كتب: محمد حبوشة
نحن جيل تربى على الرضا والقناعة والسمع والطاعة، وكلها قيم نابعة من أعمال الراحل الكبير (أسامة أنور عكاشة)، وذلك لأسباب كثيرة هى بالأساس تعتمد على التربية الصحيحة وطبيعة ذلك المجتمع الواعى الذى كنا نعيش فى كنفه تحت سماء صافية غير ملبدة بغيوم الغضب والكراهية الحالية.
أما جيل اليوم فجيل (متشيطن)، جيل يمكن أن يحطم كل شيء إذا لم يحصل على ما يريد، جيل لا تقنعه المسلمات ولا يرضى بأى شيء متاح، بل إنه يرى ويسمع ويقارن ويسأل بصوت عال جدا.
لقد كنا فى السابق قبل اختراع (المحمول واللاب توب والآيباد)، كنا نشاهد أعمال العظيم (أسامة أنور عكاشة)، الذي بدأ أديبا وكاتبا للقصة القصيرة ثم اتجه للدراما حتى صارعميدا لها وأحدث نقلة نوعية بمستواها وقضاياها.
تناولت دراما (أسامة أنور عكاشة) الكثير من الهموم والقضايا فتناول قضية الهوية مثلما في (أرابيسك وزيزينيا)، وقضية الحراك الاجتماعى بعد التحولات الكبرى ما بعد ثورة يوليو وما بعد حرب 1973 مثلما في (ليالى الحلمية).
وسيادة المادة على القيمة مثلما في (الراية البيضا)، وفكرة العادل المستبد مثلما في (عصفور النار)، وفكرة المثاليين في زمن غير مثالى مثل (أبوالعلا البشرى، وضمير أبلة حكمت)، والفساد مثلما (في المشمش)، كما تطرق للهم العربى في (امرأة من زمن الحب).
(أسامة أنور عكاشة) أيضا كتب أفلام (كتيبة الإعدام، وتحت الصفر، والهجامة، ودماء على الأسفلت) والإسكندرانى (الذي حوله خالد يوسف إلى فيلم مؤخرا).
ومن مسرحياته (القانون وسيادته، والبحر بيضحك ليه، والناس اللى في التالت) فضلا عن ثلاث مجموعات قصصية هى (خارج الدنيا،وأحلام في برج بابل، ومقاطع من أغنية قديمة).
لقد شاهدنا كثير من دراما رمضان هذا الموسم، صاحبة (النفس القصير) لكتاب الدراما، والمط والتطويل والحشو لكتاب آخرين، والتي سيطرت على المشهد الدرامي ككل باستثناء أعمال قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة.
أحد أعمدة الدراما القوية
وكل هذا جعلنا نترحم على عميد الدراما المصرية مبدعنا الكبير (أسامة أنور عكاشة) الذي يعتبر أحد أعمدة الدراما القوية، والذي كان من أبرز مميزات أعماله الإيجاز والابتعاد عن المط والتطويل، وكلها مزايا نادرا ما تجدها مجتمعة في كاتب تليفزيوني.
واليوم يمر 14 عاما على رحيل (أسامة أنور عكاشة) الذي أمتعنا بأعماله التى كانت تبرز تاريخنا وتعكس واقعنا بكل ما يحمله من هموم وأفراح، فهو المؤلف الوحيد الذي جعل الشخصية المصرية تنبض خلال تقديمها، ولو حذفت أعماله من سجل الدراما، سيشعر الجميع بحالة يتم وفقر فني.
ولعنا نتذكر أنه ارتبط بشهر رمضان الكريم ارتباطا وطيدا من خلال أعمال (أسامة أنور عكاشة) الكثيرة التى عرضت في هذا الشهر الكريم مثل (المشربية، الشهد والدموع، ليالي الحلمية بداية من الجزء الثاني، أهالينا، زيزينيا، ضمير أبله حكمت، إمرأة من زمن الحب) وغيرها الكثير.
كان منهج (أسامة أنور عكاشة) كما يقول هو عن نفسه: (منهج روائي خالص)، حاول فيه أن يقدم عملا روائيا أدبيا مكتوبا للتليفزيون، وقام بترسيخ الدراما التليفزيونية وكانت له الأولوية في ذلك، وإذا كان الكاتب الكبير (محفوظ عبدالرحمن) برع فى الكتابة التاريخية، و(عبدالسلام أمين) برع في الكتابة الدينية.
فالمبدع أسامة أنور عكاشة) برع في الدراما التى اتسمت بالشعبية ليكون لها تأثير قوي وواسع لدى الناس التى من خلالها صنع مشروعه الفني الذي عرض فيه ما طرأ على المجتمع المصري من خلل.
