بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
في الحلقة الماضية تحدثنا عن علاقة (فاطمة سري) و(محمد شعراوي) ابن رائدة تحرير المرأة في مصر (هدى شعرواي)، وفي هذه الحلقة نستعرض كيف احتدم الصراع، وتفاصيل الحرب الشرسة بين (فاطمة وهدى) على أثر ظهور الجنين.
حاولت (فاطمة سري) اللجوء للوصفات البلدية لكن (محمد شعراوي) كان متمسكا بالجنين .. طلبت منه كتابة إقرار بالبنوة كان من نصه (أننى تزوجت السيدة فاطمة سري)، و قد حملت منى مسكنا في بطنها الآن.. فاذا انفصل فهذا ابنى.. و هذا إقرار منى بذلك).
وصل الخبر المفزع أسماع (هدى شعراوي) في قصرها لتشتعل أروقته بالغضب وهى تستدعى ابنها صارخة في وجهه آمرة إياه أن يذهب ليطلقها فورا.
لم يستطع (محمد) مواجهة غضب أمه من ناحية.. ولا مواجهة (فاطمة سري) من ناحية أخرى.. فتوجه مسافرا إلى أوروبا.. تاركا مع أحد أصدقائه مظروفا ماليا لفاطمة طالبا منها اللحاق به هناك.
علمت (هدى شعراوي) بسفر ابنها فأرسلت إلى (فاطمة سري) عن طريق معارفها في الداخلية تهديدا بتلفيق ملف سري لها في شرطة الآداب مع إلحاق مهنة الدعارة باسمها لتصرخ فيه فاطمة غاضبة بأنها ستطلق الرصاص بنفسها على أي وزير داخلية يجرؤ أحد من رجاله على إلحاق هذا التلفيق بشخصها.
لم تجد (هدى شعراوي) في ترهيب (فاطمة سري) طائلا.. أرسلت لها مع محاميها شيكا بـ 25 ألف جنيه مع عرض بأن يتم تحرير عقد زواج لها يسبق تاريخ الحمل برجل يقر فيه كتابة ببنوة طفلها.. مما يجعل طفلها معلوم النسب ويرفع عنها أي حرج مجتمعى مع توفير حياة رغدة بهذا المبلغ المالى الضخم.
رفضت (فاطمة سري) كل ذلك بغضب.. وهى تجيب المحامي: انت محامى أم قواد؟،
وحاولت (فاطمة سري) اللحاق بزوجها في فيينا، لكن (هدى) سبقتها إليه وأخذته إلى إيطاليا ليرسل لها أن تلحق به هناك، وعندما سافرت تلقت منه رسالة لها بأن تلحق به في باريس.
في فيينا قابلها (مصطفى باشا النحاس) الذى حكت له تفاصيل مأساتها ليتعاطف مع هذه الزوجة الحامل التي تلاحق زوجها في دول أوروبا، ليشير عليها بحنكته كمحام أن تحتفظ لنفسها بأصل عقد الزواج العرفى.
أول قضية نسب في مصر
وإقرار الأبوة وأن تصور منهما صورة زنكوغرافية ملونة – كانت متاحة حينها في أوروبا لتعطيها لمحمد شعراوى إذا طلبها يوما.. وقد صدق حدس (النحاس) حينما قابلها (الشعراوي) في باريس قبل الولادة بأيام قليلة طالبا منها صورة الإقرار لتوثيقه في السفارة فأعطته الصورة الملونة محتفظة لنفسها بالأصل.
وبمجرد حصوله على الإقرار طالبها بالعودة إلى مصر للولادة هناك.. وحينما لحق بها قدمت له ابنته (ليلى محمد شعراوي) ليصب عليها غضبه كونها أنجبت بنتا..ليغادر غاضبا مختفيا عنها لفترة طويلة.. لاحقته بالسؤال ليجيبها أخيرا: أنا لست زوجك.. وابنتك ليست طفلتي.
توالت الضربات على رأس (فاطمة سري).. كتبت إلى (هدى شعراوي) رسالة استعطاف نشرتها بعض الصحف دون جدوى.. بل وأساءت لها (هدى شعراوي) بعبارات نابية اضطرت (فاطمة سري) للرد عليها من قبيل: إذا لم تطبقى مبادئك على نفسك.. فأنت ليس لك مبادئ..
أنا اسمى (فاطمه سري) ولم أغير اسمى لفاطمه شعراوي، كما فعلت حماتى حينما تزوجت (على باشا شعراوي)..
