كتب: محمد حبوشة
علمياً هى قدرة العقل على تخزين الإشارات الآتية من الحواس، كالنظر أو الشم، ويتم استرجاع تلك الإشارات المُخزنة من صورتها الباقية داخل العقل عندما يحدث ما يستدعيها.. هذا ماحدث مع مشاهدتي لفيلم (آيس كريم في جليم).
بقدر من الشجن والحنين للماضي يجعلك توشك على البكاء عند مشاهدته، منذ أيام شاهدت فيلم (خيري بشارة) الشهير (آيس كريم في جليم)، وهو أحد الأفلام التي أحبها منذ الصغر ولكني لم أره أبدا عملا خارقا للمألوف أو شديد الإبداع.
(خيري بشارة) في هذا الفيلم المذهل، يخلق صورة أيقونية جدا من (عمرو دياب) في (آيس كريم في جليم)، والشيء المهم أن (الشخصية) ليست فقط صورتها الخارجية الجاذبة، ولكن أيضا ما يوجد في العمق: الشاب الذي يحاول أن يعيش حياته ويفعل ما يحبه و(يخانق) المساحات من حوله من أجل (مساحته) الشخصية.
أغاني (عمرو دياب) في (آيس كريم في جليم) – 6 أغنيات – جزء أصيل جدا من تلك الأيقونية، تدور كلها حول هم الذات، وتنطق تماما بالفردية، كما يقول (سيف) في أحد المشاهد: (عايز أغني عن حاجات تخصني).
الأحلام الجمعية المشتركة
وفي وقت انتهت فيه تماما الأحلام الجمعية المشتركة الكبرى فس ذلك الزمان/ تأتي الأغاني كتنويعة على النغمة التي تحرك الفيلم كله: الـ (أنا) المحتفية بذاتها وهمها وتفاهاتها وأحلامها الصغيرة جداً.
كل شباب التسعينيات تقريبا ربما كانوا نسخة من (سيف) في لحظة ما، بنفس الطريقة التي كان بها كل شباب الخمسينيات في أمريكا نسخة من جيمس دين في Rebel Without a Cause.
(آيس كريم في جليم) يجمع تقريبا كل رموز الحياة التي أحببتها وحلمت بها.. حياة مصر أوائل التسعينات التي ظلمها الجميع ووصفوها بعدم التأثير.. وصفوا تاريخي بعدم التأثير.. زمني.. زمن (عمرو دياب) مغني الشباب، (عمرو دياب) الذي يغني لي ولي وحدي لا لنجوميته وعالميته، ()عمرو دياب صاحب تسريحة الشعر الغريبة التي كنا نراها قمة الموضة.
عمرو دياب) أو (سيف) حلم الطفولة.. ذلك الشاب الوسيم الذي تعشقه البنات.. هذا الشاب صاحب الجاكيت الجلد والموتوسيكل، والذي يعيش في كشك ويعشق نمط الحياة الأمريكية.. الشاب المخدوع بهذا الحلم وكنا مخدوعين معه في هذه الفترة الزمنية من العمر.
زمن (سيمون) الجميلة والمثيرة
إنه زمن (سيمون) الجميلة والمثيرة والرقيقة والماجنة والضعيفة والخجولة.. القادرة وصاحبة الوش المكشوف.. (سيمون) الرقة والإغواء.. (سيمون) الحواجب العريضة والشعر الهايش والميني جيب الذي لا يحكم المجتمع على من ترتديه بقلة الأدب، سيمون جميلة جميلات الشباب صاحبة (تا تا تا تا تاكسي) والغمزة محطمة القلوب.
(آيس كريم في جليم).. تجسد أحداثه زمن نوادي الفيديو ومزيكا (حسام حسني).. زمن (عم زرياب) الشيوعي القديم الذي كان لا يزال موجودا بيننا. إلى الآن. زمن الرائع (حسين الإمام) الانفتاحي المستغل الذي لا تقدر على كرهه، بل وتجد نفسك متلبسا بحبه رغم شعره الكانيش وقبعة (ال كابوني) على رأسه.
