* بسبب (خبز وحشيش وخمر) جرت محاولات لطردي من وزارة الخارجية، ونوقشت هذه القصيدة في المجلس النيابي السوري
* أنا دائما أحدث زلزالا بقصائدي، وقصيدتي (هوامش على دفتر النكسة) كانت توزع بشكل نشرة سياسية سرية
* الذين يكرهونني هم أكثر الناس حفظا لأشعاري!
* قصيدة (بلقيس) التي رثيت فيها زوجتي، لم تكن قصيدة (رثاء) بالمعنى المألوف، كانت (مانفستو) سياسي!.
* أعتبر أن إلقاء الشعر هو نصف الشعر، أو ثلاثة أرباعه فالشاعر الذي يلقي إلقاء رديئا لشعره يغتال القصيدة
* (محمود درويش) شاعر يشعل الحرائق، ويأتي كل يوم بصور جديدة
* لو عاش (عبد الحليم) أكثر من ذلك كنا أحدثنا أنا وهو انقلابا كبيرا في مجال الأغنية والشعر.
بقلم الإعلامية: أمينة صبري
مازالنا مع حوار الإعلامية الكبيرة أمينة صبري، رئيس إذاعة (صوت العرب) السابق، وحوارها الممتع والجريئ مع الشاعر العربي الكبير (نزار قباني).
في الحلقتين الماضيتين، تحدث شاعرنا المبدع عن طفولته، وبيته الدمشقي الجميل الذي كان جنة الله على الأرض.
كما تحدث عن ظروف ولادة قصائده الأولى، وأهم المحطات المهمة في مشواره الشعري، والشعراء الذين تأثر بهم، وغيرها من الموضوعات الأدبية والشعرية.
وهذا الأسبوع نستمر في الغوص في بحور (نزار قباني) الشعرية والشخصية، فإلى نص الحوار:
* مسألة الدهشة التي تريدها من متلقي شعرك هل تتعمدها؟ وهل تكون في ذهنك وفكرك وأنت تنظم الشعر؟
** (نزار قباني): طبعا من تجربتي وقراءاتي الكبيرة في الشعر، أنا أعرف ما قيل في الشعر من قبلي، فأنا أعرف ديوان الشعر العربي كله، وعندما أكتب الشعر دائما ما أسأل نفسي، هل سبقني أحد إلى هذا القول فإذا كان الجواب نعم رميته في سلة المهملات!.
أما إذا كان الجواب لا أثبته، ولذلك فأنا كل قصيدة أكتبها تثير زوابع وحرائق لأني أصدم عواطف الناس وقناعاتهم الراكدة، حدث هذا منذ أول قصيدة كتبتها وهى (خبز وحشيش وخمر).
وبسبب هذه القصيدة جرت محاولات لطردي من وزارة الخارجية، ونوقشت هذه القصيدة في المجلس النيابي السوري، واستدعوني من لندن وأنا دبلوماسي هناك.
ولأول مرة بتاريخ البرلمانات ينعقد البرلمان لكي يناقش قصيدة، وتقرأ بداخله وتدخل في المحاضر، يعني أنا دائما أحدث زلزالا بقصائدي.
وأنا أذكر قصيدتي (هوامش على دفتر النكسة) كانت توزع بشكل نشرة سياسية سرية لأنها أحرقت ومنعت.
* ألا ترى معي أن الناس أو القراء بالنسبة لنزار قباني نوعان، أما معجبا بشعرك إلى حد الموت!، أو كارها لشعرك إلى حد الموت؟!
** (نزار قباني): نعم هذا حقيقي، أنا سعيد بهذا الوضع، أنا لا أحب الطقس المعتدل، أحب دائما الزوابع، أحب الرياح التي تعصف، أنا لا أحب البحر الهادئ الذي يوصف من شدة هدوئه بأنه مثل الزيت.
كيف يكون البحر مثل الزيت، هل نحن بصدد تناول طبق سلاطة مثلا، المفروض أن يحدث الشاعر زلزالا، والقصيدة زلزال، وأريد أن أقول لك شيئا عجيبا، الذين يكرهونني هم أكثر الناس حفظا لأشعاري!
فأنا افاجئ بأن أكثر الناس هجوما علي هم الذين يحفظون شعري أكثر مني، وهذا هو النفاق، فنحن مزدوجي الشخصية ولا نقر بالحقيقة.
