كتب: محمد حبوشة
ظني أن مسلسل (بدون سابق إنذار) يعد واحدا من من الأعمال الناجحة، التى قدمت فى النصف الثانى من شهر رمضان، ليس فقط لحساسية الموضوع الذى يتطرق له والذى ربما ليس جديدا تماما.
لكن لطريقة معالجته التى بدت تحترم عقلية المشاهد، وتفتح عليه كل الاحتمالات وحتى المفاجآت، بحيث تنتهى كل حلقة بحدث مهم يستدعى من المشاهد انتظار الحلقة المقبلة.
الجميل فى (بدون سابق إنذار)، أنه مكتوب بطريقة مكثفة، اختصرت مراحل كثيرة من التفاصيل كان وجودها سيعتبر نوعا من الإطالة والتطويل، والأجمل أنه يحمل نوعا من الشراكة الجديدة على صعيد تأليف النص وكتابته وإنتاجه.
ومن هنا يبدو لي أن مسلسل (بدون سابق إنذار) يشكل تكاملا واضحا بين النص والصورة التي تعكس التقديم الدرامي التلفزيوني له، فمعالجة القصة قد كشفت عن جملة من الأدوات التي تشكل نقاط قوة للعمل عززها أداء الممثلين وتموضعهم الدقيق مع كل حدث أو بعد أداء كل حركة.
قصة مسلسل (بدون سابق إنذار) التي عالجتها وكتبتها (ألمى كفارنة)، لا تقف عن قصة (مروان/ آسر ياسين)، و(ليلى/ عائشة بن أحمد) التي تظهر شرخا بين زوجين أنهكهما الروتين اليومي وسوء التنسيق في بناء حياة يومية أسرية.
ولا تنتهي عند اصابة عمر (ابنهما) بالسرطان واكتشافهما أنه ليس ولدهما بل البداية تأتي من هنا، من الصدمات المتتالية التي تكشف النقاب عن قوة النص وصفاء الصورة عبر مرآة هي الشخصيّات.
وذلك بدءا من الحوارات التي يكاد المشاهد ينسى تواجدها في (بدون سابق إنذار) من شدة التكثيف والإيجاز فيها، بالإضافة إلى النمط المباشر فيها والذي يعكس مدى التناوب بين الصورة والصوت من خلال الملامح ودورها الدلالي الذي يحرّض المشاهد/ المتلقي على رسم الشخصية.
(آسر ياسين).. شخصية واقعية
فمروان (آسر ياسين) يظهر بنمطه الانفعالي شخصية واقعية ترفض تكاثر الطرق للوصول إلى (الخبر/ الحدث/ أو أداء الحركة)، تقابلها ليلى الأم والزوجة والمرأة العاملة التي تطلب حريتها وتتسلح بالعاطفة للتعبير عن قوّتها الأنثوية.
هاتان الشخصيتان القويتان باختلافهما شكلتا ثنائية ضدية أعطت إيقاعا تلفزيونيا أقرب إلى المسرحي، أولا: من خلال التقديم الهادىء الخفيف للانفعالات والحوارات وثانيا عبر افساح المجال أمام شخصيات أخرى مثل الأم (نهال عنبر) التي أبرزت تفوقها مع النّص.
وقد بدا ذلك عبر إخراج المرأة (الحماة) من صورتها النمطية العاشقة للمشاكل نحو الحماة الحكيمة في قالب الأم الجامعة للشخصيات المرهقة التي يعد حسن (أحمد خالد صالح) وزوجته (جهاد حسام الدين)، صورة أكثر التصاقا بواقع الـ portrait الزوجي وسط الأحوال الاقتصاديّة والأعباء الاجتماعية المتراكمة.
فشخصية (حسن) القيادية المتوترة الرافضة للرأي الآخر في (بدون سابق إنذار) عبرت بملامحها ولغة العينين تحديدا عن ذروة مشاعرها مع الاستغناء عن الصوت كأداة خضعت لايقاع الحوارات البعيدة عن الصخب القريبة من التعبير وافساح المجال للحركة.