في واحد من أهم تتابعات فيلم (آيس كريم في جليم) يركب (نور)، الشاعر الناصري، وراء صديقه الجديد (سيف) على الموتوسيكل من أجل البحث عن زرياب (في شوارع المدينة)، يتنقلون بين المعادي.. مصر الجديدة.. وسط البلد، وغيرها من أحياء القاهرة.
(بطولة) المكان هنا للحظة سينمائية يحدث في بعض المواضع الأخرى في (آيس كريم في جليم، ولكنه يتجلى تماماً في هذا التتابع، لا شيء هنا إلا عن هذه المدينة، ومع مشاهدة الفيلم بعد سنوات طويلة على كل ما يصوره، سوف تكتشف جديدا في هذا الشريط السينمائي.
لا يمكن مراوغة أن السينما هى (الذاكرة الحية) للأماكن، كأن تلتقط الحركة والصوت والإيقاع وتبقيه على خام 35 مللي، و(آيس كريم في جليم) يحمل الصورة (الأقرب) ربما لقاهرة التسعينيات التي كانت تضج بالحيوية والنشاط.
أي حلم؟ في بدايات فيلم (آيس كريم في جليم)، يروي بكلمات غزلية رومانسية عن (فتاة الآيس كريم) التي لم يشاهدها إلا مرة واحدة، لكنها كانت كافية بالنسبة له ليحبها ويهيم بها.
في الربع الأخير من الفيلم، رحلة (سيف)، يلتقي بها ثانية بعد سنوات، فحين يتقدم منها هذه المرة، ليبثها بوحه العاطفي الجميل والنبيل، تدس الآيس كريم في وجهه وتمضي ليصحو ربما من حلمه الرومانسي الجميل، ليعيش واقعه ويعاركه، ولعلنا نتذكر مشاهدة سيف لفيلم (الراقص مع الذئاب) كرمزية عراك الشباب مع الحياة.
رمزية شفافة في (آيس كريم في جليم)
تلك رمزية شفافة لم تكن بالطبع ضمن بنية أحداث (آيس كريم في جليم)، لكنها بالطبع محتملة الحدوث والتذكر، والمهم هنا كيف وظفها (خيري بشارة) في الإيحاء الى الأحلام الأخرى التي عاشها المجتمع، وصحى منها مصدوما.
ينسجم مع هذا الإيحاء مشهد بصري غاية في العبقرية، وهو ترديد صديقه الشاعر (نور/ أشرف عبد الباقي) أغاني الثورة القديمة أثناء ركوبه خلفه على الدراجة النارية: (خلي السلاح صاحي، عدى النهار، احلف بسماها، ملاعب خضرا، بلادي)، في الوقت الذي أظهرت الكاميرا بنوك كثيرة، في ظل مشهد شوارع مهملة وفوضى عارمة.
وينسجم كذلك مشهد مرور سيدة سبعينية من الخلف، ترتدي القبعة بأناقة، في الوقت الذي يكون سيف يعزف بقوة على البيانو، الذي اقتناه من بائع (الرومابكيا)، حين عز عليه وجود البيانو في الأدوات المستخدمة المهملة التي تابع بسعر زهيد.
(خيري بشارة) في الثمانينيات
وراء كل ذلك هناك (خيري بشارة) في الثمانينيات، أخرج بشارة ثلاثة من أقوى أفلام السينما المصرية وأكثرها (ثقلاً)، العوامة رقم 70 (1982)، الطوق والأسورة (1986)، ويوم مر ويوم حلو (1988)، كلها كانت تحمل (هما عاما) ومتانة في الأسلوب السينمائي.
في التسعينيات تحرر (خيري بشارة)، ربما لأن الوضع نفسه لم يكن يسمح بمزيد من الثقل، بدا أكثر خفة.. يمشي وراء الفيلم ويرى أين سيذهب به.. أكثر من أن يحدد طريقه بإتقان قبل أن يبدأ تفاصيل الصور المذهلة عن القاهرة والإسكندرية وغيرها من أماكن.
لذلك، ففي (آيس كريم في جليم) هناك مشاهد يمكن أن تكون مُضحكة جداً من فرط بساطة – وأحياناً سُخف – تنفيذها، ولكن هذا – بشكل حقيقي وصعب الوصف جدا – يفيد (روح) الفيلم الذي اتسم بشبابية وانطلاق نحو مناطق مجهولة في حياتنا.