* أنت ذكرت الآن قصيدتك السرية الشهيرة (هوامش على دفتر النكسة) والمتتبع لشعرك يشعر بأنه حدث منعطف كبير في شعرك بعد نكسة 5 يونيو 1967، حتى عندما كتبت الحب بعد ذلك كتبته بشكل مختلف؟.
** (نزار قباني): ومن منا لم يحدث له منعطفات بعد النكسة، ولو تتذكرين قصيدة (بلقيس) التي رثيت فيها زوجتي، لم تكن قصيدة (رثاء) بالمعنى المألوف، كانت (مانفستو) سياسي!
أنا ما رثيت (بلقيس) بالقصيدة بل رثيت العرب قاتلي (بلقيس)، ولم يقتل (بلقيس) سوى الخلافات العربية، لذلك ليس لدي مواقف على ضفة النهر، أما أن أغرق بالبحر أو أن ابحث عن عمل آخر، (بالشعر لا يوجد سير في الأمان.. من الحائط للحائط).
* نتوقف مرة أخرى عند قصيدة (هوامش على دفتر النكسة) ونقول إن هذه القصيدة كانت تتضمن إدانة للعالم العربي وفى نفس الوقت إدانة لك أنت ذاتك، فقبل النكسة واسمح لي، كان البعض يصفونك بأنك شاعر عابث لا تعبأ بشئ جاد في الحياة، فقضيتك فقط هي المرأة والحب؟.
** (نزار قباني): أنهم لم يصفوني بأنني شاعر عابث فقط، ياليتهم فعلوا ذلك فقط!، ولكنهم قالوا أنني كنت سببا من أسباب النكسة، فلماذا أبكي الوطن تصوري إلى أي حد وصل بهم الحقد عليّ.
وكان يوجد بيتين بالقصيدة أحدثت دويا كبيرا، وذلك عندما قلت (يا وطني الحزين حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين).
* بمناسبة هذين البيتين هل أنت من الشعراء الذين من يحفظون شعرهم؟
** (نزار قباني): لا فأنا ضد الذاكرة الشعرية، أنا لا ذاكرة شعرية لي، وأنا فخور بذلك لماذا؟ ماذا تعني الذاكرة الشعرية؟ تعني أن يكون في مخ الإنسان مسجل، آلة تسجيل.
وكل ما يطلب أحد أن يسمع أي قصيدة كتبت مثلا من عشر سنوات، على الفور تفتح آلة التسجيل، ونسمع القصيدة، أنا بأعتبر هذا نوع من الوقوف على الأطلال.
أنا أعترف لك بشئ، أنا أكره أن أسمع شعري لأني أكره الوقوف عند نقطة ما في الماضي، فإذا حفظت قصيدة كتبتها منذ عشر سنوات فهذا معناه أنني توقفت، ولم أتقدم منذ عشر سنوات.
في حين أنا أرمي ورائي تاريخي الشعري، وأبحث عن القصيدة التي لم تكتب، القصيدة التي لم تكتب أهم عندي من القصيدة التي كتبت، أنا أحيانا أكتب القصيدة في الصباح.
ويصعب على أن أرددها في المساء، ممكن أن اتلوا شعري من ورق لكن لا أثق بذاكرتي الشعرية.
* ولكن ألست معي في أن شعرك يضاف إليه أبعاد ومعاني كثيرة وبهجة وتألق عندما تقرأه أنت على الناس؟
** (نزار قباني): أنا أعتبر أن إلقاء الشعر هو نصف الشعر، أو ثلاثة أرباعه فالشاعر الذي يلقي إلقاء رديئا لشعره يغتال القصيدة، لذلك أنا أنصح الشعراء الذين لا يجيدون قراءة شعرهم أن يعطوا شعرهم لغيرهم لإلقائه.
وهذا ليس بعيبا، فأمير الشعراء كان لا يجيد إلقاء شعره، لذلك كان يعطي الشاعر كامل الشناوي قصائده لكي يلقيها بدلا منه، لأنه كان صاحب صوت جميل وطريقة إلقاء أجمل.
