شهادة (حسن م يوسف، وجود سعيد) الإنسانية عن المخرج السوري (عبد اللطيف عبد الحميد)
إعداد: أحمد السماحي
(في ناس بتعيش معن كل العمر ومع ذلك بحسسوك بالغربة عنن، وفي ناس من أول لقاء بتشعر وكأنك كل العمر عايش معن وبتعرفن).. هذا حوار من فيلم (نسيم الروح) للمخرج السوري الراحل (عبد اللطيف عبد الحميد)، الذي رحل عن حياتنا مساء أمس الأربعاء، وبمناسبة هذا الحوار، الذي يلخص فلسفة حياة.
أحببنا أن نتوقف مع شهادة اثنين من أقرب الشخصيات إلى قلب المخرج الراحل (عبد اللطيف عبد الحميد)، أولهما صديقه الكاتب السوري الكبير (حسن م يوسف)، والثاني تلميذه المخرج (جواد سعيد).
وهاتان الشهادتين نشرهما المخرج الراحل على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي (الفيس بوك)، وأحببنا إعادة نشرهما لأنهما يقدمان صورة إنسانية عن قرب للمخرج (عبد اللطيف عبد الحميد).
شهادة حسن م يوسف
يقول الكاتب (حسن م يوسف) في مقاله (قبل أربعين عاماً، وفي مثل هذه الأيام الباردة تعرفت على (عبد اللطيف عبد الحميد)، عقب تخرجه في معهد (الفغيك) السينمائي في موسكو.
وأول ما لفت انتباهي بـ (لطيف) – كما أناديه ـ هو أنه لطيف حقاً فضحكته خجولة قد تنتهي بدمعة، ودمعته بيضاء قد تتحول إلى ضحكة طيبة في أي لحظة.
عندما رأيت الأفلام التي أخرجها في أثناء الدراسة في موسكو أحسست أنني أمام مبدع ذي خصوصية واضحة، وقد تأكد لي هذا عندما رأيت فيلمه القصير (أيدينا)، ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف (لطيف) لحظة عن إدهاشي.
يرى الرومان القدماء أن (الإنسان يساوي شغفه)، وقد كان واضحاً منذ البداية أن شغف (لطيف) هو الفن السينمائي وحب البشر.
قبل سنوات قرأت مقولة لسينمائي أميركي لم أعد أذكر اسمه مفادها (من الصعب أن تكتب دراما جيدة، لكن من الأصعب أن تكتب كوميديا جيدة، أما أصعب الأشياء على الإطلاق فهو أن تكتب دراما تتخللها كوميديا، فتلك هى الحياة).
وهذه نزعة مشتركة بيني وبين أخي (لطيف)، ثمة قول شائع ينسب للكاتب الفرنسي (جورج بوفون) مفاده (الأسلوب هو الإنسان).
والحقيقة أن (لطيف) قدم خمسة عشر عالماً مختلفاً في أفلامه الطويلة، إلا أنه حافظ دائماً على نقاء أسلوبه الإبداعي واستمراريته، بحيث يمكن القول إن كل واحد من أفلامه يشبهه إلى هذا الحد أو ذاك.
أدرك (لطيف) منذ اللحظة الأولى خصوصية السينما كفن وصناعة وتجارة، فأفلامه تكاد تكون هي الوحيدة التي تسترد تكاليفها وتحقق ربحاً أو بعض ربح.
وهذا ما حوّل اسم (عبد اللطيف عبد الحميد) إلى (علامة فارقة تسكن وجدان كل من يحب هذا الفن الساحر)، على حد قول مدير المؤسسة العامة للسينما مراد شاهين.
من المعروف عن (لطيف) أنه يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه، لكنه بعد الوعكة الصحية التي ألمت به عقب رحيل رفيقة عمره (لاريسا)، دخل في شراكة إبداعية مع الشاعر والروائي (عادل محمود).
إذ كتبا معاً فيلم (الطريق) الذي توافق أول عرض جماهيري له في سورية يوم الأربعاء الماضي مع أيام الثقافة السورية ومرور أربعة وستين عاماً على تأسيس وزارة الثقافة.
كان فيلم (الطريق) قد فاز في أول مشاركة له في المهرجانات بثلاث جوائز خلال (أيام قرطاج السينمائية) 2022، وهى جائزة الجمهور، وجائزة أفضل ممثل لموفق الأحمد، وجائزة أفضل سيناريو.
في حفل الافتتاح أهدى لطيف فيلم (الطريق) لرفيق دربه وشقيق روحه (عادل محمود) الذي لم يعرف بالجائزة، لأنه كان في غيبوبة لم يصح منها.