ولقد كان لعماد (إسلام حافظ ) المحامي العاشق للمغامرات في الخفاء دورا في إخراجه من قالب الشخصية المساعدة نحو الشخصية المستكشفة التي تتحرك وفقا لتغير الاحداث وليس لمزاج أو سلطة ابن عمه (مروان).
يأتي الحوار في (بدون سابق إنذار) على صعيد المضمون محملا بالدلالات والرسائل تحت عنوان (الصورة والصورة البديلة) من خلال حوارية (مروان) مع (عمر) التي كرست الإنسانية، رغم الأول أنه ليس أب الأخير.
بدءا من كسر الصورة التقليدية حول الخوف وربط (آسر ياسين) بانفعاله الأبوي عبر الحضور الإنساني بالمشاعر وتحديدا الخوف، فضلا عن أن الحوارية بينهما والتي أتت في المستشفى المكان الذي يعد بشكل لاواع مبتدءا للعلاجات.
والذي أتى منسجما مع الرسائل (العلاجية) حول كيفية التعامل مع الطفل والتعامل بين الزوجين المتباعدين وسط هكذا أزمة، ليكون الحوار عبارة سلة جامعة لشخصيّات أحسنت في التكيف مع النص، وانسجمت معه وقدمت نفسها على أنها أفكار وسلوكيات حياتية.
ورغم توزع المشاهد بين (خارجي وداخلي ) في (بدون سابق إنذار)، إلا أن تلك المليئة بالحركة رسمت نفسها كصورة قائمة بحد ذاتها، الأمر الذي دفع بالمشاهد نحو التركيز على الحركة والحدث بدلًا من التركيز على طبيعة الأماكن، وهو ما يتطلّبه النّص.
تركيز الكاميرا على الوجوه
لكن الدور الإخراجي هنا ظهر من خلال تركيز الكاميرا على الملامح والوجوه وهو امتياز آخر منحه المخرج للمشاهد كي يبدأ بصياغة تصوراته للنص، خاصة وأن كل حلقة تنتهي مع مفاجأة أو خبر أو صدمة تهدم كل ما بدأ المشاهد بناءه.
فضلا عن ذلك فإن طبيعة الإضاءة المعتمدة تأتي منسجمة تماما مع ما سيقدمه النص، فتجسيد علاقة (مروان وليلى) الباهتة والباردة في طبيعتها الصدامية، أتى في أغلب الأحياء تحت إضاءة باهتة وفي أماكن محكمة الإغلاق.
أي بمعزل عن وجود شخصيات شاهدة على الخلافات تحديدا في المستشفى بؤرة التوترات بحكم مرض (ابنيهما).
هذه المساحة أتت لتثبت العلاقة المترابطة ما بين النص والصورة في (بدون سابق إنذار)، في المقابل أتت مشاهد (حسن) شقيق (مروان) اللصيقة بشخصيته اللاواعية في الأماكن العامة أو الأماكن المغلقة جزئيا.
حيث تتواجد شخصيات أخرى كالأم والعمال وصديقة (ليلى/ نورا شعيع) التي قدمت أداء سلسلا بعيد عن الانفعال، ما أعطى الشخصية صورة أخرى متمثلة بالرغبة في التملص من مواجهة المشاكل والعواقب بنفسه.
فرضت الصورة في (بدون سابق إنذار) حصرا للصوت بالحدث وأبطاله، وهى عملية تنقية للمشهد تعطي فرصة أخرى لفهم النص والتركيز على الألغاز المتكاثرة، ما شكل استجابة اخرى للترابط بين الكلمة والأداء.
ولعل ما يميز (بدون سابق إنذار) أن كل هذا يجري بإيقاع سلس دون تكلف أو مبالغة، وأداء متزن من الأبطال، والأهم هو وجود حوار عميق وواقعي وكتابة ذكية وحساسة تعرف كيف تطرح قضايا صعبة ومؤلمة دون اللجوء إلى الميلودراما.
