بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
ما زلنا نكتب عن مسلسل (جودر) لصاحبه أنور ومخرجه إسلام، هذا المسلسل الذي أسعدنا وأسعد الأسرة المصرية، فليس فيه أي لفظ خادش أو مسيء، وليس فيه أي مشهد بزيء، وحكايته تدور حول ذلك الرجل النقي البريء الذي يخوض مغامرات تحرك الخيال.
وقد لفت نظري أن مسلسل (جودر) كان جميلا، وقد تمثل جماله في أشياء كثيرة تكلمت عن بعضها في المقال السابق، سواء عن التأليف أو الإخراج، ولكي أدخل إلى موضوع مقالي هذا، يجب أن أكتب لكم عن الجمال الذي تفرد به الممثلون الذين أدوا أدوار هذا المسلسل الممتع.
والحقيقة أن كلهم كانوا في منتهى الجمال، ولكنني أحب أن أتكلم عن بعضهم بحسب أنهم يمثلون فريق المبدعين، وكلهم أبدعوا، وهم الفنان مجدي فكري، والفنان عبد العزيز مخيون، والفنان ياسر جلال، والفنان محمد التاجي، والفنان محمود البزاوي، والفنانة نور.
وألتمس العذر ممن سقطوا من مقالي، والحقيقة أنهم سقطوا من المقال لضيق المساحة ونجحوا في المسلسل لسعة الإبداع.
ولكن قبل أن أكتب عنهم يجب أن أتحدث أولا عن صلة الفن بالجمال، فهل تتفقون معي على أن الفن لا يمكن أن يكون فنا إلا إذا كان جميلا؟ حتى ولو كان الممثل يؤدي دورا شريرا، فالجمال شيء رائع.
مجدي فكري
وعلى أي حال فإن الذي يعنينا هنا هو فن التمثيل، فالشر قبيح لاشك في هذا، ولكن قدرة الممثل على أداء الشر هي في حد ذاتها قد تكون جميلة وقد تكون قبيحة.
ولذلك فإنني سأكتب عن الفنان الكبير (مجدي فكري) الذي قام بدور الساحر (شميعة) في مسلسل (جودر)، وإذا بحثت عن أحد يناظره من كل الأجيال فلن تجد، لا أقول هذا من باب المبالغة، ولكن من باب الإقرار بالحقيقة.
ذلك أنه يستطيع أداء أدوار الشر ببراعة غير عادية، فيكون نذلا وخائنا ومبتزا ومتبلد المشاعر لدرجة أنه يستطيع اكتساب كراهيتك له شخصيا، وقد رأيته في أدوار فيها تلك الصفات فنقلني إلى مرحلة الغضب والاشمئزاز من تلك الشخصية التي يؤديها، حتى أصبحت لا أدري هل غضبت منه أم غضبت من الشخصية؟.
ولكن ما الجديد في ذلك؟ فكثير من الفنانين الذين أدوا أدوار الشر فعلوا معنا مثل هذا، الجديد عند (مجدي فكري) هو أنه الوحيد، وأقول الوحيد، الذي يؤدي أدوار الكوميدي بشكل رائع فيصبح كوميديان من الدرجة فوق الأولى.
فهو يستطيع أن يجعلك تقهقه بصوت مرتفع، وقد رأيته في دور حارس أمن في مسلسل (وضع أمني) مع الفنان المبدع الرهيب (عمرو سعد)، فأضحكني كثيرا في الوقت الذي كان فيه عمرو سعد يبكيني، حتى أنه عندما شرع في قتل عمرو سعد لم أكرهه ولكني التمست له العذر رغم تعاطفي مع عمرو سعد.
المهم أن قدرات (مجدي فكري) في الكوميديا يمكن أن تجعله واحدا من فرسان الكوميديا الكبار في هذه الألفية، فهو لا يقدم تلك كوميديا التي تعتمد على المبالغة الممجوجة، ولا يقدم الكوميديا التي يظنها الممثل والمخرج والكاتب تعتمد على التخلف العقلي في الكتابة والإخراج والتمثيل.
وهى كوميديا منتشرة هذه الأيام للأسف الشديد، وكأننا يجب أن نضحك على أداء فيه تخلف، وهو أمر يختلف عن كوميديا الغباء التي برع فيها (لوريل وهاردي)، أو (باد ابوت ولو كاستلو).
براعة (مجدي فكري) إنما اكتسب جزءً كبيرا منها من موهبته، أما الجزء الآخر فقد اكتسبه من ثقافته وتنوع معارفه، لذلك نراه في مسلسل (جودر) وهو يؤدي دور الشرير (شميعة)، صاحب النظرة المخيفة المليئة بالدهاء، وهو دور من أدوار الشر المطلق، وهو نمط قصص ألف ليلة.