وما إن بدأ الشريط حتى فوجئنا بشجن آخر إذ أهدى (لطيف) الفيلم لروح رفيقة عمره (لاريسا عبد الحميد)، لكننا رغم وطأة هذا الموت المزدوج سرعان ما دخلنا في عالم (لطيف) الذي تمتزج فيه الدمعة بالضحكة.
ميزة فيلم (الطريق) أنه أومأ إلى الآلام التي تعصف بنا من دون أن ينغمس فيها، وقد اختار مرحلة ثمانينيات القرن الماضي في إشارة لا تخفى على المشاهد اللبيب.
بعيداً عن المباشرة يوصل لنا (الطريق) بلغة الفن الراقية العديد من الرسائل، ومنها رسالة لذوي الشأن كي يدركوا أن الإنسان السوري الذي يصفونه بالفشل إنما هو عبقري بالفعل.
لكنه بحاجة لروح إيجابية تساعده على صقل عبقريته وإبرازها، تحية لأخي( لطيف)، ولكل من شاركوا بهذا العمل العميق الممتع.
الوطن، 4/12/2022
………………………………………………
شهادة (جود سعيد)
وهذا ما كتبه المخرج السوري الشاب (جود سعيد) :
اجلس يا جود على التلة وتابعنا
بعد بضع سنين من (نسيم الروح)، هكذا استقبلني (عبد اللطيف عبد الحميد) عندما عدت من سنتي الدراسية الأولى للسينما في فرنسا..
طلبت زيارته في تصوير فيلم (قمران وزيتونة) عن طريق صديقتيَّ ابنته (ماريا)، و(رامي عبد الحميد) صديق عمري ومراهقتي وقريبه.
جلست متابعاً خفيفاً كان (عبد اللطيف عبد الحميد) كراقص يتنقل بين الكاميرا والممثلين، مداعباً هذا ضاحكاً مع ذاك، (فيلليني) يتكلم العربية، يرى فيلمه أمامه والآخرون يتبعونه، يقود الفريق كنهر لا يسأل ماؤه إلى أين المسير؟..
بعد نهار صاخب تسللت فيه كقط نحو (ڤاديم) مدير التصوير الذي عرفت أنه يتكلم الفرنسية، وبدأت أسأل بنهم عن هذا وذاك، ولم، وكيف؟..
أحمل كابلاً مع الحاملين، أسندُ ضوءاً مع مُشغله الذي يتجاهلني تماماً فالضوء ليس بحاجة لاثنين ولكنه هذا المخلوق الحشري ضيف الأستاذ..
بعد نهار حافل، أطلّ القمر، نعم قمر (عبد اللطيف عبد الحميد)، ومعه أتت عاصفة أرسلها الله له كي يُكمل المشهد، قال له صنعت قمراً، خذ مطري وابتسم
كان القمر كبيراً أبيضاً يسنده الفريق وطفل يركض نحوه، كبلاد تسعى للأمل، انطبع هذا المشهد بذاكرتي وأنا عائد لفرنسا بالطائرة، هو وقمر آخر اسمه (لاريسا عبد الحميد)، ولتلك المرأة حكاية سيرويها عبد اللطيف يوماً.
اجلس على التلة، في البداية أحسست هذه الجملة كنوع من الطرد، ولكن وبعد أن أنهيت دراستي، شكرته في سري..
تعلّم أن ترى الكلية لتفهم الجزئيات، شاهد الكلّ لتصير الصانع، فالفيلم لا يكون لك ما لم تكن الأوحد في التعددية، أي وحدك من يرى الكلّ حينها قل هذا الفيلم لي وفيه من ارواح الكل.
عدت إلى سورية حاملاً حلماً سينتهي بموتي، أن أصنع سينماي، كما صنع (عبد اللطيف عبد الحميد) الذي حمل تجربتي في راحتيه وأطلقها للسما، شاركني الكتابة، منحني روحه ممثلاً، ركضت في أفلامه مساعداً.
بات قلباً في قلبي، هو (أبو سعيد) في (مرة أخرى)، و(العقيد الضجر) في (صديقي الأخير)، و(أبو غازي) في (من لا ينشق في بانتظار الخريف)، وأب مكلوم في (رجل وثلاثة أيام)..
هل تعلمون ما معنى أن يبقى ملخص فيلم في رأسكم؟ أولاد ضجروا في حوران فعلى لبنان هبط الأميركان!.. أي حرّ أنت في أيام ضجرك وأي وفيّ في العاشق، أتعبت ذاكرتي، دعها بسلام ودعني أقبلك وأحبك.