يحسب للمخرج (هانى خليفة)، الذي قدم من قبل العديد من الأعمال السينمائية والدرامية المهمة، كفيلم (سهر الليالى)، ومسلسل (ليالى أوجينى) عام 2018، ومؤخرا فيلم (رحلة 404)، لافتا إلى أنه عرف بطريقته المميزة فى الإخراج وبإيقاعه الفنى المحسوب على المسطرة، بحيث يشد انتباه الجمهور بكل ذكاء.
ويأتى مسلسل (بدون سابق إنذار) للمخرج المبدع هانى خليفة، دراما إنسانية راقية محكمة الحبكة، تغرد فى فضاء بعيد، عميق الأفكار والمشاعر، يحرض على النقاش وإعادة النظر فى أمور من البديهيات والمسلمات.
(عائشة بن أحمد).. أداء مختلف
وأخيرا يعد (بدون سابق انذار) وجبة واقعية يلتهمها المشاهد على مهل كي يبحث عن نفسه داخل كل شخصية، هو نص النفس البشرية المضطربة المحفوف سلوكها بظواهر نفسية اجتماعيّة تقوم بإعادة تدوير نفسها بنفسها بفعل اللاتغيير القائم.
إذن هو إطار واقعي شكلت مرآة لنص مفخخ بالمفاجآت سواء على صعيد العناصر أو الأداء المركزمن جانب (آسر ياسين وعائشة بن أحمد)، فقد برع الأول في دوره على نحو احترافي، بينما بدت الثانية بشكل مختلف عن كل أعمالها السابقة.
آسر ياسين في (بدون سابق إنذار) يبدو مستقر فنيا ونجح فى العبور من مرحلة الخطر، وهو فنان محبوب للغاية لدى الجمهور الذى أصبح ينتظر كل عمل يقدمه لأنه يتمتع بذكاء شديد فى اختيار موضوعاته وأصبح بينه وبين الجمهور كيمياء كبيرة.
أما (عائشة بن أحمد) فهى الفنانة التونسية (عائشة بن أحمد) التي عرفها الجمهور بوجهها الملائكي الجميل الأبيض، فقد جاءت في (بدون سابق إنذار) بشكل مختلف عن ما ظهرت في العديد من الأعمال الفنية المصرية
وتميزت خلال السباق الرمضاني 2024 من خلال شخصية (ليلى)، التي قدمتها ضمن أحداث مسلسل (بدون سابق إنذار)، فلم تقف اللهجة المصرية عائقا أمامها بل تعلمتها بشكل كبير، كما انعكس ذلك في شكل أدائها الذي بدا وكأنها تمثل لأول مرة.
ومن النجوم الذين أحسنوا (أحمد خالد صالح) وذلك في استغلال المساحة الكبيرة والحساسة التي منحها له المخرج (هاني خليفة)، وقدم شخصية (حسن)، ربما لا تتفق معها لكنك لا تملك أن تكرهه، لأن لديه من المنطق والماضي ما يمنحه مبررا للطريقة التي يرى بها العالم.
ولم يختلف أحد على براعة الطفل (سليم يوسف) الذي يلعب دور ابن البطلين الرئيسيين، والمصاب بالسرطان والذي يعاني جسديا ونفسيا، خاصة حين يكتشف أن والديه على وشك الانفصال.
والمثير للاهتمام أن هذا الدور هو الأول في مسيرة الطفل، ومع ذلك فقد أجاد التعبير عن مشاعره المعقدة ربما أفضل من نجوم كبار آخرين لديهم سنوات خبرة فارقة في التجسيد الدرامي.
ولابد لي من تحية تقدير واحترام للمنتج السوري (محمد مشيش)، صاحب الأعمال الاجتماعية الفارقة في الدراما المصرية طوال السنوات العشر الأخيرة، حيث تصدى لكثير من هموم وآلام الإنسان المصري المعاصر في صناعته الدرامية فائقة الجودة.