إذا كانت حماتى تدعى أنى لا أحب زوجى (محمد شعراوي).. فلتؤكد هى أنها كانت تحب زوجها (على باشا شعراوي) الذى كان يكبرها بـ 40 عاما.
احتدم الصراع بينهما.. تبنى (مصطفى أمين) في الصحافة جانب (فاطمة سري).. كما تبنى جانبها في المحاكم لأول قضية إثبات نسب في تاريخ الأمة المصرية المحامى (فكري أباظة) صارخا بقوله: (إن عدلى يكن ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ييطالبون وزير العدل بالتدخل لصالح (هدى شعراوي) لاسقاط النسب.
ليتحرك بعدها (سعد زغلول) إلى وزير العدل، الذى أكد له أن (الملك فؤاد) شخصيا طلب منه الحكم لصالح (محمد شعراوي)، ليرد (سعد) بأنه في هذه الحالة سيقف في مجلس النواب مطالبا بإسقاط الوزارة كلها – رغم الصداقة بين (هدى شعراوي) وزوجة سعد زغلول.
(فاطمة سري) بيدها الإقرار
كانت (فاطمة سري) تدخل المحكمة وبيدها الإقرار وعقد الزاوج، وعلى كتفيها تحمل ابنتها (ليلى) كوثيقة سطرت على وجهها ملامح أبيها، وابتسامتها الصغيرة تفضح ابتسامته لتلتقط كاميرات الصحف مزيدا من أدلة الإثبات.
بعد 4 سنوات من تداول القضية في أروقة المحاكم حكمت المحكمة بثبوت نسب الطفلة ليلى إلى أبيها.. تنتهز هدى شعراوى الفرصة في أوج غيظها للانتقام من الأم بالمطالبة بانتزاع حضانة الطفلة منها كونها تمتهن مهنة سيئة السمعة لاتصلح لتربية حفيدة (هدى شعراوي).
بالفعل حكمت المحكمة بانتزاع الطفلة منها لتعيش مع أبيها وجدتها ويكون يوم تسليمها لهم هو اليوم الأخير الذى ترى فيه وجه (ليلى) حيث حرمتها رائدة حركة تحرير المرأة من رؤية ابنتها لمدة 45 عاما إلى أن توفيت وحيدة في شقتها عام 1975 عن عمر 71 عاما.
وقد تخرجت خلالها (ليلى) من الجامعة الأمريكية وتزوجت من وكيل نيابة في حفل كبير لم يتم فيه حتى دعوة أمها لحضوره، وأما عن (محمد شعراوى)، فبعد عدة سنوات وبمجرد وفاة أمه (هدى شعراوي) تزوج من راقصة درجة ثالثة تدعى (أحلام زواجا) رسميا.. وأنجب منها ثلاثة أطفال.
فيلم أم كلثوم عن (فاطمة سري)
كانت السيدة (أم كلثوم) متعاطفة تماما مع قضية (فاطمة سرى).. وقد ألحت على (مصطفى أمين) أن يكتب قصتها سينمائيا.. بينما طالبت بديع خيرى بكتابة الحوار، وفي عام 1957 تم إنتاج الفيلم، حيث قامت فيه (أم كلثوم) بدور (فاطمة سري)، وقام (أنور وجدى) بدور ابن الباشوات.
وعند عرض الفيلم فهم الجمهور رغم تغييرات بعض التفاصيل القصة الحقيقية والتي في نهايتها غنت أم كلثوم بعد خروجها من المحكمة بحكم إثبات البنوة رافعة رأسها وسط عائلتها وأهل حارتها، لتغنى من كلمات (بيرم التونسى) وألحان زكريا أحمد:
نصرة قوية.. وفرحة هنية.. وألف سلامة.. وألف سلام..
رحنا.. وجينا.. ربنا سابل ستره علينا..
واللى يكون المولى نصيره.. عمره ما يندم ولا ينضام..
ألف سلامة.. وألف سلام..
فاجأت (هدى شعراوي) البلاتوه بزيارة مفاجئة لزيارة صديقتها (أم كلثوم.. وقد ظنت أم كلثوم أنها قدمت تعاتبها على بطولة الفيلم.. فانصرفت مسرعة من البلاتوه.. لتلتقط (هدى شعراوي) مع بقية نجوم الفيلم صورة جماعية وهى تتوسطهم دون أن تعلم قصة هذا الفيلم، وكأن القدر قد أخذ منها توقيعا جديدا على كل ما جرى من أحداث!