بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
حينما وافقت الطفلة (روز/ فاطمة) الهاربة من قدرها كخادمة في البرازيل متسللة من السفينة في الإسكندرية لتهرب منها إلى القاهرة، وتأخذها خطواتها إلى شارع محمد على لتقابل هناك على احدى المقاهى المسرحى (إسكندر فرح) اللبناني الأصل فيعرض عليها أن تعيش في بيته مع بناته.
و أن تعمل في المسرح معه كلبيسة للممثلات.. في بيته عرفت عنه (روز) انه يحترف تمثيل الروايات والمسرحيات الأجنبية الممصرة.. ويتعهد إنتاجها على العديد من المسارح بالإضافة إلى مسرحه في شارع عبد العزيز.
كان (إسكندر فرح) أشبه بالنحلة الدؤوب لا يكف عن الحركة.. يقضى ساعات يومه بين المسارح والفرق المختلفة بينما (روز) تتبعه في كل خطواته.. تستبصر في صحبته مكامن هذه الحياة الجديدة.
بأضوائها.. وديكوراتها الناقلة إلى عوالم مختلفة من بيوت وغرف وأسطح منازل فقيرة وقصور لملوك و أعماق بحار وميادين حرب.. أحاسيس ممثليها وعودة أبطال من التاريخ إلى الحياة أمامها وقصص ومواقف ذاخرة بشتى أنواع المشاعر والأحزان والصدمات الدرامية.
وكيف يصل المخرج وفريقه إلى أعلى موجات التفاعل الجماهيرى.. أطلعها (إسكندر) يوما بعد يوم على أسرار حياة المسرح، وكيفية إخراج الشخصيات حية تتحرك وتتنفس وتنفعل من بين الكلمات الجامدة والسطور المرصوصة لتحيا هذه الشخصيات على المسرح حياة كاملة بحاضرها وماضيها.
فيتابعها الجمهور بقهقهات عالية تارة وبأحزان و دموع تارة أخرى.. جمهور يدفع ما في جيبه راضيا بل وشغوفا ليحجز مقعدا يتابع عليه هذه الشخصيات التي يشارك في صناعتها (إسكندر فرح) الذى تولى رعاية (روز).
بل وأصبح هو كل مالها في الحياة.. فلا أب ولا أم ولا أخت ولا صديقة.. أصبح إسكندر) بحياته وأسرته هو كل حياتها الاجتماعية.. وبعمله واصطحابها معه كل خطواته هو أفق مستقبلها.. باختصار أصبح هو كل أركان عالمها في هذا الوقت.
كانت (روز/ فاطمة) بعد الانتهاء من عملها في تلبيس الممثلات ما يتناسب وأدوارهن المختلفة تاريخية واجتماعية وكوميدية تظل واقفة خلف ستائر المسرح تلتهم بعينيها كل حركة لهن وكل كلمة.. وتمتص بروحها كل إحساس.
كيف أنها تنسلخ من جلدها
تتابع الممثلة التي ألبستها شخصيتها الخارجية كيف أنها تنسلخ من جلدها الذى تعرفه عنها في الكواليس وتكتسى جلدا لشخصية مختلفة تماما.. تتابع الملقن وهو في مخبئه.. الرسومات على الحوائط.. عيون المتفرجين وأكفهم عندما تلهبهم الحماسة تصفيقا عند نهاية كل عرض.
ليستيقظ جنى الفن بين ركام أعماقها.. يبث في وجدانها الحلم أن تكون واحدة من هؤلاء الممثلات.. و أن يكون لها نصيب من إعجاب هذه العيون و تصفيق هذه الأكف.
بدأت (روز) اللبيسة بعد انتهاء العمل ترتدى بنفسها ملابس الشخصيات المختلفة.. تحادث بها نفسها أمام المرآة.. حتى أنها في إحدى المرات اندمجت مع شخصية الملكة (ماري ستيوارث) ملكة اسكتلندا التي تم إعدامها بتهمة الخيانة حيث تم قطع رأسها في باحة القاعة الكبرى في إنجلترا بأمر من ابنة عمها الملكة اليزابث الأولى.
كان الإعدام عن طريق قطع الرأس بعد تعصيب عينيها وتركيعها على ركبتيها.. ومن عمق اندماج (روز/ فاطمة) مع الشخصية خرجت إلى الشارع بفستنان الملكة (ماري) الطويل عائدة به إلى بيت (إسكندر).
وهى تجرجر أطرافه لتمسح بها تراب الشارع بينما الناس يسيرون خلفها ساخرين مهللين وهى عنهم غائبة تحادث ابنة عمها (الملكة اليزابيث).
انتبه (إسكندر فرح) إلى رغبة (روز/ فاطمة) العارمة في التمثيل ليبدأ في تعليمها أصول وأسرار المهنة وحرفياتها، ليفاجئه جنى الفن خارجا من أعماقها لتبدا في التفوق بسرعة هائلة على ممثلات الفرق المختلفة.
