بقلم: المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عشرات المواقف تدافعت الى ذهنى عند سماعى لخبر رحيل الفنان الكبير (صلاح السعدني)، وكأنها قطع (بازل) تجمعت لترسم صورا متعددة لشخصية فريدة واستثنائية، أثرت حياتنا الفنية وقدمت لنا أعمالا خالدة.
وغمرتنى مشاعر بين الحب الجارف و الحزن العميق، على رحيل (صلاح السعدني) واحد من أنقى الشخصيات وأجملها ، فلقد جمعتنا صداقة برغم فارق الشهرة والعمر، وانتبهت إلى أن كثيرين سيقولون أنهم كانوا أصدقاء له.
فالحقيقة أنه لم يكن له أعداء، فقد كان يجيد التعامل مع الجميع ، فاكتسب حبا و احتراما ظلا ملازمين له طوال حياته، ولكنى كنت أكن له محبة خاصة و أناديه (خالى) لأن الخال والد.
ولأن لقب (عم) كان محجوزا لفرد آخر من العائلة هو الكاتب الكبير (عبد الرحمن شوقى) الذى كان يناديه الجميع (عمنا)، و لكن (صلاح السعدني) أكتسب ألقابا متعددة منها (السعدناوى، والكنباوى، والعمدة )
في بداية الستينات، و مع ظهور جيل جديد من الفنانين تحت عباءة مسرح التليفزيون الذى ضم 10 فرق مسرحية ، كان (صلاح السعدني) القادم من المسرح الجامعى يطرح نفسه (كوميديان) مع زميله (عادل إمام) وصديقه ( سعيد صالح ).
وصار الثلاثة لا يفترقون وهم يبحثون عن فرصة تظهر مواهبهم، وتضعهم في مصاف النجوم التي صنعها هذا المسرح من الجيل السابق عليهم، مثل فؤاد المهندس و محمد عوض و عبد المنعم مدبولي.
و خلال فترة قصيرة لمع عادل إمام في دور (دسوقى أفندى) و بعده سعيد صالح من خلال (أستك منه فيه)، أما (صلاح السعدني)، فكان تألقه من خلال التليفزيون وبالتحديد في مسلسل (الساقية) الذى أخرجه المخرج الكبير نور الدمرداش.
برغم أن الدور الذى لعبه (صلاح السعدني) كان دور تابع أخرس لعمدة القرية وكبيرها، و لكنه استطاع ببراعة شديدة نقل كافة المشاعر بوجهه ودون كلمات، مما لفت إليه الأنظار بقوة كممثل من النوع الثقيل وليس مجرد مضحكاتى.
تعرض (صلاح السعدنى) للتضييق
وفي بداية السبعينات وبالتحديد في عصر السادات، تعرض (صلاح السعدنى) لتضييق شديد بسبب سجن شقيقه الكاتب الكبير (محمود السعدني) في قضية (مراكز القوى) ليصبح هو رب العائلة والمسئول عنها.
ولكنه في نفس الوقت كان مسئولا وبشكل معنوى عن جيل جديد كان يعشقه لتواضعه ومساعدته لكل المواهب، وهكذا التف حوله الجيل الذى يليه مثل (محمد متولى وشوقى شامخ وعهدى صادق)، وأطلقوا عليه لقب (السعدناوي) تفرقة له عن أخيه الأكبر الذى كانت شهرته (حرا ومسجونا) تطغى على الجميع.
ولأنه العاقل الرشيد الذى يستطيع مداواة المشاكل أسند إليه الكاتب والمنتج الكبير (سمير خفاجي) إدارة (فرقة المتحدين) أثناء تقديمها (مدرسة المشاغبين) وذات يوم تعرض عادل إمام لوعكة صحية دخل على اثرها المستشفى ليجرى عملية المرارة، فحل (صلاح السعدنى) محله في العرض ليلعب دور بهجت الأباصيرى.
ولكنه لم يجتهد في الدور وإنما اجتهد مع صديقه سعيد صالح في ابراز موهبة جديدة هى (يونس شلبي) الذى كان دوره أصغر بكثير جدا مما نراه في تسجيل المسرحية وعاد عادل إمام ليجد دوره كما هو، و نجم جديد بجواره في المسرحية.