من منا لم يستفسر قبل حلول شهر رمضان المبارك كل عام، عما إذا كان هناك مسلسلات من تأليف الكاتب (أسامة أنور عكاشة) أم لا، فهذا الرجل حفر لنفسه مكانا لم يطاوله فيه احد حتى الآن في كتابة الدراما التلفزيونية، وليكفه فقط (ليالي الحلمية) الرمضانية التي استمتعنا بها على مدى عدة سنوات.
شخصيات (عكاشة) المميزة
فلقد أمتعنا فيها (أسامة أنور عكاشة) بشخصياتها المميزة، حتى لم نكن نتصور أن هناك دراما غيرها، وغيرها الكثير من الأعمال الفذة والمميزة، لهذا الكاتب العاشق لكل ما هو عربي.
لقد كان (أسامة أنور عكاشة) مميزا منذ مسلسله الأول الذي شاهدناه في السبعينات (المشربية)، وكذلك كان على مدى خمسة وثلاثين مسلسلا تلفزيونيا وحوالي عشرين سهرة، وستة أفلام.
لابد أن نذكر (أعمال (أسامة انور عكاشة) وهى: فى حياتنا الثقافية والفنية بشكل عام والمصرية منها بشكل خاص هناك العديد من الكتاب الملهمين والمخلصين في أدائهم لرسالاتهم نحو مجتمعاتهم لنشر الحق والعدل والحرية والمساواة والخير.
كما نادت بها جميع الكتب السماوية وجميع الرسالات المرسلة من عند الله، وما أجمل أن يكون للإنسان فى هذا الخضم المتلاطم الأمواج رسالة يؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها متحملا في سبيل ذلك الكثير من التضحيات الإنسانية والأدبية والمعنوية.
هؤلاء النماذج هم المبشرون الذين يتحملون تبعات رسالاتهم وانعكاساتها على مجتمعاتهم ذودا عن الفضيلة كما يرونها للأخذ بيد هذه المجتمعات من شاطئ إلى آخر، وكان من هؤلاء مبدعنا الكبير (أسامة أنور عكاشة) الذي زاده غيابه حضورا ولمعانا.
كل ما مضى يمكن احتماله، لكن الذى لا نقوى على احتماله بعد فقدان الكاتب المبدع (أسامة أنور عكاشة) من أبناء هذا الجيل الذى أدركته (حرفة قلة الأدب)، هى تلك الكلمات الخارجة والحوارات الغريبة والعجيبة التي تسود الدراما الحالية على لسان كتابها.
والسؤال الذى يبدو منطقيا الآن: هل مثل تلك الظواهر من امتهان صارخ لحرفة الأدب والكتابة الدرامية؟، ومن ثم تعد بمثابة التطور الطبيعى للانفتاح الذى نعيشه على العالم باختلاف ثقافاته وعاداته، من خلال أعمال درامية ترسخ للرديىء من الأعمال الحالية؟.
ربما هى نتاج ما حمله لنا الواقع الافتراضى الذى دخل بيوتنا دون استئذان ودون سابق إنذار، فمسح الحياء والعيب والغلط؟، حتى أنها أصبحت جزء من حالة الانفلات اللانهائى على كل الأصعدة الأخلاقية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية؟
بل هى موضة جديدة وتطور للغة الحوار بين أجيال جديدة لم تعد تؤمن بالعيب والممنوع؟، من فرط ما تشاهده من مسلسلات الفوضى والعشوائية التي انتشرت في جسد الدراما المصرية.
دراما العنف والأكشن الصارخ
ثم أخيرا وليس آخرا: هو نتيجة دراما العنف والأكشن الصارخ بالفتونة وأخذ الحق بالدراع، وخناقات (التوك شو) التى تحوى مشاهد غريبة كخلع الحذاء؟.
وكل هذا جزء لا يتجزأ من حالة انهيار الأخلاق والتقاليد وحضارة الماضى والطابع المتحفظ الوسطى الذى كان يميز المصريين طوال تاريخهم؟
أيا كانت الأسباب والنتائج ، فإن الأمر يستلزم مواجهة هذا الجيل لتحديات المستقبل، وذلك يتطلب تغييراً جوهريا فى منظوره للأشياء من خلال أعمال درامية تستعيد روح (أسامة أنور عكاشة) من جديد.
كما يتطلب الكثير من التواضع والقليل من حب الظهور، وعلى أبناء هذا الجيل أن ينظروا بعين الاعتبار أكثر لما يفتقرون إليه، بدلا بالتفاخر بما يميزهم، وعليهم أن يصنعوا جسور اتصال أوثق بالمجتمع وتجربته الممتدة.
مصداقا لقول المربى الأمريكى الفاضل لطلابه فى ختام محاضرته القيمة: (تسلق قمة الجبل لترى العالم، لا لكى تجعل العالم يراك)، وربما كانت أعمال الراحل العظيم (أسامة أنور عكاشة) ترسخ لذلك.. ألف رحمة ونور عليه.