إذ أن هذه القصص تقدم الخير في صورته النقية، والشر في صورته المخيفة، لذلك فإن (شميعة) الشرير يعادي كل الناس، وينطلق الشر من عينيه كالشرار، وأول من يعاديهم هو الفتى (جودر) الصياد الذي يؤديه صاحب المقام الرفيع (ياسر جلال) دور وهو من أدوار النقاء المطلق.
المتمثل في الفروسية والشهامة والمروءة والعفاف وحفظ العهود، ومع معاداة (شميعة) لكل صور الخير إلا أنه في ذات الوقت من فرط شره يعادي من طرف خفي شقيقته الساحرة الشريرة (شواهي) التي تؤدي دورها الفنانة الكبيرة نور.
وقد نجح (مجدي فكري) بامتياز في رسم شكل مختلف للإنسان الشرير، يختلف عن كل أشرار الدراما السابقين، وهو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، بمعنى أنه رسم لنفسه بصمة فنية خاصة مكتوب فيها (هذا هو الشرير مجدي فكري).
ولكني أنصحه بأن يذهب كثيرا لأدوار الكوميدي، وأنصح أي مخرج وأي منتج في السينما والمسرح والتلفزيون أن يبحث عن (مجدي فكري)، ثم يبحث عن مؤلف كبير يكتب له أدوار كوميديا الموقف.
فإذا أتقن أحد الكتابة له مع مخرج بارع سنجد عندنا كوميديان يضارع الفنان البريطاني الأشهر (نورمان ويزدوم)، الذي كنا ونحن صغار نتزاحم في دور السينما لنشاهد أفلامه، أو ليكون مثل (روبن ويليامز)، أو (لويس دي فينيس) الفرنسي، ليس تكرارا ولا مشابهة أقصد، ولكن قيمة وقدرة.
نور اللبنانية
ولكن ما موقفنا من الشريرة (شواهي)؟، موقفي هو موقف المندهش، فالفنانة (نور) اللبنانية عندما بدأت التمثيل كانت عادية، أو قل أقل من العادية، ولكن شيئا فشيئا بدأ الأمر يتغير، فمن ممثلة تعتمد على جمال وجهها وبراءته.
ومن أدوار هادئة مريحة لطيفة، إلى ممثلة أخذت تنضج على مهل، ومن الأدوار العادية إلى الأدوار المركبة، فتقوم مثلا بدور تبدو فيه امرأة صالحة، ثم إذا بنا نفاجىء بها في النهاية تسفر عن حقيقتها الشريرة، فتخدعنا ببراءة وجهها إلى أن نكتشف في النهاية أن بعض أصحاب الوجوه الملائكية يخفون خلف ملائكيتهم شيطنة مرعبة.
ولكن الأصعب أن (نور) تقدم لنا في (جودر) دور الساحرة الشريرة (شواهي)، وبالرغم من ذلك الوجه الجميل البريء إلا أنها نجحت في أن تجعلنا ننسى جمال وجهها وبراءته عندما يظهر في قسمات هذا الجمال ذلك الشر والحقد والغل الذي يجعلك لا ترى إلا إبليس وقد تجسد في صورة بشرية.
ولذلك فإنني أعتبر أن (نور) قد وصلت في هذا المسلسل إلى أعلى درجات نضوجها، وقد ساعدها على ذلك هذا التنوع الذي اكتسبته من أدوارها السابقة، سواء في فيلم (بيت الروبي)، أو مسلسلات (ضل راجل، ورحيم، وراجعين يا هوى)، وأدوار أخرى كثيرة.
وساعدها على ذلك أيضا قدرتها على التحكم في طبقة صوتها وهى تؤدي كافة المشاعر، فضلا عن تخصصها العلمي في التصوير والرسم والنحت، وهى علوم ترتقي بصاحبها فكرا وثقافة ورؤية.
محمد التاجي
أما (محمد التاجي)، وما أدراك ما التاجي، ورغم أنني أكتب عنه على استحياء إذ أنه الكبير حفيد الكبير، ومن يكتب عن الكبار ينبغي أن يخفض صوته، فأقول بصوت خفيض ـ من باب الاحترام ـ إن محمد التاجي حفيد سيدنا الراحل عبد الوارث عسر بدأ في أدوار الكوميديا.
وكان الدور الذي عرفه الجمهور من خلاله هو دوره في مسرحية المتزوجون، إذ كان يؤدي فيها دور الشاب الثري (عصمت البلابيشي)، وإن كان قد أدى عشرات الأدوار قبل هذه المسرحية.
