رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: محمود رضوان (3).. القبر المهجور

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

لم أنم ليلتها.. لإحساسي أن هناك مصيبة تنتظرني.. قالت لي زوجتي: استعز بالله من الشيطان الرجيم.. وحاول أن تنام.. دق الفجر على بابي.. قبل أن أسمع دقات عنيفه علي باب شقتي الصغيرة المتواضعه.. فتحت الباب و أنا في غاية الفزع.. كان سمير  شقيقي دخل الشقه وهو يبكي وفاة والدي (محمود رضوان).

خير يا سمير: قلتها مرتعشا.. قال لي وهو أكثر ارتعاشا مني بابا مات، مات ازاي؟: لم يرد سمير.. كانت زوجتي قد سمعت المناقشة.. فارتدت عبايتها السوداء.. قلت لسمير..ماتعيطشي يا سمير.. أبوك ما ماتشي.

قال سمير: يا فخري..انا شفته بنفسي.. العائله لا تناديني إلا باسم فخري، قلت لسمير إنت عارف إن بابا بيحبني جدا.. يمكن أكتر منكم كلكم.. بمجرد ما هايشوفني.. هايصحي.

أنا كنت معاه لحد الفجر وأول مره يتكلم و يلاعب رضوي.. و يقول لها: هس.. قال لها كمان: أنا راضي عليكي..إنما مش راضي عنها .. أذكر أن زوجتي قالت لي وهى تنهج من حمل رضوي.. والله كل خوفي.. تكون حلاوة الروح.

نظر سمير لي باستغراب.. كذلك فعلت زوجتي.. ارتديت ملابسي وتعمدت أن تكون فاتحة.. لأنني لم أقتنع بموت أبي (محمود رضوان).. هذا الجبل الذي لم يقهره غير المرض.. لكنه يقاوم.

مع نسمات الفجر.. احتضنني الشارع.. مع زوجتي وابنتي رضوي (7شهور)، وشقيقي سمير.. كلهم يبكون باستثنائي.. لأنني واثق كل الثقه أنني من خلال حبه لي سأستطيع إعادته إلي الحياة.

وصلت إلي منزل العائله.. أصبحنا حول أبي (محمود رضوان) 9 أخوات.. وجدته نائما علي الكنبه في هدوء.. فوقه بطانيه من بطاطين العهده البوليسية.. طلبت من الجميع أن يتركوا الغرفه لي وله.

أطاعوا أمري، حيث أن والدي عودهم على سماع كلامي وأوامري

والدي عودهم على سماع كلامي

أطاعوا أمري، حيث أن والدي عودهم على سماع كلامي وأوامري.. بصفتي الشقيق الأكبر بعد شقيقتي فريال.. أغلقت الغرفه.. وجلست بجانبه.. رميت عليه السلام فلم يرد.. الابتسامة التي على وجهه جعلتني متأكدا أنه حي.

نسيت أنني لم أره منذ طفولتي إلا مبتسما.. قمت بالضغط علي جسده.. مع ضغطتي سحبت البطانيه كف الرجل.. وعندما رفعت يده.. عادت كف الرجل إلى وضعها الطبيعي.

ظننت أنه مازال حيا.. رفعت البطانية من عليه.. وهمسات في أذنه أنني إبنه ابراهيم.. لكنه لم يستجب.. هززته.. لم يستجب.. كلمته لمدة كبيرة.. بينما أسمع أصوات البكاء من الخارج.

فتحت الباب.. والدتي ترتدي السواد وهى دائما ترتدي الملابس السوداء.. لقد أورثتني هذه العادة حتي الآن.. لم أتكلم.. وضعت ذراعي في جيبي.. فلم أجد مليما واحدا، فهمت وأحست  زوجتي بما أعانيه.

تركت رضوي مع شقيقتي سامية.. وخرجت من الشقة متجهة لإبراهيم حكام .. البقال المقابل للشقه وأحضرت منه 50 جنيها.. ذهب مجدي إلى مكتب الصحه لإحضار تصريح الدفن.

قبلها قال لنا أحد الجيران: أن طبيب الصحه لو رأي الجبس الذي بقدمه سيرفض كتابة التصريح و يبلغ النيابه.. تطوع أحد الجيران بكسر الجبس.. بينما أنا أصرخ فيه،على مهلك.. حاسب لا تعوره.. من أبو داود السباخ.

حضر أقاربه.. ومعهم سيارة لأخذه حتي يدفن في قريته.. أحد الذين يقفون معنا واسمه (الشاعر) لا رحمه الله و لا رحم والدته القذرة.. يعمل كبابجي رفض تماما أن يأخذوه.. و أخبرهم أنه كان من أعز أصدقاء والده الذي أوصاهم أن يدفن والدي بجواره.

حاول صاحب المنزل واسمه (محمود أبو زيد) أن يأخذه لمقبرتهم.. فرفض الشاعر الكبابجي ذلك.. أخذوه لمسجد التوابتي ليصلوا عليه.. انتظرتهم في الخارج.. لأنني ما زلت غير مصدق أنه مات.

خرج النعش من المسجد.. وسار خلفه كل أهل طلخا.. حيث كان محبوبا من الجميع.. وقفت بعيدا وهم يدفنوه.. لم أبك عليه.. تحجرت الدموع في عيني.. في أول جمعه وقفت حائرا.. أين مقبرة والد الشاعر الكبابجي حتي أقرأ الفاتحه علي والدي.

