النهايات الغامضة للمشاريع الناجحة
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عندما أصدر الزعيم جمال عبد الناصر قراره بتحويل الجامعة الشعبية التى بدأت نشاطها عام 1945 إلى جهاز (الثقافة الجماهيرية) كان الهدف ما نسميه الآن (العدالة الثقافية)، أى اتاحة الخدمات الثقافية للجميع.
يتساوى فى هذا الريف والحضر، والغنى والفقير، فى عصر كانت موجات الإذاعة تصل بالكاد للقلائل الذين يملكون أجهزة راديو ، بل إن الكهرباء نفسها لم تكن منتشرة فى كل الأماكن.
لذا تحركت الى القرى والنجوع قوافل تعرض الأفلام السينمائية وتعقد الندوات التوعوية وتقيم الامسيات الفنية و الثقافية، وبجهود الوزير (ثروت عكاشة) و(سعد كامل) الأب الأول لـ (الثقافة الجماهيرية).
بدأ الجهاز فى التوسع تدريجيا، فتمت إقامة قصور للثقافة في مواقع متعددة تضم مسرحا وقاعة ندوات ومكتبة ومعرضا للفن التشكيلى، أرسلت وزارة الثقافة الفنانين والأدباء لتلك المواقع لتكتشف الموهوبين و تحتضنهم.
حتى وصلت (الثقافة الجماهيرية) الى مرحلة الرسوخ و الانتشار لتصبح احد اهم انجازات ثورة يوليو فى مجال الثقافة و الفنون، فمنها خرج آلاف الأدباء والشعراء والفنانين التشكيليين والممثلين والمخرجين وكتاب المسرح وفرق الفنون الشعبية وغيرها، بل إن بعضها وصل إلى العالمية.
وفى مجال المسرح تحديدا بدأت فرق (الثقافة الجماهيرية) بأربع فرق فى عواصم المحافظات إلى أن وصلت فى نهاية الستينات إلى 17 فرقة، قدمت تجارب مغايرة ومتميزة مازال يشار إليها كعلامات مهمة فى تاريخ المسرح المصرى.
واستمر مسرح (الثقافة الجماهيرية) فى النمو إلى أن تعدت فرقه المائة فرقة تقدم عروضها بشكل سنوى الى جانب تجارب نوادى المسرح – و هى فرق غير ثابتة – تقدم حوالى 200 تجربة سنويا.
أمراض مسرح الأقاليم
ولكن خلال تلك الرحلة الطويلة أصاب مسرح الأقاليم بعضا من أمراض عطلت مسيرته أو أضعفت تأثيره أو حادت به عن طريقه، فصار البعض يقلد مسرح العاصمة أو يقدم أعمالا لا تمت للواقع بصلة.
ولكنه لم يعدم من أولاده المخلصين من قام ليحاول أن يرده إلى رسالته الأصلية والأصيلة، وينفخ فيه الروح من جديد، ولو تتبعنا كل تلك الجهود لكتبنا مجلدات.
فبرغم كل الكتب و المقالات التى ترصد تاريخ مسرح (الثقافة الجماهيرية)، إلا أنها تظل قاصرة عن إدراك كل التفاصيل والجهود، ولكننا لا يمكن أن نغفل مشروعات مثل (نوادى المسرح).
ومشروع (مسرحة المكان)، ومشروع (مسرح الجرن)، ومشروع (المراكز المتخصصة) التي كانت كلها محاولات لضخ دماء جديدة ومتجددة في مسرح (الثقافة الجماهيرية).
ثم جاء مشروع (ابدأ حلمك) ليتوج مسيرة طويلة من جهود المخلصين، جاء ليقول لأبناء الوطن حتى فى القرى النائية نحن معكم، نسمعكم ونهتم بكم، ونفتح لكم مساحة للتعبير عن انفسكم و لطرح رؤاكم ولتحقيق أحلامكم.
وأن ما ترونه فى الفضائيات وعلى وسائل التواصل ليس الفن الحقيقى الذى يطور ويرقى الشعوب، وليس الهدف من المشروع أن يصير كل أفراده ممثلين أو مغنيين.
وإنما يهدف المشروع إلى نشر منظومة القيم الإيجابية الطاردة للتطرف لدى الشباب من خلال سياسة ثقافية تعكس التسامح والمواطنة واحترام الأديان واحترام الاختلاف في الرأي.
كما يسعى لتعليم المشاركين مهارات التمثيل والارتجال والكتابة وعناصر صناعة الصورة للوصول إلى تقديم عروض مسرحية ذات طبيعة إنتاجية مختلفة تنتمي إلى الطبيعة الثقافية للموقع المنفذ به المشروع.
فلسفة العمل بالكيانات المسرحية
كما يعمل المشروع على تغيير فلسفة العمل بالكيانات المسرحية الموجودة بالمواقع الثقافية، وتحديث أنماط إنتاج تتماشى وطبيعة المجتمع الآن.
إضافة إلى اكتشاف طاقات شابة جديدة من الموهوبين وتأهيلهم للعمل بالفرق المسرحية التابعة للهيئة بالأقاليم وصولًا إلى رفع كفاءة الفرق المسرحية، وتحويل تلك الفرق لفرق دائمة تعمل طوال العام.
بدأ المشروع منذ سنوات قليلة فى مسرح الشباب بالبيت الفنى للمسرح، وعندما شاهدت وزيرة الثقافة السابقة الدكتورة إيناس عبد الدايم، نتاج المشروع طلبت أن يتم نقله إلى أقاليم مصر كلها.
فلقد أدركت أنه قادر على تحقيق مجموعة الأهداف التنموية المرتبطة برؤية مصر 2030، ولذا دعمت المشروع، ووقفت خلفه فى إصرار، وسهلت له كل الأمور لكى ينشر فى ربوع الوطن قيم الانتماء.
إلى جانب رعاية المواهب وصقلها، فالعمل المسرحى عمل جماعى يعوّد المرء على التعاون وترتيب بذل الجهد داخل مجموعة، ويصبح تحقيق مصالحها مجتمعة مقدمة على كل مصلحة فردية.
و يستلزم الامر خلال التدريب والإعداد للعرض قراءات ومناقشات مكثفة من أفراد الفريق، تتيح لهم التعرف على ثقافتهم الأم وثقافات أخرى وقدرة على مناقشة الأفكار والتحلى بعقل ناقد.
واستمر المشروع الذى يعيد لـ (الثقافة الجماهيرية) أهدافها التى أنشئت من أجلها – والذى اعتبره من وجهة نظرى الاروع و الاجمل فى مسرح الاقاليم – ليشهد في مرحلته الأولى تخرج دفعات محافظات: أسيوط ، والفيوم والشرقية.
وفي المرحلة الثانية محافظات: بورسعيد ، وبني سويف ، والجيزة ، وكفر الشيخ ، و الحقيقة أن المشروع حقق نجاحا كبيرا بشهادة الجميع خاصة أعضاء مجلس الشعب والسادة المحافظين في تلك المحافظات.
وفجأة توقف المشروع بعد تخرج دفعة محافظة الوادي الجديد، عاصمة الثقافة المصرية لعام 2023، ولم يستكمل في محافظات شمال سيناء وأسوان التي تم التحضير لها.
قد يكون توقف المشروع في شمال سيناء له ما يبرره من أحداث، ولكن هذه السكتة القلبية المفاجئة لباقى المشروع، لا أحد يعلم لها سببا، ولم يكلف أحد المسئولين نفسه بأن يبررها، ولا أن يبرر لماذا تنتهى المشاريع الناجحة الخاصة بالشباب مثل هذه النهايات الغامضة؟!