ولكن بعد ذلك تنوعت أدواره التي ظهرت فيها موهبته، فمن الكوميديا إلى دور الانتهازي، ثم ظهر بقوة في دور رضوان الناجي بفيلم (المطارد) مع نور الشريف ومجدي وهبة، وكان يقوم فيه بدور التاجر الشاب، الضعيف، المغلوب على أمره، الجبان الذي يخشى سطوة الفتوة، بعد أن كان آباؤه وأجداه هم أهل الفتونة الحقيقية.
ومن خوفه من تمريغ سمعة الآباء والأجداد في التراب فإنه كان يكظم غيظه حتى ينجو من الإهانة من الفتوة الشرير، وفي لحظة فارقة إذا بهذا الضعيف الخائف يتحول إلى وحش كاسر، حدث هذا عندما رأى الإهانة تقع على كبير عائلة الناجي، ففار الدم في عروقه، واندفع ناحية الفتوة الشرير لينال منه.
ولكن أنَّى له ذلك وهو لم يُحِطْ خُبْرا بفنون الفتونة، فكان أن وقع قتيلا، وقد أدى هذا المشهد كأعظم ما يكون.
ومرت أعوام و(محمد التاجي) يحقق نجاحات كبيرة، ورغم ذلك لم ينل بطولة مطلقة، وإن كان يستحق ذلك، فلمثله في بلاد أخرى تُقدر قيمة الفنان تُصْنع الأفلام، ورحم الله (محمود المليجي) الذي كان يؤدي أدوارا مساعدة.
وعندما بلغ به مقام التفرد والعبقرية أعلى سماواته كان أن قدمه يوسف شاهين في بطولة فيلم الأرض لينظر العالم إليه بدهشة، أعندكم في مصر هذه القيمة ولا تقدمونها للعالم؟! يالبخلكم يا أهل مصر!! وكذلك محمد التاجي يستحق أن تُفرد له بطولة مطلقة.
ولكن البطولة المطلقة تحتاج إلى كاتب كبير ذو ثقل وثقافة وفهم وموهبة، لكن ولما لا؟، فيحيى الفخراني وهو أحد المبدعين الذين قدموا أدوار بطولة في العديد من المسلسلات، و(التاجي) لا يقل عنه قيد أنملة، بل قد يزيد.
فهل ندرت أدوار البطولة إلا لأصحاب العيون الزرقاء؟ إذا كانت قد ندرت فأنا أنصحه أن يضع عدسات ملونة في عينيه ويا حبذا لو قام بصبغ ما تبقى من شعره ليصبح خواجة يصلح للبطولة المطلقة.
ولكن ماذا فعل التاجي في (جودر) أدى دوره كما يقول كتاب التمثيل العالمي، فكان هو الوزير الوقور، الخائف، المرتعش، المندهش، الحائر، الضعيف، الذي يخشى على بنات مملكة شهريار.
ثم إذا به يقع في المصيدة وتصبح ابنته شهرزاد هى المهددة بمسرور السياف، ويا ويل الرقاب من سيف مسرور السياف، ولكن دهاء شهرزاد يبعث في نفس هذا الوزير الأب قدرا من الطمأنينة.
كل هذه المشاعر تضطرب في نفس هذا الأب، و(التاجي) يؤديها ببراعة الرجل الذي يعرف كيف تضطرب المشاعر وتتأرجح، يؤديها بلا انفعال مفتعل، وببساطة شديدة، وهي بساطة يطلقون عليها السهل الممتنع.
أما أعظم ما وجدته في أداء محمد التاجي فهو أنه عبر تاريخه لم أجده وقد ارتدى ثوب جده الراحل (عبد الوارث عسر) كبير المبدعين في مدينة الفن العربية، ولكنه كان يؤدي أدواره بشخصية مستقلة، وبصمة فنية متفردة.
وما أروعه عندما قام بدور الموسيقي الغلبان في مسلسل الأجهر، فأشهد وأنا أختم مقالي أن دوره في (الأجهر) هو أعظم أدواره، هو مثل الأرض للمليجي، والخواجة عبد القادر ليحي الفخراني، والسفيرة عزيزة لعدلي كاسب، والزوجة الثانية لصلاح منصور.
كل هؤلاء كانوا عمالقة وقد انضم إليهم في فريق العمالقة (محمد التاجي) فاعرفوا قدره وقدموه بما يليق به وله قبل أن يفوت الأوان.
ولكن أين الباقي؟ أين (ياسر جلال، وعبد العزيز مخيون، ومحمود البزاوي)؟.. مولاي القارىء لقد صاح الديك معلنا أن الصباح قد لاح، لذلك سأسكت عن الكلام المباح، وسأكتب لكم في المرة القادمة عن أولئك الكبار، فهم الأخيار وووووو أووووه مولااااااي..