بقلم: محمد شعير
الظلم في كل الأزمان قاسٍ، وفي أوقات المحن قد تضطرب الرؤى وتغيم الصور، فيضل الشرف طريقه ليكلل رأس من لا يستحق، بينما يلاحق العار أبناء الوطن المخلصين، كما في مسلسل (تاج)، عندئذ؛ تتداخل الأوراق وتتضارب الأفكار، ولا يعرف الناس بحق مَن الوطني ومَن الخائن!.
(تاج) مسلسل سوري تاريخي مهم، بإنتاج ضخم، أذيع في شهر رمضان المبارك، بطولة النجمين (تيم حسن وبسام كوسا)، اللذين مثلا – بشخصيتي (تاج الحمال) و(رياض بك) قطبي الصراع بين الوطنية والخيانة، في زمن الاحتلال الفرنسي لسوريا.
القصة التي كتبها (عمر أبو سعدة) تدور أحداثها خلال العام 1945، حول الملاكم (تاج) الذي يقوم بتدريب الجنود الفرنسيين على الملاكمة، للتمويه والتغطية على اشتراكه في منظمة سرية لتنفيذ عمليات ضد الوجود الفرنسي في سوريا.
وكان آخر هذه العمليات محاولة اغتيال القائد العسكري الدموي (الجنرال جول)، الذي أدى دوره ببراعة الفنان اللبناني (جوزيف بو نصار)، لكن المحاولة فشلت.
ليبدأ تكثيف البحث عن أفراد المنظمة، حتى تم اقتحام مخزن الأسلحة الخاص بهم وتفجيره، وقتل كل أعضائها، ما عدا (تاج).. لماذا؟!
كان الرجل يومها قد تم إلقاء القبض عليه ظهرًا، بعد أن افتعل مشاجرة في (الترامواي) لحماية (عامر) صديق عمره وزميله في المنظمة الذي كان يحمل سلاحًا وقت صعود إحدى الدوريات للتفتيش.
وفي المساء تم اكتشاف مخزن الأسلحة واستشهاد (عامر)، وباقي أفراد المجموعة، فدارت الشكوك حول (تاج)، الذي ربما يكون قد خضع للتعذيب فأدلى بمعلومات حول المنظمة.
أو ربما افتعل أمر المشاجرة برمته بالتنسيق مع الفرنسيين ليتم إلقاء القبض عليه ويختفي عن الأنظار، ريثما يتم استهداف الثوار، أليس الفرنسيون أصدقاءه الذين يدربهم على الملاكمة؟!
(تاج) العميل الخائن
السؤال الأخير، طرحه على الناس (رياض بك)، الذي أبدع في أداء شخصيته كالعادة الفنان الكبير (بسام كوسا)، وعزز السؤال التشكيكي بكذبة خطيرة ثرثر بها أمام الناس حتى صارت واقعا يتناقلونه، مفاده: أن (تاج) شوهد أكثر من مرة وهو يدخل ويخرج من معسكرات الفرنسيين!
الآن أصبح (تاج) في نظر الناس هو الخائن العميل، أو على أقل تقدير فهو صديق الفرنسيين، وهو لا يستطيع أن يرد أو يقول ماذا فعل للبلد وكيف خاطر بروحه مرات ومرات دون أن يعرفه أحد.
والآن – أيضًا – صار (رياض بك) هو الرجل الوطني الذي لا يبخل بماله على طلاب الجامعات لتنظيم المظاهرات، وعلى رجال المقاومة لتنفيذ العمليات.
وإن كان يرسل بعدها عيونه في الظلام لتتابعهم وتعرف أسرارهم، فكان هو من أبلغ الفرنسيين عن مقر مخزن الأسلحة الذي استشهد فيه أغلى الرجال!.
المطربة (فايا يونان)، جاء أداؤها دور (نوران) بسلاسة وبساطة، كأنها اعتادت التمثيل منذ الصغر، برغم أنها تمثل لأول مرة في المسلسل.
(نوران) هى زوجة (تاج) وحبيبته وأم ابنته (سلمى)، لكن اضطراب حياته بعد اتهامه بالعمالة ولجوءه إلى القمار أفسدا حياة الأسرة الصغيرة الجميلة، فوقع الطلاق.
ليضغط بعدها غريمه (رياض بك) على والدها ويتزوجها، دون أن تعرف حقيقته، ودون أن تعرف أيضا حقيقة نضال زوجها السابق، حبيبها (تاج)!
وهكذا يبدو الصراع كله وكأنه يدور حول (نوران)، حول الوطن؛ سوريا، منبع (النور)، وحول الطفلة الصغيرة (سلمى) المستقبل، وحلم العيش بـ (سلام).
(تاج) يتحمل كل هذا الظلم
يصبر (تاج) ويتحمل كل هذا الظلم، والاتهام في الشرف، ويعود من جديد إلى النضال في السر، ويبدأ تنفيذ العمليات ضد الفرنسيين بصحبة صديقه الصحفي (سليم) الفنان (كفاح الخوص).
حتى يُكتشف أمره ويُسجن ثم يهرب، يتعثر ويسقط ثم يرجع، والأهم هو أن كل من اتهموه في شرفه يعرفون أخيرًا حقيقته، ويرفعونه (تاج) فوق الرؤوس.
وتعود إليه (نوران) لتبكي في حضنه داخل قبو السينما الذي اختبأ فيه، لتسأله بدموعها، وفي الخلفية (أفيش) فيلم (الوردة البيضاء)، للفنان الكبير محمد عبدالوهاب: (ليش ما قلت؟!).
