الحلقة السادسة: أيتها المسلسلات كم من الجرائم ترتكب باسمك
بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
هناك أشياء يظنها الناس صغيرة وهى عندي كبيرة، قد لا يلتفت أحدٌ لها، وإن التفت سيضع لها ألف تبرير، وستصبح عند بعضهم آية من آيات العبقرية، عبقرية المؤلف أو عبقرية مخرج (الحشاشين)!!
ويا ويح أمة تعتبر الخطأ صواب، والكَرْوَتة إنجاز، والطلسأة عبقرية، وقد اعترف لي صديق من العالمين ببواطن العامية المصرية ـ تحت وطأة السؤال ـ بأن (الكروتة) هي إنهاء العمل سريعا دون إتقان.
وأن (الطلسأة) هى وضع الشيء مكان الشيء، كأن تقوم بقلي القرنبيط في زيت سبق قلي السمك فيه، ثم توهم أهل بيتك الغلابة بأن هذا القرنبيط سمك مقلي.
لذلك لا تتعجب وأنت ترى الحلقة الثالثة والعشرين من (الحشاشين) وما بها من كروتة وطلسأة كباقي الحلقات، ولا تندهش وأنت ترى مشهد المنجنيق وهو ينهال على إحدى قلاع الأخ (الصبَّاح).
حينها وجدنا أخانا مخرج (الحشاشين) وهو يكرر مشهد سقوط أحد جنود الصبَّاح قتيلا من فوق سلم داخل القلعة مرتين متتاليتين، إذ يبدو أن هذا الجندي المسكين أخطأ أول الأمر فوقع قتيل خطأه.
ومن سوء طالعه أنه هو نفسه دون غيره لم ينتبه في المرة الثانية لخطأه الأول الذي أرداه قتيلا فوقع من ذات السلم مرة ثانية قتيلا !!، هذا جندي أنكرهُ حظه ولم يسعفه المونتاج فمات مرتين، وكأنه قال بعد هذا المشهد بيت شوقي الشهير: (أنا من مات ومن مات أنا …. لقي الموت كلانا مرتين)!!
ويا لسوء حظ (زيد بن سيحون) في (الحشاشين) الذي انتهى عمره في الحلقة الثالثة والعشرين، فعند محاكمته أمام دعاة الإسماعيليين النزاريين عن جريمة الفرار من الحرب.
“أحمد عيد” صاحب الدور رجل مثقف
إذا به يقرأ عليهم آية قرآنية، هى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، وقتها قلت الحمد لله فالممثل (أحمد عيد) صاحب الدور رجل مثقف وسيقرأ الآية القرآنية صحيحة كما أُنزلت، فهي آية يحفظها الأمي والعالم والمثقف والفاهم وغير الفاهم وكل الناس، كل الناس، على نحوها الصحيح.
ولكنه مع الأسف والألم قرأ الآية هكذا (ولا تَلقوا بأيدِيكم إلى التهلكة) فوضع فوق التاء فتحة، تاء فتحة تا، وهى كما تعرفون بضم التاء، تُلقوا، ، تُلقوا، تُلقوا.. تاء ضمة تو، تو يا مخرج، تو يا خلق هُوُ.
ولكن والحق يقال فقد أعجبتني إبنة أحد الرعاة التي وقعت أسيرة في قلعة الصبَّاح، كانت فتاة شجاعة، تجسست على (الصبَّاح) ونقلت أخباره، ورأيناها وهى تناظر أخانا “الصبَّاح” وهى تحت الأسر مهيضة الجناح إلا أنها كانت قديسة ثائرة، أفضل ألف مرة من الثائرات أثناء الثورة الفرنسية.
وحين قال لها المجنون المنحرف (حسن الصبَّاح): (أنا على الحق”، فقالت له بشجاعة) أيها الحق كم من الجرائم ترتكب باسمك”، فتذكرت على الفور تلك الكلمة الشهيرة للأديبة والثائرة الفرنسية مدام (رولاند دى لا بلاتير) حينما وضعوا رأسها تحت المقصلة عام 1793 فقالت “إيهٍ أيتها الحرية كم من الجرائم تُرتكب باسمك”.
وبعد ذلك صارت هذه الكلمة مثلا يكررها المثقفون والسياسيون المعارضون في بلادنا كثيرا عند أي موضع يروق لهم، ويبدو أنها راقت لصديقنا المؤلف فأجراها على لسان راعية غنم فقيرة قتلها (الصبَّاح) قذفا من فوق القلعة قبل موت مدام رولاند بمئات الأعوام!!
هل سنظل نتحدث عن لغة (الحشاسين) كثيرا؟، وهل الحوار بين شخوص الرواية كان بالإتقان الذي تمنينا أن نراه؟، نعم كانت هناك حوارات في منتهى الروعة والإتقان والذكاء، لا أنكر هذا، وكانت الإسقاطات والمقاربات من أعلى ما يمكن في بعض الحلقات، وسنوردها في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.
ومع ذلك فقد أرَّقني وأصابني بالغم والهم هذا الاستظراف ـ في غير موضعه ـ الذي واجهني في مسلسل (الحشاشين) أحيانا فأجبرني على غلق الشاشة، والاستظراف الذي لم أستسغه ولم أستطع غض البصر عنه هو الذي كان من نصيب صديقنا صهبان البلان صاحب عمر الخيام.
الصديقين “البلان والخيام”
والحق يقال إنه لا ذنب له في هذا الاستظراف، فهو ممثل جيد، ولكن أخانا المؤلف كتب العبارة، والمخرج ألقاها على لسان (صهبان البلان)، ففي الحلقة الثانية بعد العشرين، وفي جلسة أُنس وفرفشة جمعت بين الصديقين البلان والخيام.