حتى أنه في إحدى المسرحيات التي كان لابد للممثلة من تقمص شخصية في طفولتها وشبابها وشيخوختها رفضت كل بطلات فرقة (عزيز عيد) القيام بدور عجوز في السبعين من عمرها لتفاجئهم (روز/ فاطمة) برغبتها في تقديم الدور.
فتخرج على المسرح وهي في عمر الرابعة عشر بشعر أبيض فضى وتجاعيد تغضن لها العنق، وتهدلت ملامح الوجه وتحشرج الصوت وتداعت الخطوات.
تلبست امرأة السبعين على المسرح جسد طفلة الرابعة عشر لتقوم بدورها بإبداع لا متناهي، حتى أن الجماهير لم يصدقوا أنفسهم عند نهاية العرض بخروج هذه الطفلة لهم من تحت جلد السبعينية التي تعايشوا معها تماما طوال ساعات العرض.
ليكسب ليلتها (عزيز عيد) الرهان أمام كل بطلات فرقته مما جعله منذ ليلتها يعاملها على أنها (الحصان الأسود) لكل عروض مسرحياته القادمة.
(عزيز عيد) و(روز)
كان (عزيز عيد) قد استطاع الاقتراب هو أيضا من خلال أصوله اللبنانية من التعامل بسهولة مع (روز).. فقد هاجر وأسرته منذ زمن بعيد من لبنان ليستقروا في كفر الشيخ.
و قد تعلم مع (يوسف وهبي) أصول المسرح في فرنسا ليقوم بنقل أصول الفن إلى مصر حتى أطلق عليه (رائد المسرح العربى).
تولى (عزيز عيد) صقل موهبة (روز) وتربيتها فنيا إلى جانب (إسكندر فرح).. لاحظ على (روز/ فاطمة) أنها تعانى من ضعف الصوت على المسرح، بالإضافة إلى صغر الحجم.
لذلك كان لابد من توجيهها إلى تعويض ذلك بقوة التعبير إلى الدرجة التي ساعدتها بالفعل على تفجير موهبتها الكامنة، واكتساب القدرة على الإمساك بحبال مشاعر المتفرجين.
تضحك فيضحكون.. تبكى فيبكون.. تتحرك فتشخص لخطواتها أبصارهم.. تقف فتنبض القلوب جزعا.. تفرض الصمت والسكون على قاعة المسرح ليدوي صوتها بالألم فيرتجفون.
أصبحت (روز) تمتلك القدرة على ابتلاع كل ممثلة تقف أمامها على المسرح حتى أن بطلات الفرق أصبحن بجوارها مجرد سنيدات، فلا يبقى أمام أنظار المتفرجين سواها بشخصيتها التي تتقمصها.
مما رشحها بالإجماع للقيام بدور البطولة في مسرحية (غاد الكاميليا) لألكسندر دوماس لتقوم بتأدية دور البطولة فيها على (مسرح رمسيس) أمام (يوسف وهبي) الذى قام بدور الشاب الذى يقع في هوى المرأة اللعوب (مارجريت) عاشقة زهور الكاميليا.
والتي تحولت في حبه من امرأة عابثة لاهية إلى محاولة التطهر والسمو، حتى أنها ضحت بالمال والثراء من أجل هذا الشاب ثم تضطرها الظروف إلى أن تضحى بحبها لهذا الشاب وسعادتها القادمة معه من أجل مستقبله وسمعة أسرته.
(كبيرة ممثلات الشرق)
وبعد هذه المسرحية اكتسبت (روز / فاطمة) لقب (كبيرة ممثلات الشرق).. حتى أن الممثلة الفرنسية (سارة برنار) التي أطلق عليها (ملكة المسارح)، والتي كان يعزف لها النشيد الوطنى عند زيارتها للتمثيل في أي دولة في العالم.
والتي كان الرجال في أمريكا يفرشون معاطفهم في طريقها لتدوس عليها.. وكانت تشتهر ببراعتها المتناهية عند تأديتها دور الموت فتقلب عينيها ويقف قلبها تقريبا عن النبض حتى أنها اشتهرت بصورها داخل النعش.
وحينما زارت مصر لتأدية بعض مسرحياتها في الأوبرا استغل المنتج شهرتها الطاغية و ضاعف أسعار التذاكر إلى الحد الذى لم يتمكن له من الحضور سوى العشرات فقط من أغنى الأغنياء.
و لما لاحظت ذلك وبخت المنتج وقطعت زيارتها عائدة إلى فرنسا.. وقد ألم بها بعد ذلك شلل قدميها ليقعدها تماما عن الحركة فلجأت إلى الكرسى المتحرك، وأحيانا إلى الساق الخشبية.
لكنها حينما سمعت ببراعة (روز) في تأدية دورها في (غادة الكاميليا) أصرت على الحضور إلى مصر بالكرسى المتحرك لمشاهدتها ليطلق على (روزا / فاطمة) لقب (سارة برنار الشرق) لتصل إلى قمة المجد.
و لكن لموقف مفاجئ بين (يوسف وهبى و روز) تفاجئ (روز) الجميع على أثره بقرار أشبه ما يكون بالجنون.. قرار كان صدمة هائلة تناولتها حينها كل الصحف والأوساط المصرية.