بعد لحظات وصل الشاعر الكبابجي.. وهو يحمل تسجيلا تنطلق منه آيات القرآن.. سرت معه.. وصلنا قبر والده.. وقفت معه.. وكانت هذه هي المرة الأولي التي أبكي فيها علي والدي و أنا أقول للشاعر: سبحان الله.. كانا لا يفترقان في الحياة، ويكتب لهما الله ألا يفترقا في الممات.

كانت القنبلة: أبوك في مقابر الصدقه

فجر الشاعر القنبلة

هنا.. فجر الشاعر القنبلة التي ما زلت أعاني منها إلي الآن.. قال لي الشاعر الكبابجي القذر: علي فكره يا أستاذ ابراهيم.. أبوك ما اتدفنشي مع أبويا.. لما أمي عرفت.. زعقتلي.. وقالتلي ازاي هاتفتح الطربه علي ابوك و تقلقه.

سألته: أمال أبويا فين؟، فقال لي: أرض الله الواسعه كلها مقابر، قلت له يعني أبويا فين؟، وكانت القنبلة: أبوك في مقابر الصدقه، قلت في سري، يا ابن الكلب والكلبة.

وذهبت إلي الدفان وسألته عن مقبرة الصدقه التي دفن فيها والدي، أشارلي عليها.. وقفت أمامها.. وفجأة وقفت أمامي سيارة.. خرجت منها فتاة كنت أعرفها شكلا.. وقفت أمامي وهى تضع يديها في وسطها وهي تبتسم.

علمت بعد ذلك أن والدها هو الذي بني مقبرة الصدقة هذه.. وأنها مريضة بجنون العظمه.. أحسست أنني ذبحت.. انقطعت عن زيارة المقابر لفترة طويلة.. وعندما عدت بعد فترة طويله لأقرأ الفاتحه على روح والدي (محمود رضوان).. لم أجد المقبرة.

سألت عن الدفان..أخبروني أنه مات، وقمت ببناء مقبرة لوالدي عليها اسمه وليس بها جسده.. لأنني لم أعثر عليه حتي الآن.

و..

مات (محمود رضوان)

خبط أخويا سمير على بابي..

 وهو بيبكى ..

وقاللى حبيبك مات.. ما بكيتش

غسلت فى وشى

صِحيِتْ ست الكل مراتى..

حبيبة قلبه

مدت إيدها عشان تحضننى

مدت إيدها تشد فى حيلة

مات (محمود رضوان).. مش ممكن

كل الناس هاتموت .

إلا انت يا بسمة عمرى

لحظه وجايلك

أول ما ألمس إيدك تصحى

أول ما المس صدرك.. آه تتنفس

أول ما المس رجلك ..

 لىّ تمد فى إيدك..

تنظر لىّ طويلا جدا زى عوايدك ..

تضحك لما أقول (ازيك)

يا اللى مفيش فى العالم زيك

أيوه وصلت البيت وأنا واثق

فى اللى باقوله

فين (محمود رضوان)؟

ع الكنبة

حُكام شال الجبس النايم جوه دراعه

قبلها جاله مفتش صحه ..

كتبله شهاده بعشرة جنيه ..

حطها فى جيوبه ..

سيبكم منه

أنا.. أنا لىّ كلام مع روحه

إقفلوا ياللا الأوضه عليّ

يقفلوا ياللا الأوضى علىّ

أمد فى إيدى لاجل أسلم

نايم مش عايز يتكلم

أمد فى إيدى لاجل أسلم

ولا بيمد فى إيده الطاهرة

مِد إيديك أرجوك.. باتألم

تانى أبص بدمعة حسرهةعليك يا حامينا

يا مكبر أسامينا بطيتك

إصحى.. يا بابا ..

ما تحرجنيش مع كل اخواتى

دول عارفين إنك مش ممكن ترفض طلبى

إصحى يا قلبي

أبوسه فى خده ..

أبوسه فى إيدُه ..

أبوسه فى صدره ..

أبوسه فى رجلُه

أبوسه فى كفه

ليه الموت فى القبر الواسع نِفسُه يِزفُه

أولاد عمه بيملوا البيت ..

ياخدونى فى جنب عشان نتفاهم

ندفنه ويا بقيت العيله فى تربة أهله

أصرخ لأه

وأما نزوره ..

 نزوره ازاى وبلدكوا بعيدة

يا ابن أخونا دى بلدك برضه..

لأ مش بلدي

من يوم أبونا ما باع فى الأرض

وباع فى البيت بقروش مش هىّ

واحنا بقينا خلاص أغراب..

عن كل العيلة

كل العيله انسحبت.. حتى ..

رفضوا يمشوا معانا لقبره

فيه كذا عيله بتعرض دفنه مع موتاهم

عيلة (الشاعر) ..

قالوا لا يمكن حد هاياخده

إحنا أولىّ بُه

وتم الدفن فى موكب زحمة

بعد خميس أنا روحت أزوره ويا العيله

أيوه وقفنا ..

نقرى آيات الله على قبره

لحظه لمحنا (الشاعر) واقف ..

فوق جبانه بعيدة بعيدة

أيوه سألنا:

مين مدفون مع أبونا.. قالولنا ..

أرض الله كلها جبانة

آه يا خرابة يا ترب الصدقة

شايف يا ابه

أنا من يومها.. ما اتجرأتش آجى أزورك

لكن لما دخلنا ندفن ست الكل ..

رجعنا عشان نقرالك فاتحة جديدة

أيوه أقدامنا خدتنا لحدك ..

بس لمحنا الناس بتبص علينا بدمعة

ما وقفناش.. كملنا طريقنا ..

قبل ما نقرى.. نص الفاتحة.

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.