمال عبد الناصر).
وهو الذي كان يعلم جيداً مدى رد فعل ذلك محلياً وعالمياً، فكيف يعطى لأعدائه المتربصين هذه الفرصة السانحة لو فعلها وتم فض المظاهرات بتلك الطريقة؟!
فجمال ذلك المهزوم الذي خرجت الملايين في ليلتى 9 و 10 يونيو لترفض قراره بالتنحي عقب الهزيمة المريرة، كان يعلم جيداً تبعات التصدى بالرصاص لمظاهرات شعبية، خاصة ان القائمين بها من طلبة الجامعات، ومعنى ذلك أن تتحول المظاهرات إلى ثورة عارمة في كل مكان لا تقف في وجهها أى قوة.
فعبد الناصر مهماً بلغ من جبروت يتصوره البعض، إلا أن عدم اللجوء إلى فض المظاهرات بإطلاق النار، سيكون مبعث الامتناع عنه لأسباب أمنية صرفة، أو على الأقل بدافع برجماتى.
التعامل مع الاحتجاجات الشعبية
فالخبرة الأمنية في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية تحسب ألف ألف مليون حساب لعوامل اتساعها ولا تلجأ فيها إلى الرصاص الحى إلا في حالات الخطر الداهم بتحول المظاهرة الى عمليات سلب ونهب وتخريب متعمد يهدد الأمن العام والسلم الاجتماعي.
ومظاهرات 1968 كانت غرضها تقديم قادة الهزيمة الى المحاكمة ولم يرصد فيها أعمال سلب ونهب (كما حدث من قبل في حريق القاهرة ومن بعد في مظاهرات 77 ثم ثورة يناير 2011).
ولم يطالب المتظاهرون (عبد الناصر) بأن يرحل ولم ينادوا بإسقاط نظامه ذلك لأن قادة المتظاهرين في ذلك الوقت خرجوا لأسباب وطنية خالصة، وكان يهمهم في المقام الأول مصلحة البلاد، لم يخطر ببالهم أن يحولوها إلى فوضى عارمة ولا تسللت المصالح الشخصية والمطامع السياسية إلى نفوسهم.
لكن صاحب البوست نفسه الذي ذكر تلك المعلومات واحد من نشطاء 2011 الذين يعرفون جيداً كيف يمكن تحويل المظاهرات والمسيرات إلى ثورة بقليل من نشر الشائعات عن استخدام الشرطة للرصاص، وعن القناصة الذين يعتلون أسطح المباني لقتل المتظاهرين السلميين!
حقا كان هناك رصاص ومحترفون في القنص عن بعد وعن قرب، ولكن لم تكن مهمتهم فض المظاهرات، بل إشعال الفتيل لتتحول الى حرائق.
هذه الحرائق التى لا تزال بعض مظاهرها ماثلة إلى الآن وكل ذكرياتها القاتمة باقية في الذاكرة غير قابلة للمحو.
ولكن تعود على أن تنتظر كل سنة فرية جديدة على (جمال عبد الناصر) لم تسمع بها من قبل وتهيأ لسماع تحليلات جديدة لخطب ومواقف (عبد الناصر) ولو ممن تغنوا بالأمس بأمجاده.
لكن مواسم الهجوم على (جمال عبد الناصر) في ذكرى الهزيمة أو في غيرها، تشير الى أمر في غاية الأهمية وهو أن شبح (جمال عبد الناصر) وتجربته مازال قادرا على استفزازهم وقض مضاجعهم حتى بعد أن فعلوا الأفاعيل من أجل تشويهه.
فهم ما بين أتباع جماعة الإخوان أو الذين يبحثون لهم عن أنساب فيما قبل ثورة 23 يوليو أو المتهوسين خداعا بالليبرالية الجديدة، ولاسيما بعد أن أتقنت تجميل وجهها الانتهازي لتخفى وراء القناع صورتها الشرهة في الاستحواذ على كل شيء.
هم من هؤلاء أو من أولئك.. أو أو أو.. فما أكثر (الأوات) بين الناعقين على (جمال عبد الناصر).
وها نحن نجد حصاد هذا النعيق في محو أى ذكر له بداية من بحيرة (ناصر)، وحتى قطاع الأمن المركزى بالحى السابع بمدينة نصر الذي تم تغييره مؤخرا.
فقد صارت أمور الإعلام (لا سيما الخاص) وتوجهاته في كثير منها تحت أيدي قوى مضادة، وتعلن كراهيتها بصراحة ووضوح لتجربة (عبد الناصر) حتى أن كلمة (الاشتراكية) صارت من المحرمات القصوى في بضع سنين بعد أن كانت حلم الجميع لتحقيق مجتمع الكفاية والعدالة.
فقد سيطرت ثقافة الترفيه الشره والشعار الاستهلاكي ونهم الاستحواذ على الجميع حتى ظنوا انها من أساسيات الحياة.
أما وقد صار قنوات الإعلام تحت أيديهم فانتظر كل سنة من يأتى بفرية أو يظهر بتحليل ليفاجأك بعد ما يزيد عن نصف قرن من وفاة (جمال عبد الناصر)، بما لم يخطر ببالك ولا ببال الد أعدائه من قبل!