بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
كانت (ألف ليلة وليلة) تأخذنا ونحن صغار إلى مملكة الخيال، فنعيش مع السندباد البحري ومغامراته، وعلاء الدين ومصباحه السحري، وعلي بابا والأربعين حرامي ومؤامرات أخيه قاسم الشرير، ومعروف الإسكافي وزوجته الكاذبة الشريرة، وقصص أخرى كثيرة كانت تُلهِب خيالنا ونحن نسمعها عبر المذياع.
وكان صوت (زوزو نبيل) الشهيرة بشهرزاد وهى تبدأ في الحكاية تلو الحكاية يطربنا كما كان صوت أم كلثوم يُطرب الكبار، ومن بعد صوت (شهرزاد) الساحر كانت صوت أبطال الحكاية يطلق لخيالنا العنان.
وحينما كبرنا واستطعنا القراءة وجدنا نسخا من قصص (ألف ليلة وليلة) في مكتبات الآباء فقرأناها واستمتعنا بها وارتبطنا بها وجدانيا، وتمنينا أن نكون أبطالا مثل الأبطال في حكايات (ألف ليلة وليلة).
أولئك الأبطال الذين يدافعون عن الخير ويهزمون الشر، فتخيلنا أنفسنا كأننا هم، ووزعنا أولئك الأبطال على أنفسنا، ولم تكن هناك عقبة تقابلنا إلا رفض كل واحد منا أن يقوم بدور الشرير، أو الجِنَّي الخبيث، فكلنا كنا نحب أن نهزم الشر، ولكن لم يكن هناك رمز للشر فنهزمه!!
وتهنا بعد ذلك في زحمة الحياة، وتاهت حكايات (ألف ليلة وليلة) وأبطالها منا، وألقت الحياةُ على أكتافنا أعباءً فانحنينا لها، وضربتنا أمواج الشر ولم يكن من بيننا بطلٌ يصد عنا غوائل الأيام فأصبحنا بقايا أو بعض بقايا.
فلا مصباح علاء الدين، ولا مغارة لصوص علي بابا، ولا طائر (رخ) عملاق يحملنا كما حمل السندباد ويلقي بنا في جزيرة الألماس، ولكن كل الذي حصلنا عليه من حكايات (ألف ليلة ولية) هو ذلك الرجل المسخ الذي جلس على كتف السندباد وأطبق بقدميه على عنقه.
فأعناقنا منذ أن اكتمل وعينا بالحياة أصبحت مختنقة من المسوخ الذين أطبقوا عليها، حتى خرجت أصواتنا مبحوحة من الاختناق وهى تقول: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
(أنور عبد المغيث).. كاتبا وأديبا
وحين اقتربنا من النهايات خرج علينا كاتبٌ وأديبٌ لم أكن أعرفه من قبل، إسمه (أنور عبد المغيث)، عرفت من سيرته أنه من أبناء الصعيد، ولا شك أن الصعيد وجغرافيته وجباله ونهره أطلقت خيال هذا الأديب.
وحين شب عن الطوق بدأ في التأليف المسرحي، هذا الأديب المسرحي كتب لنا (من وحي ألف ليلة وليلة) قصة ساحرة ملهمة عن البطل الشعبي الذي يقف ضد الظلم، كان هذا البطل يدافع عن ناسه وأهله مهما جرت له من أحداث. ثم كان أن قام مخرج بارع وموهوب بشكل حقيقي اسمه (إسلام خيري) بتبني قصة أنور ويخرجها.
أظن أننا الآن عرفنا أن القصة هى مسلسل (جودر) المستمدة من إحدى قصص (ألف ليلة وليلة)، وهى قصة موحية ولها سحرها، هذا هو مسلسل (جودر) للأديب والكاتب والسيناريست (أنور عبد المغيث) الذي استمتعنا بعرض نصفه في شهر رمضان المنصرم، إذ لم يتم عرض إلا نصفه على وعد منهم باستكمال البقية فيما بعد.
وفي هذا المقال سأتحدث عن أربعة وخامسهم الإخراج، أما أول من أكتب لكم عنه فهو المؤلف (أنور عبد المغيث) قلت لكم ما عرفته عنه، وما عرفته كان هو النزر اليسير، إذ كان اسمه عندما يصافح أذني أو عيني كنت أظنه الكاتب والمترجم (أنور مغيث)، مع أن هذا غير ذاك.
