كتب: محمد حبوشة
القضايا التي طرحها (مال القبان) توحي بأن سقف النقد في الدراما السورية قد ارتفع كثيرا، حيث يتم تناول قضية المعتقلين والمغيبين قسراً في سجون النظام في المسلسل، وتحديدا الناشطين السياسيين الذين اعتقلوا في بداية الأحداث السورية عام 2011 وغيبوا في سجون النظام وتلاشت أخبارهم تماما.
ولكن طرح هذه القضايا في مال القبان) افتقد للمحاكمة الموضوعية، فتم تحييد دور النظام الحاكم قدر الإمكان فيها، ليبقى التساؤل عن دور الدولة بكل ما يحدث من فظائع على الشاشة ناقصا، وكأن أجهزتها عنصر محايد في كل ما يجري.
وبدلا من تناول القضية بشكلها الواقعي، يقوم الكاتبان (يامن الحجلي وعلي وجيه) في (مال القبان)، برسم حكاية موازية لها لتلميع صورة النظام قدر الإمكان، ليتم إلقاء اللوم كاملا على العصابات المسلحة، التي تنتصر عليها الدولة في نهاية المطاف، وذلك في مشهد لمعركة جاء خارج كل السياقات الدرامية.
وصور كمشهد إعلاني ترويجي لقدرات الجيش السوري الخارقة، بعد أن كان غائبا تماما طوال الوقت، ليخدم المشهد بروباجندا النظام، التي لم تعد هناك حكاية واضحة قادرة على إنقاذ صورتها تماما.
مسلسل (مال القبان) وإن كان قد بدا أكثر منطقية وعقلانية بطرح قضاياه، إلا أنه لا يشكل سوى زاوية أخرى من السردية الموازية التي يصيغها (علي وجيه ويامن الحجلي) لتبرئة حكومة النظام السوري من حالة البؤس التي وصل إليها الشعب السوري.
فمن خلال الخطوط الدرامية المتشعبة التي يصورها في سوق الجبر، يرمي مسؤولية جوع السوريين على عاتق التجار، الذين يمارسون الاحتكار لرفع أسعار الخضروات، والذين لا يتوانون عن حرق الأغذية وإفسادها، في سبيل السيطرة على السوق.
رواية تتطابق تماما مع إعلام النظام
هذه الرواية تتطابق تماما مع الرواية الرسمية لإعلام النظام، الذي يعلق كل المشاكل على شماعتي العقوبات الاقتصادية وجشع التجار، الذين أطلق عليهم لقب (تجار الأزمة) في محاولة لحشد الغضب الشعبي ضدهم وإخلاء مسؤولية الدولة عن كل ما يحدث.
بل أن مسلسل (مال القبان) يزيد من الشعر بيتاً حين يحول دوريات التموين ومكافحة التهريب إلا أدوات في يد تجار السوق، بدلا من تصويرهم باعتبارهم أجهزة وذراعها في جباية الأتاوات التي تزيد من معاناة الناس.
لكن الجانب الأكثر إثارة من مسلسل (مال القبان) يتعلق بشخصية (رغد/ سلاف فواخرجي)، التي اعتقلت بعد المشاركة بمظاهرات ضد نظام الأسد سنة 2011، وغُيبت في سجون النظام ليصل خبر موتها الى عائلتها، قبل أعوام من خروجها من المعتقل، على خلفية مرسوم العفو الذي أصدره الأسد قبل عامين.
ورغم أن الحكاية كما تم طرحها تحمل الكثير من الجرأة وتدين نظام الأسد بجرائم معتقلي الرأي والتغييب القسري في سجونها، ولكن (علي وجيه، ويامن الحجلي) يحاولان تغليف هذه الحكاية بقشور تلمع قدر الإمكان صورة النظام.
وذلك من خلال تصوير المعارضة السياسية التي ظهرت سنة 2011 باعتبارها مراهقة ثورية عاشها الشباب الذي انخدع بمظاهر وخطابات الغرب، ليتم لوم (رغد) وزملائها على اختياراتهم الطائشة وتحميلهم كامل المسؤولية عما حدث في البلاد من بعدها.
ورغم خلق كل العوامل التي تجعلنا نتعاطف مع (رغد)، التي خسرت زوجها وبنتها وأملاكها، بعد اعتقادهم أنها ماتت في المعتقل، إلا أن الجميع يحملها مسؤولية ما حصل معها، لتشعر هى أيضا بالندم على خياراتها وتتعامل مع ما حدث بالماضي كأخطاء كان يجب ألا ترتكبها.
الأمر الذي يدفعها إلى الخروج في بث مباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتعتذر عن أخطائها وتطالب بإستعادة حقوقها المدنية المحرومة منها.
