في عيد ميلاد (الإذاعة المصرية)، صوت بلادنا، يستغيث بعد 90 عاما من التنوير
كتب : أحمد السماحي
نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاد (الإذاعة المصرية) الـ 90، وذكرى انطلاق العبارة الشهيرة (هنا القاهرة)، التى نطقها الإذاعى الرائد والفنان أحمد سالم، لأول مرة، عبر الميكروفون فى افتتاح الإذاعة يوم 31 مايو عام 1934.
قامت (الإذاعة) منذ بدايتها بدور تنويري في حياة شعب مصر، والأمة العربية كمنبر حضاري، وقلعة من قلاع الحرية احتمى بها، وعمل خلف ميكرفونها كل دعاة الحرية وطلابها في العالم الثالث.
كما أطل من نافذتها العريضة – كما يقول الرائد الإذاعي محمد فتحي في كتابه الإذاعة المصرية – كل عمالقة الفن والفكر والأدب والعلم بعطائهم السخي ليثروا به حياة شعبنا العظيم، ومن خلفه كل الشعوب المتطلعة للمعرفة وثقافة العصر.
الإذاعة المصرية تستغيث
في الوقت الذي نحتفي بعيد ميلاد (الإذاعة) الـ 90 نرثى لحالها الذي وصل إليها هذه الأيام!، حيث تعاني من حالة إفلاس إبداعي، وإنتاجي كبير.
أثر على العاملين فيها من عمال ومذيعين ومذيعات وإداريين، وهذا الإفلاس أثر على عملية الإبداع الإذاعي، وأثر على بعض الموهوبيين من المذيعين، والمخرجين.
فلم نعد نستمع إلى برامج تحظى بجماهيرية ضخمة، كما كان يحدث في الماضي، باستثناء قلة نادرة من البرامج الممتعة لقلة تعد على أصابع اليد الواحدة من أصحاب المواهب الحقيقية.
واختفى المذيع الإذاعي النجم!، وكل ما نسمعه حاليا اجتهادات شخصية من بعض المذيعيين الموهوبين، لكن معظم ما يقدم حاليا في الإذاعة المصرية الرسمية لا يرتقي إلى ما كنا نسمعه بالأمس القريب.
وتحولت برامج الهواء تحديدا إلى برامج استخفاف بعقول وثقافة المستمعين، وغلب عليها (الهزار الثقيل) وثقل الدم، وإختفت الجدية التى كان يتميز بها المذيع الإذاعي من خلال برامجه اليومية، أو الأسبوعية.
ولا تقتصر حالة الإفلاس على كثير من المذيعين الحاليين الذين نجح بعضهم (بالواسطة)!
ولكن امتدت إلى الدراما الإذاعية، فمنذ سنوات طويلة لم نعد نسمع مسلسلات جديدة، سواء في الأيام العادية، أو حتى في موسم رمضان.
رغم أن الدراما كانت العمود الفقري للإذاعة المصرية، وكثير من أعمالها الدرامية تحول إلى مسلسلات تليفزيونية وأفلام سينمائية ناجحة.
الأوائل في الإذاعة المصرية
الآن تعالى بنا عزيزي القارئ نعود إلى (ذكريات من زمان فات) – كما يقول برنامج الإذاعي المخضرم عمر بطيشة – لنعرف الأوائل في الإذاعة المصرية كما ذكرهم الرائد الإذاعي محمد فتحي في كتابه (الإذاعة المصرية).
كان العقد المبرم بين الحكومة المصرية وشركة (ماركوني) واضح وصريح حيث يقول: الإذاعة اللاسلكية احتكار للحكومة، وشركة (ماركوني) وكيلة عن الحكومة في إدارة وإنشاء برامج الإذاعة لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد.
وكانت مهمة الشركة صعبة وخطيرة، في اختيار من يعملون في المولود الجديد الذي تترقبه العيون والأذان المصرية.
محمد سعيد لطفي مدير الإذاعة
في البداية رشح كلا من (آرثر ديلاني) المدير العام لشركة ماركوني، و(روبين فرنس) المدير التنفيذي الأستاذ (محمد سعيد لطفي) لإدارة برامج الإذاعة.