ولكنني انتبهت وقمت بفك هذا الخلط عندما شاهدت مسلسل (جودر) حينها لفت نظري تلك اللغة وتلك الحكمة التي كان يُجريها المؤلف على لسان أبطال المسلسل، فأدركت على الفور أنني أمام أديب كبير، فقمت بالبحث عنه وعن سابق أعماله، ثم حصلت على مؤلفين له، الأول هو مسرحية (عشا العميان) والثاني هو مسرحية (حوش بديعة). فأدركت أن الفانتازيا والرمزية جزء مهم في أعمال (عبد المغيث)، ولكنني توقفت عند (عشا العميان)، وهي من إبداعات هذا المؤلف، ثم عرفت أنه حصل بموجبها على جائزة عالمية من فرنسا.
إذن عندما يكتب صاحب (عشا العميان) مسلسل (جودر ألف ليلة وليلة) فلا شك أن الفانتازية والرمزية سيكون لها النصيب الأكبر.
ومع نص (جودر) الذي كتبه (عبد المغيث) رأينا البطل الذي كنا نتمناه في طفولتنا، فعشنا معه في خيالنا، ورأينا خيانة الأخ لأخيه، وعقوق الإبن الشرير لأمه، ثم رأينا مكافأة القدر لهذا البطل الذي كان يصارع عفاريت الشر التي ناوشته وحاربته.
حاربه الشر الذي كان قريبا منه، وحاربه الشر الذي كان بعيدا عنه، حاربه شر جبهته الداخلية، تلك الجبهة التي وثق فيها ولم يتق أفاعيلها، ولكن الله في كل مرة كان يقيه منها.
المخرج المبدع (إسلام خيري)
قاتل من أجل حبيبته ونذر حياته لها، ولكن فتاة أخرى ساكنة في جزيرة بعيدة حاولت اختراق حصونه، ولكنه صمد أمامها، تلك هى مغريات الحياة التي تغزو قلوبنا فنضعف أمامها، ولا يقهرها إلا كل بطل عنيد كان يبحث عن النور فألهمه الله نورا.
والله لا يعطي النور إلا لكل من يسعى إليه، ولكن أين نحن من البطولة؟، وأين نحن من النور؟ فلسنا أبطالا من (ألف ليلة وليلة) ، ولا حتى من ليلة واحدة، أو ساعة من ليلة.
ومع ذلك النص الذي أتقن المؤلف حبك تفاصيله الدرامية، وبرع في رسم الشخصيات، وكان من النبغاء في بناء الشخصيات وتطورها، مع كل هذا توافر في المسلسل كل عناصر التشويق.
ولذلك وقعت في الندم، نعم، ندمت لأنني لم يسبق لي أن تعرفت على هذا الكاتب البارع من قبل، ولم أتابع أي عمل له، وأطمع أن يمنحني الله عمرا حتى أقرأ وأشاهد ما فاتني من أعماله.
أما المخرج فهو (إسلام خيري)، وفي (جودر) رأيته قد تطور كثيرا وأصبح دون مبالغة واحدا من كبار المخرجين، فهو مخرج صاحب خيال، وصاحب قدرة كبيرة على تحويل النص إلى حركة مبهرة.
وكأنه كان يقرأ خيالاتنا ويترجمها إلى مشاهد، نتخيل ما الذي سيحدث فيسبقنا هو بحيث أصبحنا نلهث خلفه ونحن في حالة انبهار، يعترينا الخوف على (جودر)، ونشفق على أمه، ونتمنى أن يظهر له الطائر الطيب الذي يتحول إلى رجل وقور لينجيه من مكائد الكائدين.
ونفزع عندما يخدع الجني الشرير بطلنا (جودر) عندما يتشكل في صورة أبيه عُمر المصري فنخشى أن يغرق (جودر) في البحر السحري، هذا باختصار توافق عجيب بين المؤلف والمخرج والمشاهد.
وهو من الأمور التي نادرا أن نراها عندنا، إذ لا يحدث هذا إلا عندما ينأى المخرج بنفسه عن الاقتباسات الإخراجية، فحين يقتبس المُخرج يخرج من نطاق تصوره هو إلى تصورات لآخرين فنجد أنفسنا أمام “البعكوكة” وهو للأسف أصبح أمرا سائدا !!.
ولنا عودة في المقال القادم لأكتب لكم عن الفنانين المبدعين في هذا المسلسل: (ياسر جلال، ومحمد التاجي، وعبد العزيز مخيون، ومحمود البزاوي، ومجدي فكري)، فانتظروني.