(خيري بشارة) في هذا الفيلم يجعل الناس يغنون فجأة، ويرقصون في الشارع، يتحدثون بإيقاع أقرب للشعر، يتلاعب بالألوان والأزياء وما تخلقه في الصورة، ويبحث عن لغة سينمائية جديدة تواكب حركة الشارع المصري آنذاك.
تماماً كبحث (سيف/ عمرو دياب) عن موسيقى تصله بالناس، ويخفت انشغاله بالهم الجمعي في مقابل البحث عن ذاته في الأفلام.. تماماً كانقلابية (سيف) على (رصيف نمرة 5)، ورغبته في غناء (آيس كريم في جليم)، و(بس انت تغني واحنا معاك).
أسلوب إخراج (خيري بشارة)
أسلوب إخراج (خيري بشارة) لفيلم (آيس كريم في رجليم) مميز للغاية، من خلال تصوير الواقع باتجاه تغييره، دون إغفال الأمل، عبر إيراد جماليات بصرية شاعرية غاية في الشفافية والرقي التي تبدو في انسيابية الكاميرا في جغرافية المكان والزمان.
من أول مشهد: السماء وصولا للنيل والخضرة، وطفلان يحملان حقائبيهما الفقيرتين أثناء العودة من المدرسة، بما له من رمزية الآن والمستقبل، ولعل إظهار الكاميرا للطيور في الفضاء منسجم مع حديث الشباب عن الهجرة، فالفيلم بهذا المهنى انتصار للبقاء في الأوطان بإثبات الذات المبدعة.
قدم (خيري بشارة) في (آيس كريم في جليم) نقد للمنظومة عبر الكاميرا والأغاني، والحوار، حيث أن الفيلم ينسجم في النقد الاجتماعي والفني، ليوحي بالنقد السياسي.
نقد لأسلوب الإنتاج الفني، لموجة الأغاني الهابطة التي ظهرت في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، (افهم أصول اللعبة) هكذا يقول (زيكو) لسيف.
كذلك للإعلام (ما في من القنوات الرسمية تقبل تعرض لنا)، موحيا بنقد النظام السياسي نفسه، وحده زرياب في سكره يوجه النقد الصريح: (طز في كل التسميات)، في ظل أمنيته أن (نتقدم خطوة)، لقد جاء كل ذلك في لغة بصرية موحية سعت لتعرية المنظومة، وصولا لمشهد الحمام بما فيه من إيحاء ما.
كل ذلك جاء بشكل معبر للغاية عبر كاميرا (طارق التلمساني)، ومن خلال تتبع مسارات حياة كل شخصية، كيف تمشي، تأكل تنفعل، أين تسكن، وكيف تتعامل مع مساحتها الخاصة والعامة، كيف تتصرف في البيت والشارع.
ومن خلال مونولوج غنائي يعبر عن قناعات كل شخصية ورؤيتها للحياة ترتسم ملامح الشخصية الداخلية والخارجية، كأننا نعايش تلك الشخصيات في حياتنا اليومية، أو نتلصص عليهم، نعايش تقلباتهم وتطوراتهم يوماً بيوم، من خلال تعاقب الأيام.
32 عاما تفصل بين التسعينيات ووقتنا الحالي، جيل واحد، لكن الفارق التكنولوجي يجعل الهوة شاسعة بين جيلين، صهرتنا العولمة في بوتقتها، قرب الإنترنت بين شباب العالم ووحدهم.
يذكرنا (أيس كريم في جليم) بشبابنا، بالسنوات التي ولدنا ونشأنا فيها، بشوارع القاهرة والإسكندرية قبل أن تتدهور بفعل الإهمال وترهل السلطة، قبل أن تصبح مدنا قبيحة غير صالحة للحياة كما هى الآن.
يذكرنا (آيس كريم في جليم) بعالم أبسط من عالمنا، عالم أقل تعقيداً يسوده الكاسيت وأشرطة الفيديو ونظرة سطحية ساذجة للغرب تراه الحل أو الأزمة، يذكرنا بمراهقتنا وبدايات التمرد وترديدنا في حماس لأغنية (هتمرد عالوضع الحالي) مع عمرو دياب أيام كان يهتم بالكلمة المعبرة عن الشارع المصري.