* أنت ذكرت أن الشعر يجب أن يثير الدهشة لدى القارئ أو المتلقي فمن الشاعر الذي يثير دهشتك؟
** (نزار قباني): الشاعر الفرنسي (رامبو) لأنه فعلا شاعر مدهش، والشاعر العربي محمود درويش فهو شاعر يشعل الحرائق، ويأتي كل يوم بصور جديدة، وهو يمثل الحداثة بأرقى مظاهرها، أما في الشعر العربي الكلاسيكي فأنا معجب (بالمتنبي) فهو سيدنا جميعا.
* ما رأيك في غناء القصائد؟ وهل تحب ذلك وتوافق عليه؟ وهل تجد أن غناء القصائد يعطي القصيدة انتشارا كبيرا من مجرد كونها قصيدة داخل ديوان في كتاب؟ وهل كل شعر يصلح أن يغنى؟
** (نزار قباني): في الحقيقة أن يغنى شعري كان نصرا لي، فغناء شعري فتح لي مساحات شاسعة ومخيفة في العالم العربي، والكتاب الشعري الذي تنشر فيه القصائد يوزع مثلا حوالي خمسة آلاف نسخة لكن وقت أن يتحول الشعر لأغنية يذهب إلى حوالي مائتين مليون عربي.
والقارئ العربي ثبت أنه يقرأ بأذنيه وليس بعينيه، كانت أول قصيدة غنيت لي قصيدة (أيظن) التي غنتها (نجاة) ولحنها الموسيقار عبد الوهاب، أحدثت هذه القصيدة المغناة ضجة في العالم العربي.
* وهل عندما قدمت هذه القصيدة في شكل أغنية، هل كنت تتوقع هذه الضجة أو هذه الهزة أو هذا النجاح الساحق؟
** (نزار قباني): أبدا.. أبدا.. أنا فوجئت.. وقتها كنت أعمل دبلوماسيا في الصين وكانت تأتي إلى الجرائد المصرية وأقرأ عن طوفان المقالات والمانشتات التي كتبت عنها دهشت دهشة كبيرة!
*غنى لك العندليب الأسمر قصائد من أجمل أغانيه فما رأيك في هذه التجربة؟
** (نزار قباني): أقول لك يا سيدتي، أنا بعد (عبد الحليم حافظ) افتقد انقلابيا وثوريا عظيما في الموسيقى اسمه (عبد الحليم)، فلو عاش عبد الحليم أكثر من ذلك كنا أحدثنا أنا وهو انقلابا كبيرا في مجال الأغنية والشعر.
لكن مع الأسف راح (عبد الحليم) وأنا أعتقد أن (عبد الحليم) لم يعوض، وأنا افتقد كثيرا (عبد الحليم).
* وأيضا نحن نفتقده كثيرا خاصة بعد ما نستمع إليه الآن ونرى ما آلت إليه الأغنية الحديثة؟
** (نزار قباني): معك كل الحق يا سيدتي
*ألم تفكر في كتابة مسرح شعري؟
** (نزار قباني): لا والله لم أفكر في ذلك، وقد سألني الأديب الكبير الراحل (د. يوسف إدريس) لماذا لا أكتب مسرح شعري، فقلت له أن الشعر شيئ مختلف تماما عن المسرح، فالمسرح فن آخر، علم آخر.
وأنا حين لا أجيد فن وعلم المسرح أتهيب الخوض فيه، ووافقني على ذلك (د. يوسف إدريس)، يجب على الشاعر أن يدرس المسرح حتى يستطيع أن يمسرح قصائده.
* سؤال أخير أستاذ نزار، أنت نظريتك في الفن والأدب والشعر بصفة خاصة هي أن الشعر هو فن الدهشة والمصادمة، فبعد هذا العمر من إحداث الدهشة ومن إحداث المصادمات وتلقي الهجوم الشرس العنيف الجارف عليك، هل تعبت من كثرة المصادمات أم مازلت تريد أن تصدم وتصطدم بالفكر؟
** (نزار قباني): المصادمة صارت هوايتي، مثل الملاكم أو مصارع الثيران فمهنته الأساسية هى أن يقتل أو يقتل، وبالعكس فلو فرض على أن أستقيل من المصادمة أو من مصارعة الثيران فسأموت فورا.
وبالفعل مات شاعرنا الكبير بعد أن فرض عليه المرض الاستقالة من المصادمة.