ومن خلال التليفزيون زاد تألق (السعدناوى)، خاصة أنه كان يملك مواهب متعددة، فهو سريع الحفظ، متدفق المشاعر، لا يثير المشاكل، عنوان حياته البساطة، فقد كان سهلا لينا محبا للبشر.
و لهذا اشتهر كمنقذ للمواقف، كم من مرة استعان به المخرجون لإنقاذ الأعمال ولعل أشهرها عندما أصر المخرج نور الدمرداش على تغيير الفنان (أحمد زكي) بسبب تأخره على موعد التصوير، و لجأ إلى (صلاح السعدنى) الذى حضر من السفر إلى الاستوديو!
كما استعان به (سمير خفاجي) لإنقاذ الموقف في أوائل الثمانينات بعد اعتذار (يونس شلبي) عن مسرحية زقاق المدق قبل افتتاحها بأيام قلائل، و يتم افتتاح المسرحية في موعدها ليبدع فيها (صلاح السعدنى) أمام (معالى زايد، سيد زيان، عبد الله فرغلى، على الشريف)، ومن إخراج حسن عبد السلام عن رؤية جديدة لبهجت قمر.
وفي نفس الفترة أصيب (صلاح السعدنى) بالديسك ونصحه الطبيب بالنوم على ظهره، و يبدو أنه أعجبته الراحة، و رويدا رويدا على مر السنين صار لا يغادر البيت إلا للعمل فقط.
اللقب الأشهر هو العمدة
وصنع لنفسه مملكة صغيرة داخل بيته: غرفة فيها كنبة طويلة تتسع له نائما، وبجوارها منضدة تتسع لكل احتياجاته بحيث لا يتحرك لتناولها، وفي مواجهتها مكتبة كبيرة تزخر بكتب شتى من التراث الى التاريخ الى الأدب الى السياسة ، فهو قارئ ومثقف وسياسي من الطراز الأول.
وبجوار الباب حائط كبير يستخدمه كشاشة عرض من خلال جهاز بروجكتر، وصار يستقبل أصدقاءه ومريديه في تلك الغرفة مستلقيا على الكنبة، فكتب عنه الكاتب والمؤلف الكبير (يوسف معاطي) مقالا من أجمل ما كتب تحت اسم (الكنباوى) نسبة إلى الكنبة التي لايغادرها.
أما اللقب الأشهر وهو العمدة فهو شهادة نجاح وتفوق ووثيقة محبة من الجمهور الذى عشقه في (ليالى الحلمية)، وهو الدور الذى وصل إلى (صلاح السعدنى) بعد اعتذار صديقه (سعيد صالح) فصنع منه (صلاح السعدنى) أيقونة من أيقونات الدراما التليفزيونية محفورة في ذاكرة الأجيال وقلوبها وعقولها.
ودرسا في تنوع الأداء تبعا للحالة العمرية للشخصية، و كان المسلسل مباراة للتمثيل بينه وبين الفنان الكبير يحيى الفخرانى، الذى قدم أول أدواره الهامة – كوجه جديد – على المسرح في مسرحية (حب وفركشة) من تأليف صلاح جاهين وإخراج كرم مطاوع ومن بطولة (صلاح السعدنى).
وهكذا كان (صلاح السعدنى) شخص بلا أحقاد، لا يملك ضغينة لأحد، مبتسم دائما، محب للحياة، لا تملك إلا أن تعشقه فهو شخص متواضع وحكاء بارع، إذا تحدث صمت الجميع وانتبهوا لما يقول.
ويبدو أنها موهبة تتوارثها العائلة السعدنية، ولم يكن يؤرق (صلاح السعدنى) سوى السفر بالطائرة، حتى أنه عندما دعاه (مهرجان دمشق المسرحى)، قضى ثلاثة أيام مسافرا إلى دمشق بالسيارة عابرا إلى الأردن ومنها الى سوريا تجنبا لركوب الطائرة.
رحم الله (صلاح السعدنى) وأثابه على ما قدم من أعمال ستظل راسخة في وجداننا.