الطريف بالأمر أنه حتى الأمور السلبية في حكاية (رغد)، كحرمانها من حقوقها المدنية، لا يلقى فيها اللوم على الدولة، وإنما على ضابط فاسد، هو من استهدفها، لتجد مصيرا مختلفا عن زملائها المعتقلين الذين استعادوا كامل حقوقهم بعد خروجهم من المعتقلات.
ومع كل مامضى فإن التوقعات كانت في مكانها فعلا في مسلسل (مال القبان) بعمل تم شغله بعناية وبتفاصيل دقيقة لم تدفع للملل أو الإطالة الزائدة، فكان لدينا ثلاثون حلقة على سوية متقاربة تستحق المتابعة لمسلسل (مال القبان) للعملاق (بسام كوسا).
قد تكون الحكاية مطروقة في وقت سابق بالنسبة للدراما العربية، ولكن ما الضير في تقديمها مجددا بمعالجة جديدة تبحث في الماضي الذي أصبح حاضرا، كما تقول مقدمة الحلقة الأخيرة.
حكاية (مال القبان)
ستبدأ حكاية (مال القبان) إذا من (عدوية/ إمارت رزق) الفتاة الهاربة من بطش زوجها لدمشق، فتستقر في سوق الخضار وتنجب طفلها (نعمان) وسط دكاكين السوق وصناديق الفاكهة والخضار، فيشب الفتى ويكبر وهو يحب المال حبا جما يدفعه للتلون حسب كل الظروف والتحولات.
لأجل أمر وحيد هو كسب المزيد من الصفقات، لن يتورع لأجل ذلك عن تخريب بضائع تجار آخرين، أو احتكار سلع معينة، أو حتى مصاهرة مهربي المعابر الحدودية، بهدف تعزيز اسمه بصفته كبير تجار (سوق الجبر).
لن ينافسه سوى وارث هذا المكان، أبا عن جد وممسك كار التجارة في هذا المكان، أبو عمار الجبر، الأخير لن يتردد في قلب حياة نعمان رأسا على عقب.
ومنذ كان فتى صغيرا فيتحرش بأمه ويزرع الوسواس في داخله دون أن تنفع محاولات عدوية لإقناع ولدها بطهارتها، فيجافيها ويتنكر لها أمام الجميع قبل أن يكتشف الحقيقة بعد رحيلها.
يسجل هنا لكاتبي (مال القبان) كل من (يامن الحجلي، وعلي وجيه) نقاط إيجابية عديدة، فغالبية الشخصيات تم صياغتها بعناية فائقة لتبدو ماثلة بيننا، لا خير مطلقا ولا شر مطلق، الجميع هنا ضمن دوامة الأيام، يتلون كل منهم حسب مصلحته وتبعًا للظرف المحيط.
فمن يسعى لرفع سعر البطاطس أو البصل في السوق لن يتردد في تنظيف المساجد للتكفير عن ذنبه وذرف الدموع في الحضرة الصوفية، بل سيضع يده بيد عدوه اللدود حين تتهدد مصالحهما بإضراب العتالة.
ومن يدمر تجارة لشاب بسيط، سيعود ويقف لجانب رفاقه حين يطلبون منه العون، كذلك القاضي المتمسك بالقانون سيضطر للتخلي عن ضميره لأن حياة طفلته في خطر، والخطر ذاته يرغم فتاة الليل على مواجهة المهنة الشائنة لتكسب لقمة العيش، ولو دفعت ثمنا بخسارة سمعتها.
في المقابل، قطع المخرج خطوات إضافية للأمام بتنفيذ العمل، بداية من مشاهد (فلاش باك) من الماضي المرتبط بكل شخصية، تفسر لمرحلة بعيدة، عوالمها في الحاضر، مرورا بأدق تفاصيل السوق الذي تم تشييده (صممه مهندس الديكور حسان أبو عياش) وإدارة المشاهد بالنسبة للشخصيات.
معظم شخصات (مال الشام) متقنة
رغم كثرة الشخصيات في (مال القبان)، إلا أن معظمها كان متقنا، على أن هذه الإشادة لا تمنع من ذكر نقاط سلبية أضعفت إيقاع العمل في البداية، كمشهد الشجار وسط السوق في الحلقات الأولى، والذي امتد طويلا مترافقا بحركة بطيئة وموسيقى كلاسيكية.
أو كمشاهد العنف والضرب لتحصيل الديون، والتي تكررت في البدايات خاصة على يد (خير/ يامن الحجلي) الذي يظن أنه ابن (نعمان) قبل أن يكتشف أنه ابن صفقة أبرمها زوج أمه في الثمانينات.
وهي نقاط تراجعت لاحقا بفضل مشاهد أخرى أعادت البريق وتماسك الحكاية حتى الحلقة الأخيرة، دون الحاجة للإطالة في الأحداث أو الصراعات لتبدو كلزوم مالا يلزم.