لم يكن (محمد سعيد لطفي) سليل الأسر التركية، لكنه كان ابن فلاح عريق من كبراء الدقهلية، وشقيقا لشخصية من أبرز شخصيات العصر، هو أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، والفيلسوف مترجم أفلاطون.
أرسل الأب ولده محمد سعيد لطفي إلى (أكسفورد) يدرس التاريخ، وعاد لتعينه الحكومة مأمور مركز، ودرج في السلك الإداري بوزارة الداخلية مديرا للجيزة والقليوبية حتى عزلته الوزارة.
وكان (محمد سعيد لطفي) هو نفسه فلاحا عريقا يزرع أرضه، وأرض أشقائه بنفسه، وكان رب أسرة محافظا، محبا لولده، حريصا على مراعاة التقاليد الإسلامية يسعد بالاستماع إلى تلاوة القرآن ويتذوق الموسيقى والغناء الرفيع.
مدحت عاصم مدير الموسيقى
كان المسئول عن تقديم البرامج الموسيقية للناس مهمة صعبة أيضا، وبعد طول بحث واستشارة، وقع الإختيار على الفنان (مدحت عاصم) الذي كان مولعا بالموسيقى ودراستها وتفرغ لها.
ولم يدع بابا للموسيقى الشرقية أو الغربية إلا وفتحه، وتحرى ما وراءه، واستقى من مورده.
أحمد سالم ومحمد فتحي وكمال سرور
الإذاعة أصوات، وعبر هذه الأصوات تنقل المعاني والمهارات، وتلتقط نبرة المزاج، وتشكل المزاج العام، لهذا أعلنت الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية في صحيفة (الأهرام) عام 1933 عن حاجتها إلى مذيعين.
ويشترط فيهم أن يكونوا حائزين على درجة جامعية، كان المدهش والعجيب في الأمر أن عدد المتقدمين بلغ رقما لم يكن في حسبان أحد، قارب الـ 2000 رغم أن الجامعة المصرية كانت حديثة العهد.
ولم تكن تخرج إلا أعدادا قليلة للغاية، ولم تكن وظيفة المذيع معروفة أو مفهومة أو مطلوبة للباحث عن مستقبل، بل أنها من واقع الخبرة بالمحطات الأهلية كانت عملا منفرا سوقيا لا يمكن أن يجتذب أحدا أو يحبب فيه أحد.
فمذيع المحطات الأهلية الذي عرف الناس صوته عن طريق الراديو في المحطات الأهلية، كان عمله لا يتجاوز النداء عن المحطة، بالطريقة السوقية العالية الصوت غير المهذبة.
فيقول: (ألو، ألو، محطة “كذا” تقدم فانلات أو شربات بأرخص الأثمان!)، أو قد يعلن عن أسماء المشتركين والمشتركات في المحطة وعناوينهم وأرقام تليفوناتهم.
والعدد الكبير الذي تقدم لم يكن فقط من خريجي الجامعات المصرية، بل أيضا من خريجي الجامعات الأجنبية، ومن العائلات الأجنبية الكثيرة الموجودة في مصر.
وبدأت عملية تصفية المتقدمين، على مدى عام، تصفية في إثر تصفية، اختبارات في اللغة العربية، وفي اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، وفي الثقافة، وفي فنون الإلقاء، وفي الشعر والفنون.
وفي التصفية النهائية، وضعت الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية يدها على ثلاثة أصوات، وجدت فيها الشخصية والصفات والمتطلبات التى تبحث عنها.
وأصحاب الأصوات هم (أحمد سالم، وأحمد كمال سرور، ومحمد فتحي) الأول وهو (أحمد سالم) كان مهندسا متخرجا في جامعة (كمبردج) الإنجليزية، وكان اسما لامعا شهرته رحلته بطائرته الخاصة من إنجلترا إلى مصر.
الثاني (أحمد كمال سرور) كان فرنسي الثقافة، درس في فرنسا فنون الدراما، وعمل ممثلا بالأكاديمي فرنسيز، وقدم روائع تمثيلية لكبار الكتاب العالميين في الأكاديمي فرنسيز.
والثالث محمد فتحي) الذي اشتهر بعد سنوات بإسم كروان الإذاعة، كان خريجا لكلية الآداب جامعة القاهرة.