في الذكرى الـ 20 لرحيله.. (محمود مرسي) يحكي قصة طرده من الإذاعة الفرنسية بسبب (جمال عبدالناصر)!
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى العشرين لرحيل العملاق (محمود مرسي)، أحد رموز الفن المصري الذي رحل عن حياتنا يوم 24 إبريل عام 2004.
و(محمود مرسي) هذا المبدع لم يأخذ حقه من النجومية الكاملة، وهذا التقصير كان هو شخصيا أحد أسبابه!، حيث كان الراحل من نجوم (الصمت)!
ويرفض الحديث عن أدواره، وظروف حياته الفنية والشخصية، باستثناء حوار يتيم أدلى به لأستاذنا الناقد السينمائي (كمال رمزي).
وبالتالي لم يتم التوثيق لـ (محمود مرسي) كما ينبغي، ولم يجد الزملاء الصحافيين ما يكتبونه عنه في ذكرى ميلاده ورحيله إلا ما ورد على لسان بعض زملائه الذين عاصروه، ومعظمه مغلوط!
(محمود مرسي) ونجوم النقد
كتب كثير من نجوم النقد عن موهبة العملاق محمود مرسي، وفي العام الماضي أثناء إحتفاءنا بالذكرى المئوية لميلاده ذكرنا بعض هذه الآراء.
ومن الآراء التى لم نذكرها ما كتبه عنه ناقدنا الراحل (سامي السلاموني)، الذي قال عنه في مجلة (الإذاعة والتليفزيون): (مسألة الأخذ والعطاء المبني على التفاهم العميق عند (محمود مرسي) هى سمة جوهرية في أدائه.
ومن هنا وصل كثيرين من الممثلين إلى أفضل مستوياتهم حين شاركوه الأداء في تلك الأعمال المشتركة.
كانت أغلب أدوار (محمود مرسي) تندرج بدرجات متنوعة في مجال الشر، ثم جاء دور (الشاويش محمد) في فيلم (أغنية على الممر) عام 1972 ، أول أفلام المخرج علي عبدالخالق الروائية، ليكشف بقوة عن موهبته.
حيث جسد دور قائد مجموعة جنود فقدت الإتصال مع القيادة، وأصبح عليهم الدفاع عن موقعهم في حرب 1967.
ومن خلال دور (الشاويش محمد) جسد (محمود مرسي) أعماق الفلاح المصري، حيث تصبح عيناه شيئا رائعا في قدرتها على التعبير وذلك في اللقطات الكبيرة لوجه).
وقال عنه ناقدنا الراحل علي أبوشادي : يمثل (محمود مرسي) مدرسة الأداء الأكاديمي المنضبط المتحكم في درجة الانفعال، واستخدام الوجه كأداة أساسية للتعبير على أن يلعب الصوت دور العامل المساعد.
أما الناقد والمخرج السينمائي الراحل يوسف فرنسيس فيقول عن أدائه في فيلم (زوجتي والكلب): بطولة (محمود مرسي) الكاملة لهذا الفيلم تكشف لنا عن الممثل العريق والمثقف الفاهم لفنه.
وللشخصية التى يقدمها سواء في حركاته أو لفتاته الحادة، أو ضحكته، أو النشوة التى يجدها ويوجهها في الوقت المناسب).
لمحات من حياته الشخصية
في حواره الثري الممتع مع أستاذنا الناقد كمال رمزي عام 1998 في مجلة (فن) اللبنانية يكشف لنا (محمود مرسي) عن بعض أسرار حياته الفنية والشخصية فيقول: في عام 1951 بعت البيت الصغير الذي ورثته.
وأخذت ما معي من مال وسافرت إلى فرنسا لدراسة الإخراج السينمائي في معهد (الدراسات العليا السينمائية بباريس) – الأيديك – حيث الدراسة نظرية وعملية، وتستغرق عامين.
وتنتهي في تقديم مشروع، وكان مشروعي هو إخراج فيلم لا يتجاوز زمنه عدة دقائق يعبر عن موقف تردد الصبي الذي من المفروض قيامه بعملية اغتيال في مسرحية (الأيدي القذرة) لسارتر.
وفي أثناء تنفيذ الفيلم، قال الأساتذة الذين يتابعون العمل، أنني ممثل أكثر من أي شيئ آخر.
وفي باريس عاصمة النور بحق لا مهرب لك من الثقافة، بين كل مكتبة ومكتبة، مكتبة، ومعارض للفنون التشكيلية لا تتوقف عن تقديم الجديد، ومتاحف زاخرة بإبداعات من كل أنحاء العالم عبر العصور.
ودور سينما تعرض الكلاسيكيات إلى جانب دور أخرى تعرض أحدث الأفلام، ومسارح تقدم كافة الأنواع المسرحية، وكتب ومجلات وجرائد تهتم بشتى أنواع المعرفة، الهواء في هذه المدينة محمل بالثقافة.