ولكن كيف يقول؟!، إنها أمورٌ لا تقال، النضال الحقيقي مرتبط دوما بالتضحية في السر دون إعلان، بدفع الأثمان في الظلام وليس أمام العدسات، لكن الظلام هنا قرين الشرف.
وليس كمثيله الذي يحيا فيه (رياض)، والذي بدأت (نوران) في اكتشافه أيضا، لتُظهر الكاميرا خلفها هذه المرة صورة (أفيش) فيلم آخر للفنان الكبير أنور وجدي، اسمه (حياة الظلام)!
أبدع المخرج (سامر البرقاوي) في تقديم صورة (الشام القديمة)؛ دمشق، في أربعينيات القرن الماضي، حتى بدا كأن روائح سوق الحميدية وساحة المرجة تكاد تفوح من الصورة.
كما قدم عبر الكادر التليفزيوني من التفاصيل الصغيرة ما يكشف النظرة لكل شخصية، ففي اللقاءات السرية بين الجنرال الفرنسي (جول) والعميل الخائن لوطنه (رياض) داخل محل للأحذية.
كان يظهر في فاترينة العرض في الخلفية صورة حذائين يستند أحدهما فوق الآخر، في إشارة إلى الشخصيتين معًا!
عبرت الإضاءة الباهتة في الخلوة
كما عبرت الإضاءة الباهتة في الخلوة التي يجلس فيها (رياض) دوما في منزله عن طبيعة الشخصية المراوغة، بينما كان ضوء الشمس الكثيف الداخل من النافذة كفيلا بحجب وجه الخائن من منظور رؤية (نوران)، الزوجة؛ البلد الحائرة.
ومع تصاعد المواجهة، بين الثوار الوطنيين والمحتلين الفرنسيين المدعومين بالخونة والعملاء الباحثين عن المصلحة الفردية، قدم صناع العمل حلقات تاريخية حول وقائع قصف دمشق بالمدافع والطائرات.
ومذبحة اقتحام مقر البرلمان السوري يوم 29 مايو عام 1945 واستشهاد عدد كبير من قوات الدرك التي رفضت الانسحاب أمام الفرنسيين.
ثم عملية قيام الثوار بتفجير (ترامواي) دمشق في قوات الجيش الفرنسي، بإنتاج ضخم وتصميم متقن للمعارك، على وقع موسيقى (آري جان)، التي عبرت عن كل مشهد بما يناسبه، سواء في لحظات المواجهة الحاسمة أو مشاهد الحب الحالمة أو مواقف تشييع الشهداء الخالدة.
وفي الختام؛ في الحلقة الأخيرة، يمضي الزمن بعد حصول سوريا على الاستقلال، لنصل إلى لحظة 67؛ لحظة الهزيمة وضياع الجولان.
ليذهب بعدها الصحفي (سليم) إلى رفيق عمره (تاج) في نادي الملاكمة معقل المناضلين في السابق، ليخبره – وقد صارا شيخين طاعنين في السن- بأنه سيكتب قصة كفاحهما مع الثوار ضد الاحتلال.
لكن (تاج) يفاجأه بالرد: (مين قال لك إن الناس بدها تسمع هالقصص؟!.. الناس ما بدها تعرف!).
(تاج) يصعد إلى حلبة الملاكمة
وبعدها؛ يصعد (تاج) إلى حلبة الملاكمة بمفرده، ليبدو كما لو كان يلاكم الهواء، أو الناس خلف الشاشات، أو ربما الحلبة ذاتها، ويرفع يديه في النهاية معلنا الانتصار، لكنه يولي ظهره للجميع، كما ظهر في الكادر التليفزيوني، في مشهد واضح الدلالة!
كل التحية لصناع هذا العمل الكبير، الذي لا أشك في أنه سوف يظل يحظى بمشاهدة عالية في ربوع الوطن العربي بأكمله، لا سيما من جانب المشاهد المصري بعد الانشغال بوجبة الدراما الرمضانية المصرية الدسمة خلال الشهر الكريم.
التحية للمخرج (سامر البرقاوي)، والكاتب (عمر أبو سعدة)، والنجوم (تيم حسن، وبسام كوسا، وجوزيف بو نصار، وفايا يونان، ونورا رحال، وكفاح الخوص، وموفق الأحمد، وسوسن أبو عفار، وفرج الدبيات، ونوار سعدالدين..
وإيهاب شعبان، وآندريه سكاف، وباسل حيدر، وناتاشا شوفاني، ودوجانا عيسى، ولوريس قزق، وغسان عزب، وفواز سرور، وأميرة خطاب، ومحمد مراد).
وللفنانة الكبيرة (منى واصف) التي تعرف بـ (سنديانة الشاشة)، كما وصفها (تتر) المسلسل، الشارة، والتي ظهرت في ثلاثة مشاهد فقط كأم أحد الشهداء، فأسالت الدموع وأثارت الشجون.
وأخيرا: بعد مشاهدة هذا العمل التاريخي الكبير، فإن ما يبقى هو السؤال: إن كنا جميعا في منطقتنا هذه قد دفعنا كل هذه الأثمان في مواجهة المحتل حتى حصلنا على الاستقلال، أما كان يجب أن نصبح الآن في موقع آخر على خرائط العالم المتقدم؟!
أما مِن مراجعة واجبة لمواقعنا الآن؟!.. ماذا فعلنا بأنفسنا بعد أن أدركنا حريتنا؟!.. أين كنا وأين صرنا؟!.. أم أن صراع الوطنيين والخونة سيظل دوما كقدر محتوم وصراع ممتد؟!
الأسئلة حتمية واجبة، حتى لاتضطرب الرؤى وتغيم الصور، فيضل الشرف طريقه ليكلل رأس من لايستحق، بينما يلاحق العار أبناء الوطن المخلصين؟!