إيجابية أخرى في (مال القبان) تسجل للمخرج (سيف الدين سبيعي) وهى الاستعانة باثنين من الكبار، يتقدمان الساحة الدرامية، الأول هو (موفق الأحمد)، الذي يتحول من كبار التجار لمفلس بائس دمره لعب القمار دون أن يفرط بنجله وأحفاده.
والثانية هي الفنانة اللبنانية (ختام اللحام) لتجسد دور والدة نعمان (لعبت رسل حسين الدور في المراحل الأولى)، لكن اللحام لن تنطق بكلمة واحدة باللكنة اللبنانية بل أتقنت اللهجة السورية بحرفية عالية.
وأبعد من ذلك بالمشاهد التي تجمعها بنعمان الذي يؤديه (بسام كوسا) ليتصاعد الأداء حتى الذروة بين معلمين في التمثيل يقدم كل منهما دوره باقتدار عال، و(بسام كوسا) هنا أيضا في ملعبه الخاص يجسد شخصية تتلون من الجبروت والجشع للانكسار والندم.
يشمل ذلك مشاهده مع منافسه بالسوق (نجاح سفكوني)، والذي بدوره يستعيد ألقا كبيرا ككبير تجار السوق والمتلاعب بمصير (نعمان) حتى عزاء والدته لتبدو مشاهد البطلين كمبارزة أداء تحبس الأنفاس.
سلاف فواخرجي بطلة العمل
لن تغيب عن هذه المنافسة بطلة (مال القبان) وصاحبة الخط الموازي (سلاف فواخرجي) رغم تأخر ظهورها حتى نهاية الحلقة الخامسة، لكنها تحبس الأنفاس بمشاهدها الصامتة وتعابير وجه مؤثرة حتى ضمن اللقطات التي تتطلب انفعالا زائدا.
كان كل شيء في مقداره وهو ما ينسحب على أبطال العمل الشباب الذين ظهر كل منهم بموقعه بداية من ملهم بشر الذي يتقدم خطوات للأمام بشخصية (جاويش) الشاب المدمن على القمار، حتى يخسر ما يملك ويصل لمرحلة ترك أطفاله أمام دار للرعاية بمشهد لم يتحدث به طويلاً لكنه وصل للذروة.
الإيجابية أيضا تتكرر في (مال القبان) مع (حلا رجب)، بشخصية ابنة (نعمان) المصابة بالاكتئاب والمهملة من أبيها وإخوتها والمكسورة حتى من زوجها، فتتلون بين الضحك الهستيري والانفجار بالحزن والغضب بإتقان بالغ.
كما تسجل لـ (صفاء رقماني وروبين عيسى) الحضور الجميل، لكن التفرد يمتاز به الشابين (فادي الشامي وسليمان رزق)، فالأخير ظهر في العمل بشخصية (أبو الرموش)، اللص المتشرد المقيم في السوق والباحث عن أبيه، لو كلفه ذلك قتل ابن كبير التجار (عمار الجبر).
ليعتني (رزق) بكل التفاصيل، من الشعر المهمل للأسنان المتسخة وحمل السكين والتورط في المعارك الجانبية، وكأنه ابن السوق منذ خرج للدنيا، أما (فادي الشامي) فيخرج من عباءة البيئة الشامية لدور الشاب الفاشل في كل مهامه.
حتى بإنهاء حياته ليستعين بأبو الرموش لقتله مقابل كشف حقيقة والده، بينما ختم الراحل (محمد قنوع) مشواره بشخصية مختلفة عما قدمه سابقا، ويغدو في أفضل حالاته.
وفي النهاية يزيد من بهاء (مال القبان) الأداء المذهل للممثلين من (بسام كوسا إلى سلاف فواخرجي إلى موفق الأحمد وسليمان رزق ويامن الحجلي وخالد القيش ووسام رضا، وإمارات رزق، والممثلة اللبنانية ختام اللحام) وغيرهم، بحيث نقتنع معهم بحقيقية صراعهم ومشاعرهم، ونعيش حيواتهم الظاهرة والداخلية، ونحس بأوجاعهم ولواعج نفوسهم.
(كاراكترات) خاصة ربما نمر بها في حياتنا، لكننا لا ننتبه لها ولعمق الدراما الكامنة فيها، قدمها هذا العمل في اقتحامه لعوالم خاصة، لم يسبق للدراما السورية أن اخترقتها.
وبهذا يكون (مال القبان) قد حقق معادلة الجدة على الصعيد البصري، وإدغامها بالواقع الاقتصادي السوري المرير، والطاعنين في زيادة مرارته، لتكون الحكاية بتراكبيتها مبشرة بمزيد من التصعيد في الخطوط الدرامية جميعها، خاصة مع حبكة متقنة وأحداث محفزة وشخصيات قادرة على مفاجأتنا باستمرار.
تحية تقدير واحترام لصناع مسلسل (مال القبان) وعلى رأسهم المبدع العملاق (بسام كوسا) بأداء فريد ومذهل إلى حد الدهشة.