العمل في الإذاعة الفرنسية
بعد انتهاء دراستي في (الأيديك) لم استطع مقاومة إغراء البقاء في باريس، ولأن أخر قرش كان معي، صرفته مع آخر يوم في الدراسة، صار لزاما علي أن أجد عملا.
وفعلا عملت في الإذاعة الفرنسية، وهناك التقيت فناننا التشكيلي الرسام رمسيس يونان، الذي كنت أقضي معه أوقاتا طويلة في (متحف الفن الحديث) الذي استهواني بثرائه، وتنوع أساليب لوحاته.
كما التقيت الدكتور علي درويش الذي أصبح لاحقا استاذا للأدب الفرنسي في العديد من الجامعات.
وفي الإذاعة الفرنسية كنت أقدم ملخصات وتحليلات للأفلام المصرية، وبعض البرامج الخاصة التى أطلعتني على معلومات لم أكن أعرفها من قبل.
وفي إحدى المرات طلب مني رئيس القسم أن أجري بحثا في الموسيقى العربية، ووجدت الكثير من المراجع الفرنسية في هذا المجال، وهالني مدى غنى وتعدد الآلات الموسيقية العربية.
ولكن الذي أدهشني أكثر هو عمق وشمول معرفة الفرنسيين بها، أنهم يعرفون عنها، أكثر مما نعرف نحن عنها!.
سر طردي من الإذاعة
لكن لفرنسا وجه آخر بمثابة الجانب الآخر من القمر، معتم، موحش، قاحل، فخلال عامي 1954 – 1955، عبرت روح الكراهية تجاهنا، حيث وصل العداء لمصر وعبدالناصر إلى درجة المرض!.
نعم مرض فرنسي اسمه (جمال عبدالناصر) قادم من بلاد العرب، يظهر أثره بوضوح في مقالات تنضح بالحقد وتبشر بالشر، ورسوم كاريكاتورية بالغة التجني، تعبر عن روح مظلمة لا يتسرب منها ولو شعاع من نور بالنسبة لي ولزملائي هناك.
بدأ الضغط علينا كي نقرأ تعليقات جارحة تمس الوطن وتجرح عبدالناصر، في هذا الوقت أدركت أن أيامي انتهت في باريس، اتصلت بأصدقاء لي يعملون في الإذاعة البريطانية كي أعمل معهم، وانتقل من ظلام عاصمة النور إلى عاصمة الضباب.
العمل في إذاعة الـ (B.B.C)
في الصباح ذاته في مكتب المذيعيين دخل رئيس القسم بوجه صارم متجهم، طالبا مني أن أغادر المكان فورا، ولا أعود إليه مرة أخرى، لقد تم طردي من الإذاعة الفرنسية قبل أن يلقى لي بطوق النجاة من الـ (بي. بي. سي).
وعرفت فيما بعد، أن مندوبة من الإذاعة البريطانية أرادت مقابلتي للإتفاق على العمل، والتقت المشرف على القسم وأخبرته بما تريد، فغضب الرجل، وقرر الثأر مني على هذا النحو الفظ.
ولأنني في الإذاعة الفرنسية كنت أعمل بالقطعة ولست معينا، لذا لم يكن لي أي حقوق مالية، فقضيت أياما قاسية، اقترض من أصدقائي ثمن طعامي.
وأخيرا جاء الفرج، فقد تمت الموافقة على العمل في الإذاعة البريطانية، وغادرت باريس بعد أن ذقت حلاوتها ومرارتها.
بعد أسابيع من عملي في الـ (بي .بي.سي) أخطرني زميلي آنذاك والدبلوماسي فيما بعد (حسين أحمد أمين)، أن الإذاعة الفرنسية طردت جميع المصريين العاملين لديها.
تأميم قناة السويس
لم تمض شهور عدة إلا وقام جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، وكان علي أن أذيع هذا الخبر، وعلى الرغم من محاولة كبح زمام مشاعري فإن الانفعال غلبني.
وألقيت النبأ بصوت يرتعد نصرا، أخيرا: تحقق أحد الأحلام الكبيرة، فقصة حفر قناة السويس وآلاف المصريين الذين ماتوا في أثناء العمل الشاق فيها، كنت استمع إليها بجوارحي كاملة في صباي من المدرسين، عندما انتقلت من المدارس الأجنبية إلى المدارس المصرية.
وفي الغربة تغدو النزعة الوطنية أكثر حدة، خصوصا حين يكون الوطن في لحظات مصيرية، وما أن اندلع العدوان الثلاثي حتى قررنا جميعا العودة إلى مصر لحمل السلاح.
وعلى العكس من رئيس القسم الفرنسي الاستعماري اجتمع بنا مدير الإذاعة البريطانية ليعرب لنا عن آسفه بسبب ما تفعله حكومته من مخاز.
وعدنا إلى القاهرة بلا عمل وبلا مال، ولأن وزير الإرشاد حينذاك (فتحي رضوان) كان يعرف والدي عينني كمخرج في الإذاعة، وبدأ المشوار.