قال (البلان) لعمر الخيام مستظرفا دون أن يرعى فينا إلا ولا ذمة: (بعد العلم اللي عندك ده أنا خايف يا عمر يا خيام يتكتب اسمك على إزازة خمرة).. ههه !! يا لثقل دمك يا أخي، ويا لهو بالي على ما أفعله في تعقب الحوار!!
إذ لو قررت تعقب كلمات الحوار ما انتهيت من هذا أبدا، فأنا الذي اخترتُ كتابة هذه المقالات، فهل أشكو من مستظرفٍ إيراني؟!، ولكن من نكد الدنيا على الحُرِ أن يكتب مقالا ليس من كتابته بدُ.
وبمناسبة (عمر الخيام) لي سؤال درامي للسادة المؤلفين والسادة المخرجين: شخصية (عمر الخيام)، هل كان لها أهمية بعد انتهاء الحلقة الخامسة عشر؟ في (الحشاشين)، قام عمر الخيام بالدور المنوط به من وحي التاريخ، أو من وحي رواية أحدهم، وقد كان في البداية من الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في بناء الأحداث.
لا ننكر هذا، ولكنه لم يكن مثل نظام الملك أو (حسن الصباح)، فهو في الحقيقة شخصية مسطحة أو ثانوية، إذ كان له دور في بداية الأحداث ثم توقف هذا الدور، أما لماذا توقف فلأن المؤلف جعله شخصية ثابتة، تعيش بين شخصيات متحركة.
والشخصيات المسطحة في الرواية ـ كما يقول إخواننا من الأكاديميين ـ هي الشخصيات البسيطة التي لا تكاد تتغير ولا تتبدل في مشاعرها أو مواقفها أو حتى في حركة حياتها.
وهذه الشخصيات يحتاجها المؤلف طالما أنه قادر من خلالها على تحريك الأحداث، فإذا توقفت الشخصية عن بناء أي حدث فإنها تكون قد فقدت مبررات وجودها، وإذا كان هناك ما يبرر وجود (عمر الخيام) في (الحشاشين) في بداياته، إلا أنه أصبح عبئا على العمل فيما بعد.
إذ كان كل دوره أنه ينتقل من بلد إلى بلد مع (صهبان البلان)، بلا هدف، حيث يشربان الخمر معا، ويسكران معا، ثم يُلقي (عمر الخيام) لنديمه وسامره صهبان بعض الحكم والمواعظ والفلسفات التي لا معنى لها، والتي لم يستطع المؤلف صياغتها فكريا.
“عمر الخيام” كان رجلا تافها
وكل الذي خرجت به من هذه الشخصية التي صاغها المؤلف هو أن (عمر الخيام) كان رجلا تافها جاهلا سكيرا مذبذبا، هذا هو تصوير المؤلف له، وسنلقي بالمسئولية هنا على وحي التاريخ.
ولكن (الخيَّام) ظل منصرفا عن أحداث الرواية وتصاعد أحداثها بعد عدة حلقات، وكأن قصته جاءت من قصة أخرى لا شأن للحشاشين بها، ثم رأيناه في الحلقة الأخيرة ـ الخيَّام لا المؤلف ـ وهو يجلس على قبر صهبان البلان يردد كلمات لا تلخص لنا مثلا الحكمة التي عرفها الخيام من الحياة والموت.
هل تعلمون لماذا أصرَّ المؤلف على وجود (عمر الخيَّام) إلى النهاية؟ لأنه ـ أي المؤلف ـ وقع تحت تأثير رواية أحدهم.
والعجيب أيها السادة الأعزاء أن مخرج (الحشاشين) فعل شيئا عجيبا لحسن الصباح، ففي الحلقة الأولى رأينا (حسن الصباح) يدخل مدينة أصفهان راكبا فرسه، وهو ما بين الأربعين والخمسين من العمر.
ثم مرت عشرات السنوات، تزوج فيها (الصباح)، وعمل في القصر برفقة السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) ووزيره “نظام الملك”، ناهيك عن أن (الصبَّاح) سافر إلى مصر وظل بها سنوات، ثم مات (ألب أرسلان).
وجاء بعده ابنه (ملك شاه) الذي ظل يحكم عشرين عاما، ثم مات (ملك شاه) وجاء ابنه العنيف (بركياروق) وأنجب (حسن الصباح) وكبر أولاده حتى أصبحوا رجالا، وظل الصبَّاح كما هو في نفس العمر، وقد ذكَّرني هذا بشخصية امرأة ساحرة اسمها (هى) أو (عائشة) بمعنى عائشة الدهر، في الرواية البديعة لهنري رايدر هاجارد.
فقد كانت بطلة الرواية لا تشيخ أبدا، ولكنها شاخت في نهاية الرواية وماتت وحيدة بائسة، وكذلك ظل الصبَّاح رجلا فتيا عشرات السنوات إلى أن شاخ في الحلقة الأخيرة ومات وحيدا بائسا، ألم يكن للمؤلف أو المخرج أي معرفة بتأثير الزمن على أشخاص الرواية؟، يبدو أن تأثير الحشيش كبير، ولكن العلم عند الله.
والسؤال الذي يجب أن نطرحه ونفكر فيه هو: هل هذا المسلسل (الحشاشين) من وحي التاريخ فعلا، أم أننا يجب أن نقول: (إيهٍ أيها التاريخ كم من الجرائم ترتكب باسمك) ولكنه أمين معلوف الذي كان وحيا وسأقص عليكم خبره بعد حين.